من يفكّر بـ «التنوير» بوصفه ديكتاتوريّة العقل الصارمة والجافّة، عليه بديفيد هيوم (1711-1776). فقد شكّل الفيلسوف الاسكتلنديّ، ومعه صديقه آدم سميث، أكبر ثمار ما عُرف بـ»التنوير الاسكتلنديّ» الذي تعود أصوله الأولى إلى القرن السادس عشر. فحينذاك، وعلى يد الإصلاحيّ الكالفينيّ جون نوكس، احتلّ التعليم العامّ والمجّانيّ موقعاً مركزيّاً في الدعوة الجديدة، ما أنتج أجيالاً متلاحقة من النُخب ومن الأفكار.
لقد كان هيوم، الذي عُدّ من روّاد «تنوير» القرن الثامن عشر، مَن رأى أنّنا نتأثّر بعواطفنا أكثر ممّا بعقلنا. ولئن بدا هذا الحكم جارحاً لنرجسيّتنا، فهو اعتبر أنّنا إن أحسنّا التعاطي مع هذه الحقيقة ولم نُنكرها غدونا أسعد حالاً وأشدّ سكينة داخليّة على الصعيدين الفرديّ والجماعيّ. لا بل إنّ سعينا وراء حياة أفضل إنّما يملي علينا تقديم المشاعر على العقل. وهذا ما بدا، تبعاً لشارحي هيوم، استنتاجاً من الغريب صدوره عن تنويريّ، إذ السائد تنويريّاً أنّنا بحاجة إلى تدريب عقولنا كي تغدو عقلانيّة، فلا تقف المشاعر في وجه اشتغال المنطق والبرهان. عنده، يتقدّم العقل خادماً للعاطفة، إذ الأحاسيس تُحرّكنا وتحفّزنا أكثر ممّا تفعل النتائج التحليليّة والمنطقيّة. ولأنّ الإنسان نوع آخر من الحيوان، فالقليل من قناعاتنا الأساسيّة هو ما يصدر عن التفحّص العقلانيّ للحقائق، وهذا القليل غالباً ما يكون إجرائيّاً ومن يوميّات الحياة والعمل، أمّا في الخيارات الأكبر فلا يفعل العقل إلاّ تعزيز ما سبق للعاطفة أن اختارته. فنحن أوّلاً نجد الفكرة جميلة أو خطيرة، وعلى هذا الأساس نتعامل معها بوصفها صحيحة أو خاطئة، ثمّ نستنجد بحجج العقل لدعم موقفنا هذا.
على أنّ ذلك لا يعني أنّ جميع المشاعر مقبولة ومتساوية، ولذا آمن هيوم إيماناً قويّاً بتثقيف المشاعر والعواطف، إذ ينبغي أن يتعلّم الناس كيف يصبحون أكثر عطاء وصبراً وحساسيّة حيال الآخرين، وأشدّ انسجاماً مع أنفسهم واطمئناناً لها وفيها. وهذا ما يحوجنا إلى نظام تعليميّ يخاطب المشاعر، لا العقل وحده، فيما يُطلَب من المثقّف العامّ أن يربّي سواه على أمور كثيرة يتصدّرها حبّ الآخرين. فمن يريد أن يغيّر معتقدات الشعب عليه ألاّ يتصرّف كأستاذ فلسفة غامض ومتشاوف. وبدورها فالأخلاقيّة ليست في امتلاك أفكار أخلاقيّة، بل في كون المرء مُدرّباً منذ سنّ مبكرة على «فنّ اللياقة» (art of decency) من خلال المشاعر.
فصفات كالتصرّف الجيّد والتعاطف مع الآخرين والذكاء هي ما يجعل وجود الناس حولنا شيئاً جميلاً، بمعزل عن أيّ خطّة عقلانيّة مسبقة تقضي بأن نكون جيّدين. فالمرء قد يكون شديد العقلانيّة من دون أن يكون لطيفاً أو حسّاساً، بينما القدرة على متابعة مجادلة معقّدة أو على استخلاص اتّجاهات عامّة من معطيات محدّدة لا تجعل صاحبها حسّاساً حيال آلام الآخرين أو حَسَن التصرّف، لأنّ هذا لا تنتجه إلاّ المشاعر. فإذا كان مُستَحَبّاً في المرء أن يكون فيلسوفاً، فالمُستحَبّ أكثر هو أن يكون إنساناً.
وعند هيوم، الذي لم يكن مؤمناً، أنّ مناقشة المؤمن في إيمانه واستخدام الحجج العقليّة في ذلك لا يفيدان، بل هما سلوك أبله وأرعن يتغافل صاحبه عن أنّ مصدر الإيمان عاطفيّ وروحيّ. فالمنطق الاستدلاليّ (deductive)، أي الاستنتاج بناء على مقدّمات مسلّم بها، لا يسري على اللاهوت، بل يصحّ هنا التعقّل اللاحق (a posteriori) حيث نذهب من النتائج إلى الأسباب، تبعاً لمنطق استقرائيّ (inductive). وتقديره هذا حمله على الدفاع بقوّة عن التسامح، بحيث لا نعامل أولئك الذين لا يشاركوننا الرأي في الدين بوصفهم لا عقلانيّين يرتكبون أخطاء منطقيّة، وبوصفنا نحن مكلّفين بتصويب رأيهم. فالمطلوب، في المقابل، أن نتعامل معهم ككائنات عاطفيّة تحرّكها المشاعر، ومن ثمّ تركهم يعيشون بسلام ما داموا يتركون سواهم يعيشون بسلام.
وموقف هيوم هذا لم ينجم عن مسايرة أو ممالأة، بل عن تمسّكه الصلب بالفصل بين عالَمي العقل والدين. فهو، من موقعه هذا، خالف بعض التنويريّين الداعين إلى «الربوبيّة» (deism)، أي مصالحة ما أمكنت مصالحته من الوحي المسيحيّ مع الفهم الجديد للكون الماديّ ممّا جاءت به الثورة الكوبرنيكيّة، وذلك عبر انتزاع العناصر الشعريّة والميثولوجيّة من الدين والاحتفاظ بـ «دين طبيعيّ» يخاطب العقل كما يمكن تبريره على قاعدة عقلانيّة.
فهو، كتجريبيّ، رفض هذا التخليط مصرّاً على ربط وجود الموجود بالزمان والمكان وعلى الاستدلال عليه بالحسّ وبالتعقّل الملموس.
لكنّه أيضاً اعترض على التعريف المُلزم للبشر وعلى وجود «هويّة شخصيّة» و»نفْس حقيقيّة». فنحن مجموعة حالات وتصوّرات تتتالى بسرعة غير قابلة للتصوّر، بحيث نعيش في «تدفّق وحركة دائمين». أمّا أن يقطع العقل كلّيّاً مع ما قبله، فهذا ما رآه افتعالاً غير عمليّ، أو انقلابيّاً بلغة زمننا. ذاك أنّ تلك المعتقدات القديمة احتلّت موقعها بسبب عمليّتها وفائدتها لمعتنقيها، وهي لا تنحلّ إلاّ حين تتراجع العمليّة والفائدة هاتان اللتان جعلتا الناس تتمسّك بها. فالمُعتقد، في آخر المطاف، لا يُمتَحن على حقائق قابلة للبرهنة بل على أساس نفعيّته وفائدته.لقد ساجل هيوم، بمهارة لا تخلو من لعب وضحك، من داخل الظاهرات التي ينقدها. في 1748، مثلاً، نشر مقالة عن المعجزات فلم ينفِ وجودها، لكنّه نقل النقاش من ثنائيّة العقليّ/ اللاعقليّ إلى مخاطبة مسيحيّي زمنه في ممارستهم العمليّة. فإذا كانت هناك معجزات فلا بدّ أنّها موجودة أيضاً في الأديان الأخرى، لكنْ حين تسمعون عنها في الدين البوذيّ مثلاً فهل تصدّقونها؟ أليس عدم تصديقكم لها برهاناً على أنّ قناعاتكم تخدم انحيازاتكم وأنّكم تطالبون بمعاملة تفضيليّة لحُججكم (special pleading)؟
وهو قدّم مثالاً عن المثقّف الحيّ والعمليّ، الضاحك واللاعب، الذي يحبّ طيّبات الحياة، ولا يندرج في المثال البطوليّ للذين يُقتلون ويُستشهدون ويُحرَقون. أمّا أحد أهمّ كتبه، إن لم يكن الأهمّ، «حوارات في الدين الطبيعي» (حيث يدير حواراً بين شخصيّتي فيلو وكليانثِس)، فلم يُنشر إلاّ بعد وفاته، تجنّباً لمتاعب قد يتسبّب بها الكتاب. والحال أنّ التاريخ، عند هيوم، أكثر استعداداً للانتظار ممّا قد نظنّ.
*الشرق الأوسط