حازم صاغية : سجن سلامة كيلة

0

قبل أيّام قليلة توفّي المثقّف الفلسطينيّ – السوريّ سلامة كيلة الذي سبق أن سُجن مراراً وعُذّب في سجون الأسد. معظم الذين نعوه أو رثوه من أصدقائه السوريّين ذكّروا بالسجن الذي تعرّفوا فيه إليه، أو الزنزانة التي شاركوه إيّاها في هذه السنة أو تلك.

هذه الاستعادة كثيراً ما تحصل حين يرحل عن عالمنا مثقّفون سوريّون كما رحل سلامة.

مَن يتابع هذا النعي السوريّ، الذي يكاد يصير تقليداً، يخال أنّ السجن هو المكان الذي يتعارف فيه السوريّون. ربّما كان الجامع وحده ما يفوقه في هذا الباب. ففي السجن تتحصّل معرفة بالآخر لا تتيحها “الحياة الحرّة” خارج السجن. خارجه يُحال دون التجمّع، كما يُشتبه باللقاءات والمنتديات، بل بالزيارات إذا تكرّرت وبدت على شيء من الانتظام الدوريّ. كذلك تعلو، في ذاك الخارج، الأسوار التي تفصل سوريّي منطقة عن منطقة أخرى، وطبقة عن طبقة سواها.

من الذي، وما الذي، أعطى الحقّ لحافظ الأسد ونجله من بعده أن يحوّلا السجون إلى مدرسة وهويّة ومنتدى وملتقى للآلاف، مع كلّ التشوّه الذي يرافق هذا التحويل، وكلّ الألم والإذلال اللذين يصحبانه؟

أهل النفوذ والسطوة يمكن أن يتعارفوا في فندق شيراتون مثلاً أو أيّ من الواحات المخلوفيّة العامرة. “أبناء الشعب”، وفي عدادهم المثقّفون، يتعارفون في السجن. فيه يتصادقون ويتحاورون ويتخاصمون ويكتشفون ما يوحّد بينهم وما يفرّق. هنا، تصحّ تماماً في ما بين “الغرباء” هؤلاء قولة امرىء القيس:

“وكلُّ غريبٍ للغريب نسيب”.

يصحّ بالتالي اعتبار السجن الأسديّ نُصب الاجتماع السوريّ والاتّصال بالعالم.

لكنْ كدوره في التعارف مع الخارج، فإنّ للسجن دوراً في التعريف بالذات. المثقّفون السوريّون، بنسبة مرتفعة منهم، هم الذين يوصفون، بين صفات أخرى، بالتالي: قضى 15 سنة في السجن. قضى 16. قضى عشرين. هذا التعريف هو دليل جزئيّ إليهم.

وكالتعارف والتعريف هناك المعرفة. في كتابه “بالخلاص يا شباب”، ميّز ياسين الحاج صالح بين مثقّفي بلدان الكتلة السوفياتيّة الذين يدخلون السجون كمثقّفين، وزملائهم السوريّين الذين يغدون مثقّفين في السجون.

لكنْ من الذي، وما الذي، أعطى الحقّ لحافظ الأسد ونجله من بعده أن يحوّلا السجون إلى مدرسة وهويّة ومنتدى وملتقى للآلاف، مع كلّ التشوّه الذي يرافق هذا التحويل، وكلّ الألم والإذلال اللذين يصحبانه؟

الجواب نقع عليه في الفصل الأخير من قصّة سلامة كيلة: لدى وفاته، ظهر مَن يشتمه ممّن سبق أن شتموا ريم البنّا وميّ سكاف وسواهما من الراحلين والراحلات. كان يُفترض بسلامة، إذاً، أن يخرج من سجنه وتعذيبه سعيداً مصطهجاً، وأن يكتشف هناك فضائل النظام المتين، المعادي للإمبرياليّة، الذي بناه الأسدان.

شتّامون كهؤلاء ينكرون أن يكون السجن والتعذيب، ناهيك عن الأسباب الكثيرة الأخرى، سبباً للغضب. لكنّ أمراً كهذا ما كان ليكون ممكناً لولا تقديسهم، هم أنفسهم، للسجون. لولا انخفاض في سويّتهم الإنسانيّة يُخفونه وراء ارتفاع مزعوم في سويّتهم التاريخيّة!. فهؤلاء، مثلهم مثل حافظ وبشّار، يعرفون مصلحة الآخرين أكثر من الآخرين، وغصباً عن الآخرين، ويعرفون خصوصاً أنّ هذه المصلحة تستدعي سجن أولئك الآخرين وأحياناً قتلهم.

… بعد سجنه وتعذيبه، نفى النظام القوميّ سلامة كيلة إلى خارج سوريّا بوصفه فلسطينيّاً. المنفيّ المصاب بالسرطان، والمُصرّ على ماركسيّته – اللينينيّة، انتهى به المطاف في الأردن “الرجعيّ”، وفي مستشفى أردنيّ حيث توفّرت له فرصة التأمين الصحّيّ.

أغلب الظنّ أنّ سلامة أزعجه الاكتشاف الذي سبقه إليه أكرم الحوراني ومنيف الرزّاز، من أنّ “الرجعيّين” الذين “يعاكسون خطّ التاريخ” أرفع في سويّتهم الإنسانيّة من رفاق سابقين يضعون في جيوبهم “خطّ التاريخ الصاعد” ويهبطون.

 

المصدر : درج

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here