جوان حمي: مساراتُ حفار القبورِ السوري

0

إلهي، إنها فقط ستة من لترات الدم الحمراء القانية، لم نكن نعلم ـ نحنُ السوريين ـ بمدى أهميتها، كانت دماؤنا عزيزة عند أحبتِنا، لكنها كانت رَخْصَة جداً، لنكتشفَ اليوم كم هي غزيرة دماؤنا، بل على رُخْص ثمنها لدينا، هي تُدرُ الكثير من الأموال لهم، فمنذ عَقْدٍ وتجار الدم السوري لم تخسرْ تجارتهم بعد؛ ولم تنضبْ دماؤنا، هكذا فكل ما تعلمتُه في كلية الطب من أن أجسادنا تحوي فقط ستة لترات من الدم، باتَ مشكوكاً في صحته، مع َعَشْر عِجاف لَما تَنْضُبْ دماؤنا بعد.
الوحيد الذي ازدهرتْ تجارتهُ هنا ـ في سوريا ـ بعد تُجار الدم، الذين استزادوا النهب في دمائِنا بَيعاً، شراءً، مقايضة، رهناً، وإيجاراً، هو حفار القبور، حيثُ تجارته حلالٌ زلال شرعاً، لقد ازدهرَ عمله هنا وبكثرة، إلا إنه في البداية عانى كثيرا من صلابة أرض المقبرة العصية على الحف، إذ كان يتعذبُ في الحفر اليدوي بواسطة المعول والرفش كثيراً، ويستغرق ستَ ساعات ممتدة ما بين الحفر والردم.
لاحقاً؛ تبرعَ أحد أمراء «الكارثة» السورية للمقبرة ـ كصدقة – على روح والده المتوفى منذ عقد ونيف، والكلام على ذمة أحد الثُقاتِ، إن هذا «الأمير» ما كان قادراً، حتى على دفع كلفة مجلس العزاء لروح والده حينها، لكنه بفضل «الكارثة» السورية، ومن – حُر ماله ـ بجرافةٍ متوسطة الحجم للحفر والردم في آن واحد، وخلال نصف ساعة من عمر «المقتلة» السورية تصبح الحفرة جاهزة لاستقبال نزيلها الطارئ، وتنهي الجرافة ردم التراب على النزيل خلال عشر من الدقائق.
السؤال الذي يطرحه حفار قبورنا على الأهل، عند طلبهم لقبر ما، ليس عن عمر، جنس أو حجم المتوفى، بل سؤاله عن طريقة وفاة الشخص:
كيف تُوفِيَ؟!
فالحُفَرُ في سوريا باتَتْ تُحَضرُ حسب طريقة الوفاة!
هنا يُطْرِقُ السوري برأسه، يَظل يفكرُ بالكلمة المناسبة للإجابة ولإيضاح طريقة الوفاة، ففي زحمة تتالي الجُهَنَمات السورية، صرنا نحتاج سيبويهَ أو أبو الأسود الدؤلي، لإنشاء اشتقاقات جديدة لعلم طرائق الموت في سوريا، فحتى اللغة العربية، التي طالما كانت مِطْواعَةً للاشتقاقات، تتوقف حائرة في الجهنمات السورية، عن إيجاد «فعل أو صفة مشبهة بالفعل» دالةً على طريقة الموت بالبراميل الهابطة من السماء، أو»صيغة مبالغة» لسوري مهروس بدبابة أو «حال منصوبة» لسوريين تَفَتتْ أجسادهم في تفجير انتحاري، ناهيك من المنحور، المقنوص، المحروق، والمُغَرَقِ. وهنا ـ فقط – تتجلى إبداعات السوريين الجميلين الفردية في اشتقاقات اللغة العربية.
لقد أبدع حفارنا، في تأسيس شركة توفرُ كل الخدمات لموتانا: من الحُفَرِ، التعطير بمركبات كيميائية لتقليل رائحة التفسخ، التوابيت، الأكفان وأكياس لحفظ الجثة أو أوصالها. شركته هذه تعود أصولها المالية العلنية، لحفار القبور، أما أصولها المخفية، وككل مُلْكِيات العالم الثالث ـ كما هو ترتيبنا ولا أدري؛ هل ثمة ما هو جديد في هذا الترتيب، بعد الخراب الذي حل في بلادنا ـ هي ملكية مشتركة بين كل أمراء «المقتلة» السورية على اختلاف بيارقهم، نياشينهم وولاءاتهم، فهم من يزودون المقبرة بنزلائها وبرزق حلال لحفار قبورنا، إنهم المُلًاك الجُدد/ المخفيون لكل الشركات الناشئة على حساب دمنا؛ بدءاً من شركات التعفيش، شركات تحويل أموال السرقات إلى بلدان الجوار لتبييضها، «المولات» الضخمة، شركات بناء المسابح مع أحدث الموديلات لمصافي المياه فيها، الإكساء الذهبي للفيلات، المزارع الشخصية المشبوهة على أطراف المدن، شركات تصفيح سيارات «المونيكا» الحوامات ومطاراتها شبكات تهريب النفط، وطالَ الخراب حتى المنظمات الإنسانية العاملة هنا، وتطول قائمة الشركات، كلها أملاك خفية لأمراء الحرب السورية.
أدرك الحفار بغريزة البقاء السورية، أن عملاءه لا يحتاجون لرجل دين، لتلقينهم أجوبةً لملائكة الباري عَز وجَل عند برزخ الخلود، فالسوريون الجميلون لا يهابون الرب مطلقاً، لكنهم يخافون رَجُلَ العسس ذا الهراوة الثخينة؛ فالرب غَفار رحيم، أما العسس فهيهات هيهات، وأظن ـ حتى تاريخه – إن السوريين لَمْ يحفظوا من (العهد الذي خرجوا به من الدنيا) إلا عبارة: (اللهم، إننا لسوريون ـ بغض النظر عن عدد النجوم في أعلامنا ـ فَرجْ كربتنا، خَففْ عنا اللهم، عناء الأمر وعذاب القبر، يكفينا ما عانيناه في الحياة الدنيا! ويردد وحده ولنفسه: اللهم آمين).
ومُطْلَقاً إيمان السوريين الأوحد: إن الرب غفارٌ حليم.
أما غَسالُ الموتى ـ موتانا – فقد تم توظيفه دون عقد ولا راتبٍ ثابت، بل بنسبة عن كل غَسْلَةٍ لميتٍ، حيث غالبيتهم هنا إما: سوريون جميلون، طاهرون، وأنقياء، لا يحتاجون غُسْلاً، قلوبهم صافية بيضاء، حالمون أبداً ببراءة طفلٍ صغيرٍ بسوريا شامخةٍ كألفها، لا تاء مربوطة فيها تنهيها، تقيدها لِطَيْفٍ واحدٍ، أو راحلون بوسائل مانعة للغُسْل؛ جثث محروقة، متفحمة، مقطعة الأوصال، أو متسممة بغاز مُحرم، سام، لذلك فالتعاقد مع الغسال براتب ثابت خسارة تجارية لشركته دوماً.
من الحُفَرِ العزيزة على قلب حفًار قبورنا حفر وفيات التفجير الانتحاري، التفخيخ والبراميل؛ هنا فقط يحقق الحفار وحدة السوريين بأطيافهم كافة، إذ يرقدُ رأس سوريٍ مُهَشم في أحضان مُقَطَعَةٍ لسوري آخر، والاثنان تظللهما أمعاءٍ مندلقةٍ لسوري ثالث مبقور البطن. وكلما كانت جرعةُ حِقْدِ المُفَخِخِ الجبان وبارودهِ كبيرةً هناك، ازداد وجع السوريين ونواحهم، تعاظمَتْ الأوصال المتقطعة، وكَبُرَتْ أبعاد الحفرة هنا. نزلاء هذه الحفرة، لا شواهد لهم، لا بيانات شخصية، فقط يكتب على لوح إسمنتي بفرشاة طلاءٍ أسودَ اللون: (س و ر ي و ن) بأحرف مقطعة، حزينة، ذابلة، ومفتتة؛ حتى جُثَثُنا مُقَطَعَةُ الأوصال كما بلادنا، فما عجز عنه السوريون في حياتهم وحّدهم حفار القبور أخيراً، ولو في حفرة ما، ويبدو أنه لا حل للكارثة السورية إلا برحيلنا جميعاً، إلى حيث أس العدالة، هناك في العالم الآخر، حيث الرب وحده يفك طلاسم النفط، الغاز، خلاف علي وعمر، وتآمر الجوار…
وأرجو منكم المعذرة؛ هنا توقفت سيرة حفار القبور قبل عصر الوباء الفتاك (كورونا) والحق يُقال؛ إن الأكثر وفاءً للسوريينَ هو حفارُ القبور، لقد استثمرَ في قبورنا الكثير، خدمنا جميعاً، إنه الوحيد، الذي نجح في تقديم عنايةٍ لائقةٍ لغالبية السوريين ـ الأموات ـ أما الأحياء ونحن هنا قلة قليلة فقد خاننا العالم… كل العالم.

(القدس العربي)