لم يكن ضيق العيش، واللهاث خلف الاحتياجات اليومية، والصراع الطبقي؛ هو العائق الوحيد لانطلاق الأدب في رحابه الواسعة ليتمكّن من مواكبة التطوّر الحضاري. بل كان العائق الأساسي هو محاصرة السلطة القامعة للمثقف، حيث لم تتوانَ عن شرائه أو ترهيبه، ليبقى ضمن سياق مباركة السلطة القائمة والتغنّي بإنجازاتها.
كان الأديب السوري، طوال نصف قرن، يتعلّم كيف يقلّم أظافر قلمه، وكيف يهذّب كلماته، وكيف يغض الطرف عن الفساد المستحكم في مفاصل الدولة السورية.
لم يكن يرتاح إلى الركون في برج عادي بعيداً عن الجماهير، ولم يكن يأنس بالكهف الأفلاطوني الذي يقبع فيه، خوفاً من إشراق الشمس التي قد تبهره إذا حاول الخروج من الكهف ليطلع على مباهج المعرفة التي ينعم بها الإنسان في الدول الأوروبية.
لقد كان معتقلاً في ذلك الكهف، مصغياً إلى مثقفي السلطة الذين يحذرونه من عالم الحرية الأوروبي، الذي يجعل الدول المتقدمة مجرد كتل ماديّة تفتقر إلى الأخلاق، وإلى الحياة الروحية التي تجعل الإنسان مطمئناً في بلده ما دام يدافع عن السلطة، ويطيع أولياء الأمر من غير تذمّر أو تململ.
ولم تكن تنقص السوري الأمثلة الكثيرة التي يرى أصحابها يومياً يغيّبون في سجون النظام، أو يخصون، أو يُعفون من وظائفهم، أو يتمّ اغتيالهم.
فها هو الفارس السوري عدنان قصار الذي فاز على ابن الأسد فسجنوه أكثر من عشرين عاماً. ود. نعيم اليافي الذي فُصل من الجامعة ومن رئاسة فرع اتحاد الكتاب العرب بحلب ، وتمّ تحويله إلى عمل إداري تابع لمديرية التجارة؛ لمجرد أنه وضّح تركيبة النظام السوري القامع ، من خلال مناقشته أطروحة جامعية في اللاذقية. فغادر إلى الكويت ولم يرجع إلا على نقّالة.
والدكتور منذر عياشي الذي حاربه بعض القائمين على التعليم الجامعي، فطلبت منه أجهزة الأمن تنجيح طلاب مقابل الموافقة على تعيينه في الجامعة، فرفض. فأدى ذلك إلى أنهم “طفّشوه” إلى فرنسا، بالإضافة إلى أنه كان أستاذاً جامعيّاً يصلّي.
وقد حاربوا زكريا تامر ولاحقوه لمجرّد أنه وضع نصّاً عن الاستبداد للكواكبي في افتتاحية مجلة المعرفة التي كان يرأس تحريرها، ولولا محبّوه الذين حذّروه فغادر سوريا سريعاً، لكان قبع في أقبية السجون السورية أعواماً كثيرة، كما قبع محمد الماغوط ، وكثيرون سواه.
تجرّأ الفنان عبد الحكيم قطيفان وفتح فمه فكلّفه ذلك تسعة أعوام في السجن، وكذلك خالد تاجا الذي لقي حتفه في الاعتقال الأخير، بعد أن اغتالوا زوجته “سحر” على مرأى من جمهورها وهي على منبر المسرح الذي تغنّي فيه.
الأمثلة كثيرة ومؤذية وتسبب كثيرا من الألم والشجون والتقزز والاندهاش.
أما وقد هبّت رياح الربيع العربي، فقد آن لنا أن نخرج من الكهف، ونعانق الشمس، ونعبّر بكل وضوح عن آلامنا وآمالنا، من خلال أدب جديد يكسر الطوق ويسبح في آفاق الحريّة، ويتناول موضوعات كانت محرّمة علينا.
وبالرغم من بعض الأدباء الذين كانوا صدىً وأبواقاً للسلطة، برز العديد من الكتّاب الأحرار، وجرى الشعر على ألسنتهم أنهاراً من الصور التي تنطلق في سماء الحرية وتغرّد كالعصافير، وتنبعث من حروفها أزهار الياسمين؛ وكثر الحديث عن أدب السجون، وتصوير الطغاة، والسخرية من حكم العسكر، وتغلغلت الرواية في مفاصل الربيع العربي تشدّ من أزره وتنعى ضحاياه وتدعو إلى محاكمة القتلة والمتسلقين والمنافقين، وتعرّي رجال الدين الملتحين الذين يحاولون زرع اليأس في النفوس ويدعون إلى مهادنة الحاكم فهو ظل الله على الأرض.
الأديب ينبغي له أن يلتحق بالشعوب التي أنجزت الثورة والقيام بالمراجعات اللازمة للتأسيس لأدب جديد قوامه الانحياز للإبداع، والاقتراب من هموم الناس المتطلعة للكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية، والنأي بالنفس عن التجاذبات، والعمل على أن تترتب المشاهد ويتكثف الوعي بالأفكار الجديدة التي ستظهر بفضل المساحة الحرّة والخصبة المتاحة إعلامياً، وفي كل ما له علاقة بالثقافة بتعدّد الألوان في المسرح والسينما والأدب والفكر، من شأنه أن يطوّر قدرة المواطن على التمييز والاختيار، وسيتمكّن من بناء رأي عام جمعي ، تصير من خلاله الثقافة طريقة للعيش وقوة داخلية لتطوير الذات .
إنّ الفترة قادمة قد تطول لنرى ثقافة قادرة على تنوير السبيل وانتشالنا من غيابات الضّياع . في ثقافتنا ومجتمعاتنا ما يكفي من العناصر السلطوية والتسلطية والأبوية والثأرية، بما يجعل إعادة إنتاج نظام الاستبداد مجدداً، بصورة أو أخرى، احتمالاً وارداً ومخيفاً.
يقوم معذبو الأرض السورية بثورة على حكم وحزب وطغمة عسكرية– مالية أمنية متسلطة وعلى قيادة وزعامة أبدية. وأهم ما يمكن للمثقفين أن يفعلوه بداية، هو التخلص من وزارتي الثقافة والإعلام، والانطلاق من أرضية محايدة تلتقي عليها المذاهب والعقائد الدينية والأفكار، بحيث تتمكن من التعامل مع الفضاء العام والشأن الوطني والساحة السياسية الجامعة.
الأقرب إلى واقعنا هو صراع شخّصه فرانز فانون في كتابه الشهير «معذبو الأرض» ومن المفيد العودة إليه اليوم في أية محاولة لتشخيص الثورة السورية وفهم طبيعتها، بخاصة أن فانون كان رائداً حقاً في وصف آليات ومراحل تحول قوى سياسية وأحزاب وتنظيمات بدأت كأحزاب وحركات تحرر وطني في مجتمعات عالم ثالثية مقهورة، إلى طغم حاكمة انفصلت تماماً عن بداياتها وقواعدها الشعبية الأولى وعن البرامج التحررية التي تبنتها بداية وعن الأغراض التي جاءت من أجلها لتقوم بقمع جماهير بلادها الشعبية من معذبي أرضها وتدوس على رقابهم، ثم تتجه بالضرورة إلى تمجيد القائد الأوحد الذي يخرج من صفوفها إلى رفع شخصه فوق مستوى البشر والأرض والوطن، وصولاً إلى درجة التأليه. هذا كله دفاعاً عن احتكار الثروة والسلطة معاً مع ما يرافقهما من امتيازات ومغانم ومصالح طبقية وفئوية ضيقة على حساب البقية الباقية من البلاد وأهلها .
يأتي الكواكبي هنا ليفصّل في كتابه “أم القرى” الملامح القادمة لما ينبغي أن يكون في وسط متديّن وسطي، فلا بد أن ينبري المثقِّفون فيه لمكافحة الفساد وتبيين الطرق المناسبة لغد جديد.
الأدباء السوريون اليوم هم الذين يحملون هموم المواطن والوطن، ونرى أعداداً كبيرة منهم تقف اليوم مع الثورة وتعبّر عنها.
ونحن الآن، في ظل محاولات التحرير، نعود إلى فترة ما قبل التخلّص من الاستعمار، ومهام المثقِّف اليوم هي الانتقال إلى حالة شبيهة بالجو الديمقراطي الذي عاشه السوريون بعيد الاستقلال ، في خمسينيات القرن الماضي. وتبدأ معها مرحلة دراسة أدب المهجّرين الذي سوف يدرّس لاحقاً في مدارسنا التي كانت تدرس الأدب المهجري وتبيّن مزاياه وخصائصه. أما الآن فيضاف إليه ألم التهجير واللجوء ومكافحة السلطة السياسية بصدور عارية مقابل الجيوش المدججة بالسلاح وخاوية العقول.
تلفزيون سوريا