جودت هوشيار: داروسيا الحلوة: رواية أوكرانية تخترق الكهوف السرية للنفس البشرية

0

ماريا ماتيوس كاتبة أوكرانية معاصرة حائزة أرفع الجوائز الأدبية في بلادها، وعلى العديد من الجوائز الدولية. وهي معروفة على نطاق واسع بأسلوبها الأصيل المتفرد، وتقيم حاليا في العاصمة كييف.
ولدت ماريا ماتيوس في 19 ديسمبر/كانون الأول 1959 في إحدى قرى منطقة بوكوفينا، التي تعرضت للغزو والاحتلال من قبل غزاة كثر، تعاقبوا على اضطهاد وإذلال سكانها على مدى عدة قرون، وتقع عبر المنحدرات الفاتنة لجبال كاربات الشرقية – وهي منطقة جميلة متجذرة بعمق في التقاليد والدين والفولكلور، وتشكل حاليا جزءاً من أوكرانيا المستقلة.
تعد رواية « داروسيا الحلوة « التي صدرت في مدينة لفوف عام 2004 واحدة من أفضل الروايات في الأدب الأوكراني الحديث، منذ استقلال أوكرانيا في عام 1991 إثر تفكك الامبراطورية السوفييتية، وتدور أحداثها في قريتين في منطقة بوكوفينا بالقرب من الحدود مع رومانيا، في الفترة الممتدة من الثلاثينيات إلى السبعينيات من القرن العشرين. وتتناول الرواية أحداثاً مروعة، لكنها مكتوبة بلغة شعرية جميلة، ومفعمة بعواطف إنسانية جياشة وقوية، خاصة في الأوقات العصيبة. نص بديع وعميق على عدة مستويات: الفرد، والأسرة والمجتمع والوطن. هذه ملحمة عائلية حقيقية بحبكة مبتكرة وتعرض العديد من القصص، التي تتقاطع وتحكي من خلال الشخصيات والأحداث.
غالبا ما تعتمد ماتيوس على ماضيها وتجربتها الشخصية، وتدمج التاريخ بسلاسة في عملها، ما يسمح للقارئ بالتواصل والتفاعل مع ماضي أوكرانيا على المستوى العاطفي.
تتكون رواية «داروسيا الحلوة « من ثلاثة أجزاء، مرتبطة ارتباطاً وثيقاً ببعضها بعضا، وتحكي قصة الحياة الدرامية لعائلة إيلاشوك. وتتضمن في الوقت نفسه عناصر تاريخية وفلسفية ونفسية، على الرغم من أنها رواية صغيرة الحجم نسبياً، فهي تقع في حوالي 220 صفحة. تقدم لنا الرواية وصفا لحياة الناس في منطقة بوكوفينا، في ظل أنظمة الاحتلال الأجنبية المتعاقبة من رومانية وألمانية وسوفييتية والعلاقات المتوترة بينها وبين سكان المنطقة. وعن معاناة الناس في ظل السياسة التمييزية التي اتبعتها تلك الأنظمة. ومع ذلك فإن الأحداث التاريخية ليس الموضوع الرئيسي للرواية، فالحديث يدور قبل كل شيء عن: الانكسار النفسي والأخلاقي والمعنوي للناس، ونظرتهم إلى العالم خلال الأحداث التاريخية المذهلة. تكشف الرواية مأساة عائلة واحدة ـ ميخائيل ايلاشوك وزوجته ماترونكا وابنتهما داروسيا، ومن خلال هذه العائلة مأساة شعب بوكوفينا بأكمله، الذي تعرض للتشويه في فترة الاحتلال السوفييتي لأوكرانيا الغربية. «داروسيا الحلوة» عمل إبداعي متناغم ومثالي من وجهة نظر التنظيم البنيوي. كل جزء له اسمه الخاص: الجزء الأول «داروسيا» (الدراما اليومية) والثاني «إيفان غفوزديك» (الدراما السابقة) والثالث «معجزة ميخائيل « (الدراما الأكثر أهمية). كما نرى، في كل عنوان من العناوين الثلاثة، تستخدم المؤلفة كلمة «دراما» للتأكيد على مأساوية الأحداث المصورة. يتم ترتيب هذه الأجزاء الدرامية الثلاثة ليس وفقا لمبدأ التسلسل الزمني، لكن بترتيب عكسي، الذي يسمح للمؤلفة باستكشاف وعي الشخصيات في الوقت المناسب، ومعرفة خصائص سلوكهم، وما تنطوي عليه أفعالهم.

طلة الرواية داروسيا هي حلقة وصل تربط في وقت واحد بين أجزاء الرواية والفترات التاريخية المختلفة، لأنها حاضرة في مستويين زمنيين: الماضي والحاضر. فهي البطلة الرئيسية في الجزئين «داروسيا» و»إيفان غفوزديك « وهي شخصية ثانوية – لكنها مهمة جدا – في الجزء المسمى «معجزة ميخائيل».. ركزت المؤلفة في الجزء الأول على شخصية داروسيا. هذه الفتاة لا تتكلم، لذا تمًّ رسم شخصيتها عن طريق تدفق الوعي وما تفكر فيه. وبفضل ذلك ينغمس القارئ تماما في العالم الداخلي للبطلة.

في هذا الجزء من الرواية، تنقل ماريا ماتيوس الآلام الجسدية والعقلية لداروسيا، مشيرة إلى أن بطلتها ليست مجنونة، لكنها تعيش في عالم «خاص بها» إنها أقرب إلى الطبيعة منها إلى الناس. لا يزال البعض يتذكر أنه عندما كانت داروسيا في سن المراهقة، أغراها رجال – من وحدات القوات السوفييتية التي تشكلت لمحاربة الثوار الأوكرانيين ـ بالحلوى للاعتراف بأن والدها يزوّد الثوار بالخبز ومنتجات الألبان. أدت الثرثرة الطفولية الساذجة الصادقة إلى مقتل والديها.. أعدم والدها وشنقت والدتها نفسها، لأنها لم تستطع العيش مع طفلة تسببت في مأساة العائلة. الطفلة التي نشأت في أسرة مسيحية، حيث يكون الصدق القيمة الأكثر أهمية في الحياة، لا يمكن أن تكذب حتى على العدو، على الرغم من أنها ربما شعرت أنه كان من الأفضل أن تظل صامتة. المأساة العائلية بثت الخوف في روح الطفلة، ما أفقدها التوازن النفسي والقدرة على الكلام. لماذا هي حلوة؟ لأن مجرد رؤية أحد أنواع الحلوى يصيبها بصداع نصفي رهيب لا يطاق، تهرب منه، إما بالذهاب إلى النهر لفترة طويلة، أو بالحفر في الأرض. عزلت نفسها عن الناس: «داروسيا تسمع كل شيء وتعرف كل شيء، لكنها لا تتحدث إلى أحد. يعتقد الناس أنها بكماء، وهي ليست كذلك، هي فقط لا تريد التحدث، لأن الكلام يمكن أن يكون ضاراً.

يبرز مشهد زيارة داروسيا إلى قبر والدها هنا بأكبر قدر من التعبير والعاطفة. فهي تواسي نفسها بالحديث المتخيل مع والدها المتوفى وتحس كأن روحها قد فارقتها، وتظل في شبه غيبوبة قبل أن تعود إليها الروح، وعندما لا تزور القبر لعدة أيام ترى والدها في أحلامها..
الجزء الثاني – «إيفان غفوزديك» – مخصص للعلاقة الغريبة بين الشاب القروي إيفان شيفجيك وداروسيا. انتهى كلاهما على هامش المجتمع، لكن هذا لم يمنعهما من أن يصبحا سعيدين معا لفترة من الوقت. فكرة هذا الجزء هي أن الحب يمكن أن يعالج حتى المرضى الميؤوس من شفائهم، ولفترة من الوقت يجعل من الممكن نسيان ظلم هذا العالم.
ومن خلال اللهجة المحلية، تصور المؤلفة بوضوح الحياة اليومية والشخصيات الشعبية، وتوضح أسباب عدم قدرتها على إنهاء العمل بشكل إيجابي، لأن النهاية السعيدة للحبكة المأساوية ستبدو غير طبيعية. وتؤكد ماريا ماتيوس على الطبيعة النفسية للرواية، حيث من الواضح أن جميع تصرفات شخصياتها ذات مبررات منطقية.
الجزء الثالث من الرواية «معجزة ميخائيل» حافل بالأحداث، هناك وصف خلاب للعادات والتقاليد المحلية، ويعيد القصة إلى الماضي لعدة عقود، ويحكي عن زوجين شابين (والدي داروسيا) حاولا إبعاد حبهما عن العين البشرية، لكن، السلطة والحرب والحسد البشري يمزق عالمهما الصغير السعيد، وتلقي بهما في ساحة الأحداث التاريخية. هنا ذروة العمل، التي توضح للقارىْ: ما الذي أدى إلى مرض داروسيا. تجدر الإشارة إلى إن «معجزة ميخائيل» تشكل حوالي نصف الرواية تقريباً. تكشف ماريا ماتيوس عن أسباب وعواقب مأساة البوكوفينيين، وتصور بشكل مقنع وواقعي عملاء السلطة السوفييتية من الأوكرانيين، لاسيما الرائد ديدوشينكو، وتجسد بنظرتها الثاقبة مأساة ماترونكا وداروسيا…
في الأجزاء الثلاثة، التقطت المؤلفة الأحداث التاريخية، وكشفت عن دراما العلاقات الإنسانية، وجمعت بين أحداث الماضي والحاضر، ليس فقط بمساعدة الحبكة العكسية، لكن أيضاً من خلال تكرار بعض العبارات والدوافع. يشغل الحوار مساحة كبيرة في الرواية، يجعلها أقرب إلى الدراما.. ويسهم في التوغل النفسي في أعماق الشخصيات، وإبراز الخصائص الوطنية للتفكير. الرواية قوية جدا في توترها العاطفي: هذا التوتر يتصاعد تدريجيا خلال كل دراما ويتطور في النهاية إلى مشهد ذروي.
تجدر الإشارة إلى أن موضوع القرية وحياتها إبان نظام الاحتلال، الذي اختارته المؤلفة ليس جديدا في الأدب الأوكراني، لكن في هذه الرواية تحديداً تم الجمع بين الماضي والحاضر بشكل متناغم ومدهش. أدخلت ماريا ماتيوس نوعا جديدا من الروايات الدرامية إلى الأدب الأوكراني من خلال عملها المتميز «داروسيا الحلوة».
ترجمة هذه الرواية ترجمة متكافئة، تشكل تحديا كبيرا لأي مترجم متمرس، ويتمثل هذا التحدي في ترجمة الصدمة العميقة الجذور لأوكرانيا وشعبها إلى لغة أخرى، التي صورتها ماتيوس ببراعة، إضافة إلى أنها زاخرة بكلمات من اللهجة المحلية، التي لا نظائر لها في أي لغة أخرى، وقد قامت المترجمة الفرنسية فرانجيسكا فيتشي بزيارة بوكوفينا، ودرست تراثها الأدبي ولهجتها المحلية والتقاليد الشعبية فيها، قبل أن تقدم على ترجمة الرواية إلى اللغة الفرنسية، ورغم ذلك ترجمت «داروسيا الحلوة» إلى العديد من اللغات الأجنبية (الإنكليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والروسية واليابانية وغيرها) وحولت إلى أفلام سينمائية ومسرحيات لاقت نجاحا كبيراً.
وأخشى ما أخشاه هو قيام إحدى دور النشر التجارية في العالم العربي بترجمة هذه الرواية إلى العربية عن طريق لغة وسيطة، ما يؤدي إلى سلب هذه الرواية نكهتها البوكوفينية المائزة.

*القدس العربي