لعل أكثر ما كان غائبًا عن سورية، طوال العقد الفائت، هو السياسة، على الرغم من تشكّل العديد من القوى، ومن كثرة الضجيج والصخب اللذين كانا يصدران عنها باستمرار. وكان العامل الحاسم في غياب السياسة هو “النظام السوري” الذي اشتغل، منذ البدايات، وفق معادلة “إما قاتل أو مقتول”، طاردًا أي احتمال لوجود حلول سياسية أو تسووية، ما جرّ القوى والشخصيات “المعارضة” و”الثورية” معظمها إلى انتحال الخطاب ذاته، من دون التفكير بخطورته على المجتمع، وعلى علاقة القوى المختلفة ببعضها بعضًا.
عبّرت مقولة “الانحياز للثورة السورية” عن نفسها بطريقة الإزاحة، أي تبجيل الثورة وطرد السياسة، وسيطرت رؤية ضمنية على المزاج العام تتكثف باحتقار السياسة، ومن خلفها الفكر، لمصلحة الإعلاء من شأن الثورة، في تنكرٍ غريبٍ لعلاقة الثورة بالسياسة، أو للفائدة التي يمكن أن تقدِّمها السياسة للثورة أو لحاجة الثورة إلى السياسة أو التنكر لحقيقة عدم قدرة أي ثورة على تحقيق أهدافها من دون أن تلازمها سياسة عقلانية. لا تعني ممارسة السياسة تقديم التنازلات المجانية، بل تعني قراءة الواقع وتغيراته، واستكشاف المسارات الأفضل لتحقيق الأهداف بأقل التكاليف، أو تعني، على أقل تقدير، معرفة التوقيت الملائم لتقديم التنازلات الاضطرارية، شريطة ألّا تكون بلا ثمن. للأسف، عندما فكر الائتلاف الوطني في أن يمارس السياسة، مؤخرًا، اختار اللحظة غير الملائمة، وتناول الموضوع غير الملائم، أي “الانتخابات”.
ضمرت السياسة إذًا في ظل سيطرة خطاب يُسمِّي نفسه ثوريًا، وأصبح خطاب القسم الأكبر من “المعارضة” انعكاسًا مباشرًا لهذا الخطاب “الثوري”، وكانت العدّة السياسية المستخدمة للتعبير عنه هزيلة، لدى معظم الذين بنوا علاقات إقليمية ودولية أو الذين ظهروا في الإعلام، وتكاد تقتصر على بضع جمل؛ شتم النظام السوري وتوصيفه بالمجرم، محاولة استنهاض همم الدول لدعم الثورة بالمال والسلاح والمواقف السياسية، وأخيرًا الترحّم على الشهداء والدعاء للجرحى بالشفاء، مع ما يتخلل ذلك كله من صراخ وعويل وندب. في الحقيقة، لا يريد المريض المتألِّم من طبيبه أن يجلس إلى جانبه ويندب، بل يريد منه أن يعالجه ويختار له الدواء الملائم حتى لو تسبب بألمه.
أصبحت الشعبوية سائدة ومسيطرة في الفضاء السوري العام، وتجلت باعتماد خطابٍ يمكن له أن ينال الإعجاب أو التصفيق الشعبي، إما بحكم نية قصدية مسبقة أو ربما لأن كثيرًا من “ممثلي” الشعب السوري لا يمتلكون زوادة فكرية سياسية تزيد على ما هو سائد في الوعي العام. مع الشعبوية، لا مكان للتحليل السياسي، ولا لقراءة الواقع، ولا لاستكشاف مسار الثورة، ولا لبناء علاقات إقليمية دولية عقلانية استنادًا إلى المصلحة الوطنية السورية، ما جعل الباب مفتوحًا، على الدوام، لسائر أشكال المزاودات، وللتنافس الفردي على بناء علاقات إقليمية ودولية خاصة أو على الظهور الإعلامي أو فتح الخطوط الخاصة بعيدًا عن المؤسسات “التمثيلية”.
مارس بعض الذين اندرجوا في مؤسسات المعارضة، بخاصة “الائتلاف الوطني”، السياسةَ بوصفها “فن الكولسة” وحياكة المؤامرات ضد منافسيهم، أو بوصفها طريقة عملٍ أقرب إلى رمي النرد، وأحيانًا بوصفها فن الانضواء المطواع تحت جناحي راعٍ إقليمي أو دولي، وأحيانًا بوصفها تعادل الاستغراق في التكتيكات، تلك التي لا تقدِّم ولا تؤخر، خصوصًا عندما تغيب الرؤية الاستراتيجية العامة. لم يقدِّم الائتلاف، طوال ولايته، أي قراءة سياسية للواقع ومساراته، ولا صارح السوريين في أي محطة بسياسات الدول التي خالطها، ولا قدَّم لهم كشفًا سياسيًا بكواليس السياسات الإقليمية والدولية التي دخل فيها، ولم يقدِّم أي مراجعة نقدية رسمية لتجربته، وصرف وقته كله في الكواليس وتوزيع المواقع والمناصب، وفي انتخابات طفولية لا معنى لها، وفي لملمة نفسه في كل مرة يخرج فيها أعضاء منه أو يدخل إليه أعضاء جدد استنادًا إلى معايير فارغة أحيانًا، ومدمِّرة أحيانًا أخرى.
في المستوى السياسي، سار “الائتلاف الوطني” وفق إيقاعات الدول، متخليًا عن مهمته في بناء علاقات إيجابية بالسوريين أولًا. قبل الائتلاف، وضع “المجلس الوطني” نصب عينيه القيام بمهمة وحيدة أعلنها لنفسه؛ جلب التدخل العسكري، ولم يضع أي مهمات أخرى. وكذلك كان “الائتلاف الوطني”؛ ائتلاف المهمة الواحدة: الحصول على السلاح النوعي. تشكيلان سياسيان كبيران وضعا مهمتين مستحيلتين على جدول أعمالهما، فيما لم يبذلا أي جهدٍ جادٍّ على صعيد المهمات أو الخطط الأخرى. هناك حكمة قديمة تقول: لا تضع البيض كلَّه في سلة واحدة!
ومنذ سنوات، ارتضى “الائتلاف الوطني” لنفسه السير وفق الإيقاع التركي الذي كان مرغمًا هو الآخر على التناغم مع الإيقاعين الروسي والإيراني. كذلك، لم يمانع الائتلاف أن يتصرف بعض أعضائه بصورة فردية على المستوى السياسي؛ بعضهم شكَّل منصاتٍ سياسية تجاوبًا مع مصالح إقليمية ودولية، وبعضهم سار في ركب جولات الأستانا وسوتشي، معتقدًا أنه يمارس سياسة ذكية، فيما هي سياسة هزيلة وتافهة لا تدرك الاستراتيجيات من جهة، وتفتقر للحد الأدنى من الكرامة من جهة ثانية. لكن أسوأ ما حصل للائتلاف الوطني اصطباغه بنكهة غير سورية، غير وطنية؛ لتصبح له نمطية غير جاذبة للسوريين، كونها لا تتمحور حول الوطنية السورية، فعلاقته بالسوريين الكرد مثلًا أصبحت محكومة، على طول الخط، بالسياسة التركية ومصالحها.
غالبًا ما يجري تناول مشكلة “الائتلاف الوطني” عبر تناول شخصياته التي توصف بأشنع الأوصاف عادة، لكن في اعتقادي هي أبسط مشكلاته؛ فقد امتلك الائتلاف، منذ تأسيسه، كثيرًا من العلل، بدءًا من طريقة تشكيله الاعتباطية، ودور القوى الإقليمية والدولية في تشكيله ورعايته، مرورًا بآليات العمل التي اعتمدها، والمهمات التي وضعها لنفسه، والخطاب السياسي الذي تبناه، وليس انتهاءً بالبنية التنظيمية غير الديمقراطية، وطبيعة القوى والشخصيات المنضوية فيه. المسألة الوحيدة التي يمكن الاستثمار فيها هي اسم “الائتلاف الوطني”، كونه حظي باعتراف جزئي، بجهد الثورة لا بجهد قواه وشخصياته.
يقينًا، إن أغلبية من هم خارج الائتلاف ليسوا أحسن حالًا؛ فمعظم الذين ينتقدونه لا يختلفون عنه خطابًا وأداء؛ نلاحظ مثلًا أن العناصر الأساسية في خطاب وأداء الائتلاف هي ذاتها عناصر خطاب وأداء أكثرية من هم خارجه: الندب والنواح، شعار المناطق المحررة، تبجيل العمل العسكري، مجاملة الفصائل الإسلامية، الاندراج في سياسات الدول، الفوضى التنظيمية، حضور الشعارات وغياب السياسة والاستراتيجيات، التنافس السلبي، التقاسم الإثني والطائفي… إلخ. لذلك، لن تجدي نفعًا محاولة تبرئة الذات، ولا محاولات بناء تشكيل جديد على أنقاض الائتلاف إن لم تتجاوز بيئة وثقافة وممارسة الائتلاف، وفي الحد الأدنى يُفترض الانتباه إلى أن وجود هذا العدد الكبير من “القوى” و”التشكيلات” هو دليل أزمة أكثر مما هو دليل صحة وفاعلية.
في الحقيقة، مرة أخرى، سندفع ثمن أي استسهال أو استعجال في بناء تشكيلات جديدة من دون تفكير وتخطيط؛ لأن عقد أي لقاء سياسي، تحت أي مسمى، لا يشبه الدعوة إلى مهرجان أو حفل. نحتاج إلى المراجعة والتفكير قبل كل شيء؛ فعملية بناء التشكيل الجديد ليست عملية تنظيمية بحت، بل عملية سياسية أساسًا، وقبل أي شيء آخر، وينبغي لها أن تمر عبر بناء رؤى وتوافقات سياسية أولًا، ووضع مسارات واقعية وممكنة للعمل في ضوء قراءتنا للاستراتيجيات المتحكِّمة بالوضع السوري ثانيًا، وإبداع أنماط تنظيمية مغايرة، تتحلى بالمسؤولية وأقرب إلى التواضع، بعيدًا عن أوهام تمثيل الشعب السوري في اللحظة هذه ثالثًا، واختيار الشخصيات والقوى استنادًا إلى معايير عقلانية وواقعية رابعًا، كي لا يكون التشكيل الجديد مجرد “لمة” أو “خلطة” جديدة، لكن من طينة الطراز القديم نفسها، أو مجرد فقاعة نفرح بها بعض الوقت، ثم نلعنها ونتبرأ منها.
*المدن