1 – في 1989 شهدت أوروبا الوسطى والشرقية عدداً من الثورات التي كتبت نهاية المعسكر السوفياتي: في ألمانيا (الشرقية حينذاك) وبولندا وهنغاريا وتشيكوسلوفاكيا السابقة… هذه الثورات كانت سلمية، وانعطفت عن التقليد الثوري الذي أسسته الثورة الفرنسية في 1789 وكرسته الثورة الروسية في 1917. كانت ثورات لأكثريات ساحقة من الشعب. لم يقدها حزب على رأسه قائد. لم تقض على الحياة الديمقراطية والدستورية، بل بالعكس، أسستها مما يشبه العدم. لم يتأد عنها احتراب أهلي، بل أمكنها استيعاب حدث في حجم تقسيم تشيكوسلوفاكيا سلمياً، واستيعاب حدث مقابل هو توحيد ألمانيا بأكلاف جدية إنما محتملة. تلك كانت الموجة الثورية المثلى.
لكن تلك الحقبة شهدت أيضاً أشكالاً أخرى في وراثة الإمبراطورية السوفياتية، كانت أبرزها حروب يوغوسلافيا السابقة والشيشان. في هاتين الحالتين، انفجر الخليط الديني والطائفي والإثني ليفتح الباب واسعاً للاحتراب الأهلي.
بالطبع، كان الفارق بين التجربتين متعدد الأوجه: في مدى حضور البنى التقليدية، وفي المقابل حضور الطبقة الوسطى الحديثة، فضلاً عن مدى قوة أو ضعف التقاليد السياسية، ودرجة القمع الرسمي التي واجهت التحولات الناشئة.
2 – ثورات «الربيع العربي» وقعت في خانة ما بين الخانتين أعلاه: البدايات السلمية كانت تحاول تثبيتها في الخانة الأولى. قمع الأنظمة كان يدفعها إلى الثانية، مستدرجاً البنى الطائفية والإثنية المتأهبة والمهتاجة. الثانية، باستثناء تونس، غلبت.
الثورة اللبنانية تنطوي اليوم على ملامح مختارة من الحالات الموصوفة أعلاه، لكنها تنطوي أيضاً على ما جاءت به الموجة الثورية الجديدة للسنوات القليلة الماضية: من جهة، تصدر المسألة الاقتصادية الاجتماعية في فرنسا وتشيلي والعراق وإيران…، حيث يطغى الهم المطلبي، ومن جهة أخرى، أن مسألة الهوية جددت بروزها كما في هونغ كونغ وكاتالونيا بإسبانيا. بوليفيا يختلط فيها البُعدان ويندغمان.
3 – في هذه الغابة من العناصر والتناقضات، يُلاحَظ أن الثوار اللبنانيين ذهبوا بعيداً في مسألتين تقعان في قلب هويتهم الثورية الجديدة:
الأولى، إزاحة الطائفية، ولو قليلاً، عن صدر الحياة العامة. ففي ظل الوطأة الطائفية الثقيلة (شبكة التوزيع، المحاصصة، المحسوبيات…) سيكون من العبث إحداث أي إصلاح اقتصادي تستفيد منه أكثرية اللبنانيين، لا سيما قطاعاتهم الشابة التي تنسد في وجهها فرص العمل وآفاق المستقبل. أيضاً سيكون من العبث إنقاذ الديمقراطية وتطويرها عبر توسيع قاعدة المشاركين فيها والمستفيدين منها. بقاء الوطن نفسه، من دون تخفيف الوطأة الطائفية، يغدو مطروحاً على المحك.
الثانية تتعلق باللاعنف. لنتأمل قليلاً في ظاهرة الانتحارات التي طالت عدداً من الشبان ممن سُلبوا الحد الأدنى من شروط الحياة. هذه الظاهرة هي، في وجه منها، عملية قتل أنزلها بهم نظام حرمهم لقمة العيش. هي، في وجه آخر، تعبير عن لاعنفية أعدمت كل تصريف خارجي للعنف وحصرته في الارتداد على النفس. إن تطوراً كهذا يجعل تخويف أهل السلطة من عنف يصدر عن الانتفاضة ابتزازاً دعائياً أجوف، أو تبريراً استباقياً لعنف قد تبادر به السلطة نفسها.
4 – تحضر بين الطائفية والعنف العلاقة نفسها التي تحضر بين اللاطائفية واللاعنف، راسمة للثورة اللبنانية أحد أبرز ملامحها: صحيح أن صمم السلطة وانعدام كل حساسية لديها وعجزها عن إبداء أدنى استجابة فعلية للمطالب، وصولاً إلى انتحار بعض الضحايا، تمنح الحجة لأفراد مبعثرين قد يرغبون، هنا وهناك، في انتهاج العنف. لكن الصحيح أيضاً أن سلوك الثورة يقيم في مكان آخر: ذاك أن اتباع نهج العنف في لبنان أقصر الطرق إلى استعادة الطوائف وزعمائها كامل لياقتهم البدنية. عند ذاك يعاود الانقسام الأهلي ابتلاع المسألة الاجتماعية ومطالبها. أما العناصر الواعدة، كوجود أساس للحياة والتقليد البرلمانيين، والدور الملحوظ للمرأة، وكون الفئات الوسطى لا تزال فاعلة على رغم كل شيء، فتغدو عملة غير قابلة للصرف.
5 – أمر آخر يصعب تجاهله: بالعودة إلى النماذج الثورية أعلاه، ما كان يمكن لبلدان أوروبا الوسطى أن تشكل النموذج التغييري الأكمل لولا انهيار الاتحاد السوفياتي. الانهيار المذكور وفر البيئة الحاضنة للتغيير والمحفزة عليه والحامية له. هذا ما لا يتوفر في لبنان بسبب إيران. الأخيرة، على رغم أزمتها الاقتصادية وانتفاضة شعبها عليها، لا تزال تعمل، هي وحلفاؤها وأدواتها، على أن يستحضروا فينا العنصر اليوغوسلافي أو الشيشاني. هذا، معطوفاً على أجواء الثورة المضادة في المنطقة، يحض على المزيد من التمسك بالسلمية. إنها وحدها، حتى لو بدا الأمر على قدر من السيزيفية، ما يضمن السيطرة على الوحش الذي فينا، والذي يعمل الجيران الأقوياء على إيقاظه. فلننظر إلى العراق: لقد زحفوا على «ميدان التحرير» وكأنهم يرددون شعار «داعش»: «بالذبح جئناكم». أطلقوا وحوشاً نائمة وأيقظوا وحوشاً أخرى، وبدماء ضحاياهم وقعوا: «الحشد الشعبي».
*المصدر: الشرق الأوسط