كثيرة هي الأسئلة التي نسألها نحن السوريين لأنفسنا في كل لحظة، تتنوع وتتكاثر بحسب مواقعنا وأحوالنا اليوم، والمحزن أنها تدريجًا تصبح محلية أو ضيقة، رغمًا عنا، أكثر وأكثر، بل وفردية أكثر وأكثر، وتكاد تغيب الأسئلة الوطنية، العمومية، العامة، الأسئلة التي تجعلنا نشعر أننا ننتمي إلى بعضنا بعضًا أكثر، وإلى دولة ووطن أكثر وأكثر.
تشكل الخسارات الكبيرة التي خسرها كثير من السوريين على الصعد كافة مصدرًا يولِّد كثيرًا من الأسئلة؛ الأسئلة التي كثيرًا ما نجيب عنها إجابات خاطئة من وحي خساراتنا. الخسارات تجعل البشر بلا صبر، وتأخذهم في طريق مقارنة أنفسهم من حيث درجة خسارة أو ربح كلٍّ منهم، ما يعني سيطرة روح سلبية وعدائية في الفضاء العام، تعبِّر عن نفسها واقعيًا بالكراهية المنتشرة والسعي الدائم لتتفيه الآخرين والاستخفاف بهم، والتشكيك في كل شيء، وعدم تمييز النقد من الردح أو التشهير.
في رأيي، إن السياسة لها علاقة أولًا وأخيرًا بالإحساس؛ يقول التعريف التقليدي للسياسة إنها علم وفن إدارة البشر والأشياء. معنى ذلك أنه ينبغي للسياسي أن يتقن علم وفن التعرف إلى الناس، كيف يفكرون، ماذا يعانون، وبماذا يحلمون…إلخ، لكن بالطبع ليس مطلوبًا منه أن يكون شعبويًا يقول ما يريد البشر أن يسمعوه. ينبغي له امتلاك الحس الكافي الذي يسمح له بالمزاوجة بين معرفته بالبشر ومعاناتهم وأهدافهم من جهة، وبين الحقائق الواقعية، والعقلانية، والضرورات، والممكنات من جهة أخرى. الخطاب الذي يسعى لإرضاء الناس قد يجد رصيدًا بينهم، ولكن لمدة مؤقتة، إذ يعود الناس بعد اكتشاف الحقائق واتّضاحها، ليلعنوا أصحاب ذلك الخطاب. كثير من العاملين في الحقل السياسي لا يشعرون، ولا يعرفون إن كان ما يقولونه أو يبادرون إليه ينتمي إلى اللحظة التي يعيشونها أو يتوافق مع الحاجات الفعلية للبلد والبشر، ولا يهتمون إلا بأن يظلوا حاضرين في الساحة على الرغم من كل الحرائق والخرائب من حولهم، تلك التي ساهموا في إنتاجها ولو جزئيًا.
هناك ثلاثة أسئلة رئيسة، وحيوية، ينبغي التوقف عندها مليًّا قبل الشروع في أي عمل ذي طبيعة سياسية أو عامة؛ ثلاثة أسئلة، لكنها تفتح آلاف الأسئلة. هل يفيد الآن طرح الأسئلة من دون إجابات؟ قالوا قديمًا إن وضع الأسئلة الصحيحة هو نصف الحل، وهذا في اعتقادي ما زال صحيحًا، لأن الأسئلة الخاطئة تزيد من ضبابية الرؤية، وتضلِّلنا، وتعمِّق من كارثتنا، وتجعلنا ننشغل في مشكلات زائفة أو وهمية، بدلًا من الانشغال في البحث عن مقاربات جديّة للأسئلة الحقيقية التي تحكمنا. من الذي سيحدِّد الصحيح من الخاطئ؟ هذا سؤال قديم ودائم، ولا يمكن التوصل إلى إجابة شافية له من دون أن ننطلق من البديهيات التي يقدمها لنا الواقع بلا توسّطات رغبوية أو أيديولوجية.
السؤال الأول؛ سؤال الثقة. لا شك أن الثقة اليوم غائبة لدى القطاع الأوسع من السوريين بأي نوع من الأعمال والمبادرات السياسية، ومن لا يرى هذه الحقيقة أعمى. هل يعني هذا إدارة الظهر لكل العمل السياسي والعام؟ بالطبع لا، لكن من المهم قبل الشروع في أي عمل أن نسأل أنفسنا: كيف تمكن استعادة الثقة، أو في الأحرى بناء ثقة حقيقية لدى السوريين، بأي عمل سياسي، بعد كل الفشل خلال السنوات الماضية؟
تنبع أهمية هذا السؤال من كون تجربة عشر سنوات خلت كفيلة بتقييم الخطاب السياسي والموقف السياسي والتحليل السياسي والأداء السياسي والرؤية السياسية للقوى والتشكيلات السياسية المختلفة. هل اتّسم الخطاب السياسي بالعقلانية أم ظل يدور في فلك المظلومية والشتائم والانفعال؟ هل كان الخطاب وطنيًا ويصلح لأن يكون خطابَ رجال دولة أم أنه كان خطابًا ينهل من منطق الحارة والعشيرة والطائفة والأمراض الذاتية والاستعراض والوهم؟ هل كانت قراءة السياسيين والقوى السياسية للعلاقات الإقليمية والدولية صحيحة أم أنها غرقت في الأوهام، ولم تنتج إلا الوهم؟ هل صدقت توقعاتهم بسقوط النظام السوري والسياسات الأميركية والروسية والإيرانية والخليجية أم أن تحليلاتهم كانت خاطئة ومضلِّلة؟ هل كانت مواقفهم السياسية صحيحة ومتوافقة مع الوطنية السورية؟ وهل كانت المواقف التي اندرجت في تأييد الفصائل الإسلامية والعسكرة تخدم الوطنية السورية والمستقبل الذي يشتهيه السوريون؟ هل كانت المواقف مبنية على الاستقلالية أم أن كل مجموعة كانت مرتبطة بدولة ما إلى درجة أن السياسيين السوريين عملوا وفق قانون الأواني المستطرقة، فأخذوا شكل الإناء/الدولة الذي وُضِعوا فيه؟ هل كان هناك ثبات نسبي في الموقف والأداء أم أن “النطوطة” كانت الميزة الأهم للعمل السياسي في معظمه؟
هل هناك من لا يزال يعتقد أن الحريصين على الحرية والكرامة هم أصحاب الصوت العالي الذين مارسوا السياسة جعجعةً وتهويلًا وعويلًا وشحادة؟ هل هناك من يعتقد أن استجداء النظام السوري واستنفار ضميره يمكن أن يقدم شيئًا للسوريين؟ هل هناك من لا يزال يرى أن شتم النظام السوري وشخصياته وحسبهم ونسبهم يمكن أن يقرِّبنا من أهدافنا؟
هل يمكن للعمل السياسي الاعتباطي أن ينتج تشكيلات سياسية قادرة على الاستمرار وأداء مهماتها؟ هل يمكن للاستنكاف عن العمل السياسي المنظم بذريعة أننا في “زمن الثورة”، و”السياسة شيء والثورة شيء آخر”؟ أليس الهدف الرئيس لأي ثورة بناء دولة ونظام سياسي ديمقراطي؟ هل يمكن تحقيق ذلك من دون العمل السياسي؟ كيف يمكن تحقيق الديمقراطية من دون انتظامنا في أحزاب سياسية حقيقية ومنظمات مجتمع مدني فعلية، بعيدًا من التشكيلات الاعتباطية أو كثيرٍ من الشركات التي تسمى زورًا منظمات مجتمع مدني؟
هل هناك من يتوقع أن ينجح أولئك الذين يدعون إلى تشكيلات سياسية جديدة، على الرغم من أن طرائق تفكيرهم وخطابهم وأدواتهم لا تختلف كثيرًا عما هو سائد ضمن الائتلاف الوطني وسائر التشكيلات السياسية؟ هل هناك من يعتقد أن عقد مؤتمر وطني سوري في اللحظة الراهنة ممكن من دون البعثيين والإسلاميين ورجال الأعمال والمثقفين، وغيرهم؟ هناك أسئلة أولية عديدة ينبغي لأي لقاء بين القوى السياسية أو لأي مؤتمر سوري أو مبادرة سياسية الإجابة عنها بأدوات العلم قبل، وفي أثناء، الشروع بأي عمل سياسي تنظيمي؛ العلم السياسي وعلم النفس والدراسة التاريخية، وفي المركز منها يقع سؤال الثقة.
السؤال الثاني؛ هو سؤال المستقبل، عن مصيرنا ودورنا؟ هل هناك إمكان لصناعة الأمل سوريًا أم أن الأمور محكومٌ عليها بالسير من سيء إلى أسوأ؟ هل يمكن لنا أن نكتشف، نحن السوريين، الكلمة السحرية التي يمكن لها أن تحوِّلنا إلى شعب فعلًا أم أن التشظي، سياسةً وولاءً، قد أصبح قانونًا مسيطرًا يحكم مستقبلنا؟ هل هناك طريق سريعة توصلنا إلى ما نحلم به ونشتهيه ونتمناه أم أن الصبر والنفس الطويل والعمل التراكمي هي العناوين التي ينبغي لنا أن نضعها نصب أعيننا ونسترشد بها؟
هل هناك من لا يزال يتوقع أن تنتصر الفصائل الإسلامية على نظام الاستبداد؟ هل هناك من لا يزال يرى أن اختزال حياتنا وأعمالنا إلى سلاح ومعارك، يمكن أن يفيد؟ أو هل هناك من لا يزال يعتقد أنه في حال حدثت معجزة وانتصرت الفصائل، يمكن للمنتصرين المحتملين آنذاك أن يبنوا دولة وطنية ديمقراطية تحتضن السوريين جميعهم؟
هل هناك من لا يزال ينتظر أن تنتج التراكيب أو الكراكيب السياسية، مثل الائتلاف الوطني، وطنًا وجيشًا وطنيًا ودولة ودستورًا وديمقراطيةً ومساواةً في المواطنة؟ هل هناك من يعتقد أن الهيئة العليا للتفاوض واللجنة الدستورية ومسارات سوتشي وأستانا يمكن أن تبيض أملًا ما؟ هل ما زال هناك من يتوهم إمكان بناء دولة أو دويلة أو كانتون أو إمارة إسلامية أو علوية أو درزية أو كردية؟! هل ما زال هناك من يعتقد بإمكان أن تأتي أميركا أو الناتو أو أوروبا أو تركيا أو دول الخليج العربي لإنقاذ السوريين وبناء دولتهم الوطنية المستقلة؟ هل هناك من يعتقد أن الدول من حولنا، أو في العالم، تكترث فعلًا لمأساة السوريين؟
ربما من المهم اليوم استبعاد الأوهام، والاعتراف بالوقائع التي تفقأ العين، قبل الحديث عن المستقبل الذي نريده، لأن هذه الأوهام كانت صخورًا كبيرة أمام كل محاولة للتفكير العقلاني في المستقبل؛ أوهام غذّاها سياسيون، جهلًا أو مكرًا، وأوهام أخرى خلقتها دول وجهات إقليمية، ركبت عليها واستثمرت فيها وفينا.
السؤال الثالث؛ سؤال الحياة الطبيعية. لعل أهم الأسئلة التي ينبغي لنا التفكير فيها هي تلك الأسئلة التي تدور في أذهان الناس العاديين، في مناطق سورية كلها، تلك التي تتمحور حول التوق إلى حياة طبيعية مثل سائر البشر؛ لا شك في أن هناك مواطنًا سوريًا اليوم في دمشق أو حلب أو حمص يسأل عن طريقة ما للاستمرار في الحياة بأبسط مقوماتها، وآخر يسأل عن تاريخ تسريحه من الجيش بعد خدمة النظام عشر سنوات، وغيره يسأل بينه وبين نفسه عن “مكافأته” لقاء تضحيته أو صبره أو وقوفه إلى جانب النظام، يريد أن يعيش فحسب.
مواطن آخر في السويداء يسأل هل ستنتقم أجهزة النظام منا مستقبلًا؟ مواطن غيره في داريا يسأل هل أبدأ بترميم بيتي بما تيسّر لي أم أبحث عن طريقة لمغادرة البلد؟ مواطن سوري كردي يسأل هل سأظل أعيش القلق بين من يتاجر فينا من قوى كردية غير سورية، وبين من يتوعدنا من النظام والمعارضات؟ مواطن في الشمال الغربي يسأل هل نحن في حالة دائمة أم مؤقتة؟ هل سيجتاح النظام السوري وروسيا وإيران مناطقنا؟ هل ندافع عنها؟ لماذا ندافع إن كنا هربنا من تحت الدلف إلى تحت المزراب؟ عن أي شيء ندافع؟
ثمة مواطن سوري، يسأل، بعد الإفراج عنه من أحد المعتقلات الأمنية؛ ماذا أفعل الآن بعد سنوات الاعتقال التي لا يحتملها بشر؟ ماذا أفعل بعد أن خرجت ووجدت منزلي مهدمًا وعائلتي مشردة في بقاع الدنيا؟ هل أستطيع أن أمحو من روحي وجسدي أسواط الإهانات والتعذيب؟ هل يمكن أن أعيش في بلدي أو أن أتعايش رغم أنفي مع كل هذا الظلم وهذه الرداءة؟ هل أسافر؟ هل أستطيع أن أسافر أصلًا؟ وإن سافرت هل هناك حياة أخرى فعلًا يمكن أن تحتضنني؟
وللمهجرين واللاجئين أيضًا أسئلتهم. ثمة لاجئة سورية في أوروبا تسأل هل أذكِّر أولادي بسورية بين الفينة والأخرى كي لا ينسوها أم أخفف عنهم هذا الحمل لأنهم ربما لن يروها ثانية؟ هل أشجعهم على تعلم العربية؟ هل أروي لهم ما حدث في سورية خلال العقد الأخير؟ إذا سألوني بماذا أجيبهم؟
تحتاج هذه الأسئلة إلى أن تكون الشغل الشاغل للمثقفين والسياسيين بدلًا من الاستغراق في ولاءات لا تقدم ولا تؤخر، وفي الاستعراضات والبهلوانيات التي لم تنتج شيئًا، وفي التآمرات والتكتيكات الفارغة التي تأكل أصحابها قبل غيرهم. إحدى مهمات السياسيين والمثقفين، في الحد الأدنى، حتى عندما يكونون عاجزين عن الفعل الواقعي، أن يرسموا طريقًا، أن يضعوا البشر في صورة ما يجري، وفي صورة احتمالات وسيناريوهات المستقبل.
ينبغي للسياسي التفكير في هذه الأسئلة كلها، وأسئلة أخرى كثيرة، ليستطيع إنتاج خطابه السياسي، واختيار أدواته، واشتقاق أهدافه القريبة والبعيدة، ونسج العلاقات المفيدة، انطلاقًا من الشروط الضرورية لكل عمل مسؤول ورزين في الشأن العام: العقلانية والصدقية والكفاحية والتواضع. عمل سياسي من دون أوهام أو من دون سعي لإرضاء أحد، ومن دون التخلّي عن الموضوعية، والروح الكفاحية الصبورة، بالتلازم مع التواضع، والاقتناع بأن المشكلة السورية أكبر من الادعاءات والحلول السطحية، ومن الشعارات والشعارات المضادة.
*المدن