حين كتب جورج لوكاتش الشابّ مقالته «البلشفيّة كمشكلة أخلاقيّة»، رفض الشيوعيّة تبعاً لمقدّمات «أخلاقيّة»؛ ذاك أنّ ثورتها عنفيّة تقهر البشر، وبالقهر لا تأتي الحرّيّة، فنحن لا نطرد كبير الشياطين (Satan) مُستعينين بأمير الشياطين (Beelzebub). لكنّه بعد أسابيع فقط، في أواخر 1918، انضمّ إلى الحزب الشيوعيّ الهنغاريّ.
هذه الحادثة الغريبة تفتتح حياة الفيلسوف والناقد اللاحق الذي رأى مبكراً أنّ ثمّة شيئاً فاسداً في عالمه، وكره البورجوازيّة بحسب ما دلّت مقالاته التي جمعها عام 1911 تحت عنوان «الروح والشكل». بيد أنّ ما شحذ عداءه الرومنطيقيّ للبورجوازيّة كان حدّة إحساسه بالفارق بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون. أمّا وسيلته لحلّ هذه المعضلة فدلّته إليها المثاليّة الألمانيّة: إنّها الفنّ الذي وحده يذلّل التعارض بين النفس الساعية وراء المعنى، والشكل الموضوعيّ الذي يمكن فيه إدراك المعنى، أو أنّ الفنّ، باللغة الكانطيّة، ما يقرّب الـ«يجب» (ought) من الـ«يكون» (is).
لوكاتش الشابّ كان منكبّاً على الأدب والفلسفة والجماليّات، مع اهتمام خاصّ بمفهوم «الشكل» ردّه البعض إلى أفلاطونيّة خفيّة. لكنْ بإقامته في هايدلبرغ، وكانت المركز الثقافيّ للعالم الناطق بالألمانيّة، تعرّف إلى ماكس فيبر وتأثّر به، خصوصاً بفكرته عن العقلنة ودور الكالفينيّة فيها، غير أنّ العقلنة التي كانت وسيلة لبلوغ الخلاص بدأت تصبح هدفاً يحكم الناس بالحبس فيما سمّاه فيبر «قفصاً حديديّاً».
إلى ذلك، اهتمّ لوكاتش بالصوفيّة الروسيّة والكنيسة الأرثوذكسيّة وأدب دوستويفسكي كبدائل عن غرب بالغ العقلانيّة ومنزوع السحر. واستمرّت مساعيه الروحيّة في مواجهة العالم المعقلن، فاعتُبر كتابه «نظريّة الرواية» (1914) تعبيراً عن «الذات الباحثة عن المعنى في عالم بلا إله ولا معنى».
إثر انضمامه إلى الحزب الشيوعيّ، ثمّ استيلاء الأخير على السلطة، سُمّي لوكاتش نائب مفوّض التعليم والثقافة. لكنّ سقوط ديكتاتوريّة بيلا كون الشيوعيّة دفعه -بعد مرحلة قصيرة قضاها في هنغاريا يقاوم الوضع الجديد- لاجئاً إلى النمسا؛ حيث كتب المقالات التي أنتجت أهمّ كتبه: «التاريخ والوعي الطبقيّ» (1923). ففي الكتاب هذا صفّى حسابه مع بعض مواقفه المبكرة، لكنّ أهمّ ما جاء فيه ردّه الصراع بين الذات والموضوع إلى التشييء (reification)، حيث العلاقة بين الناس علاقة بين أشياء، وحيث يختبر الأفراد أنفسهم، لا كذواتٍ في عمليّة اجتماعيّة مصدرها الإنتاج الذي يسيطرون عليه، بل كمواضيع لقوانين طبيعيّة تسيطر عليهم. ولم ينفصل مفهوم لوكاتش هذا عن قراءته نظريّة ماركس في فيتشيّة (fetishism) السلعة، لكنّه اندفع إلى تقصّي آثارها على وعي البشر وفهمهم العالم.
ذاك أنّه مع إقرار كانط بالعجز عن إدراك «الشيء بذاته»، ظهرت أعلى درجات الخوف والقلق عند البورجوازيّة وانكشف عجز بُنية الوعي المُشيّأ عن حلّ ثنائيّة الذات والموضوع. أمّا هيغل فقدّم إسهامه الكبير في الديالكتيك، لكنّ مشكلة ديالكتيكه كانت افتقاره إلى ذات فعليّة وفاعل تاريخيّ. فهو إنّما عمل بموجب ميثولوجيا مفهوميّة قوامها أنّ روحاً كونيّة ستسبغ الموضوعيّة (objectify) على نفسها. واستخلص لوكاتش أنّ البروليتاريا هي التي تحلّ مشكلة التعارض بين الذات والموضوع بسبب موقعها في إنتاج الواقع الاجتماعيّ وإعادة إنتاجه، بحيث تُستعاد معها «كليّة الوجود» (totality of existence) إذ تُنتزع من براثن الرأسماليّة. فالبروليتاريا، كالروح عند هيغل، موضوع وذات معاً، وهي تغدو طبقة لذاتها حين تباشر النظر إلى هذه الذات في علاقتها برأس المال، أي حين تغدو سياسيّة وتكفّ عن كونها موضوعاً للرأسماليّة. لكنّ الدور البروليتاريّ ليس حتميّاً بالضرورة، بل هو إمكانيّة موضوعيّة وطموح يحقّقهما اكتساب الوعي البروليتاريّ شكلاً تنظيميّاً هو الحزب.
بيد أنّ ما كان يُكتب حتّى وفاة لينين في 1924 لم يعد من السهل قوله مع تصلّب المعتقديّة اللينينيّة. فكتاب لوكاتش ركّز على أهميّة العنصر الهيغليّ في فكر ماركس، وهو ما لم يعد مقبولاً. كذلك اعتبر أنّ فهم إنغلز للديالكتيك محدود، وأنّ نظريّته في «ديالكتيك الطبيعة» غير ماركسيّة، فيما كانت موسكو تكرّس ثنائيّة ماركس وإنغلز المقدّسة. وهو لئن عامل لينين كمُنظّر، وليس فقط كقائد، فإنّه رأى أنّ روزا لوكسمبورغ (رغم انتقاده لها بسبب تقليلها من أهميّة العمل التنظيميّ) هي وحدها من بين تلامذة ماركس من قدّم إسهاماً جديداً في فهم رأس المال. وهذا أيضاً تجاوز للمسموح.
وهكذا، فحين أقام لوكاتش في الثلاثينات في روسيا، امتنع عن الكتابة الفلسفيّة والسياسيّة ليقصر عمله على النقد الأدبيّ. لكنّه، في 1938، حين كتب «هيغل الشابّ»، عُني بالتأويل الماركسيّ لفلسفة هيغل، بدل الاهتمام القديم بالهيغليّ عند ماركس. وفي 1954 جادل، في «تحطّم العقل»، بأنّ هيغل كان مفكّراً عقلانيّاً مناهضاً لعاطفيّة الرومنطيقيّين اللاعقلانيّة ممّن اتّهمهم بتمهيد الطريق إلى الفاشيّة. وهذا ما لم يكن بعيداً من مناخات الحرب الباردة والحاجة إلى استنهاض «دعم هيغل» للمعسكر الاشتراكيّ!
لكنّ النظام الهنغاريّ استبعده وعزله، آخذاً عليه «تساهله الثقافيّ» و«هيغليّته»، وما لبث لوكاتش أن استعاد اعتباره عبر دوره في تطهير اتّحاد الكتّاب ممّن يشكّ النظام في ولائهم. غير أنّ انتفاضة 1956 أعادت تظهير وجه آخر له؛ إذ حلّ وزيراً في حكومة إيمري ناجي الإصلاحيّة. فعندما سُحقت الانتفاضة نُفي إلى رومانيا، وبعودته إلى بلده في العام التالي، نقد مواقفه السابقة وبقي على ولائه للحزب ولموسكو حتّى وفاته في 1971، وإن أبدى في 1968 تعاطفاً مضبوطاً مع انتفاضة تشيكوسلوفاكيا.
أمّا فكريّاً فتراجع عن مواقفه من إنغلز، وحين نشر أواخر الستينات طبعة ألمانيّة جديدة من «التاريخ والوعي الطبقيّ»، أكّد في مقدّمتها أنّه يعتبر الكثير مما ورد في الكتاب خاطئاً يستحقّ الإدانة.
لقد أعيد اكتشاف لوكاتش في الستينات والسبعينات، فاعتُبر محطّة عبور من الماركسيّة اللينينيّة الكلاسيكيّة إلى النظريّات الثوريّة الراهنة لما بعد السبعينات، والمصدر الأبرز لـ«الماركسية الإنسانويّة». حصل هذا رغم التأرجح المتواصل في سيرته، وصعوبة الجزم في «حقيقة» لوكاتش. لكنْ هل يُعرف أحد، في مجتمع توتاليتاريّ، «على حقيقته»؟
*الشرق الأوسط