تساءلت ومحجر عينيها في ذهول: أيعقل أن يكون هو؟ أيمكن أن تختلط علي صورته؟ لا ليس هو … ليس هو.. رددت بهذيان يقارب حد الجنون…
راجعت صفحات الويب بتركيز أشد متفحصة الصور الواحدة تلو الأخرى، وقفت على تلك الصورة تحملق بها، جحظت عيناها وهي تكبر أبعادها لتتأكد منها…
كان رجلا فارع الطول، تمتد قامته كما ظله عاليا ناحية السماء، تعانق أغصان الأشجار، جسده الملتف والرشيق قد تكور في انحناءة مريبة على ضلال الوقت المغتصب عنوة. عريه الصارخ ينبئ عن وقع سياط تكسو جلده المتماسك بصلابة ويعلن بوضوح تعرض رجولته للاختراق.
تمتمت بأسنان تصطك مرتجفة: آه كم حلمت بعريه هذا يلف جسدي المنسي، المحرم على العشق والهوى، كم حلمت بانحناءته العطوف هذه تلملم جراحي وتأوي أحلامي وتسكّن مواضع الألم في نفسي وفي جسدي.
تباعدنا بين شقين من الزمن العابس والواجم، الزمن الغافي على ضفاف الموت المنتشر في كل مكان…
حاولت أن ترفض ما تراه عيناها، فسحبت فأرة الالتقاط المحدد باتجاه تلك الزاوية العميقة في جدار رأسه المنكوب، لتلك المنطقة التي طالما أبحرت في إيقاعاتها الحنونة زمناً وبتداخلها الملفت مع الحزن دهراً، في حدة تركيزها الغاضب مرات ومرات.
كبّرت الصورة أكثر فأكثر لتصل لضلال ريفها الحزين من خلف التفاتته المتعمدة لتلمح من يقف خلفها أو يرقبها خلسة.
شهقت بعمق: هي، هي عينه ذاتها، نفس البريق النادر الذي يعكس قيعان محيطه كثير القواقع والأسماك الملونة والمرجان، والذي ما فتئ هدوءه الطويل ينبئ بعواصف عنيفة وبمطر غزير من الرؤى والأحلام.
جاهدت كي تصل لعينيه لتقبلهما، حاولت أن تصل لصليب يديه لتفكهما.
عبثاً حاولت أن تخترق الآلة أمامها كما لم تستطع في الماضي أن تعبر خلفه من بوابة دارهم…
عبثاً حاولت فغرقت في الكرسي وشلال من الدموع ينهمر من عيناها يخترق صحراء خديها التي طالما حلمت بوابل من القبل، عابراً سهول جسدها المكسوة بياض الثلج فما تعرض للشمس من قبلُ، ليصب في شجيرات التوت الشامي في صدرها الذي لم ينضج بالحب بعد إنما بالعنف فقط.
غرزت أصابعها في شعرها المفرود على الضوء المنبعث من شاشة كمبيوترها، ونادرا ما كان يرى النور إلا خلسة.
تقدمت وتراجعت، انحنت للأمام وللخلف مرات ومرات قبل أن تحاول الوقوف فتعود للجلوس بين أضلاع كرسيها الوحيد.
جرّت هزيمتنا الكبرى لسرير عزلتها الدائم، رفعت رأسها وتكورت على نفسها كبرتقالة تنتظر التعرية والتقشير وأطلقت أغنام أفكارها لتسرح في ذلك السهل الوعر من تاريخ عمرها المنسوج على نول الغصات.
رأته بوضوح هذه المرة خلاف عادتها السابقة قبل حين، فلطالما تداخلت بها الصور وتعثرت أغنامها بالمرعى ونهشت ذئاب العقيدة والفكر المسموم بها وكأن عريه الفاضح اليوم جعلها تراه بوضوح كما لم تراه من قبل.
لم تنسه أبداً رغم طول الغياب، وما هجعت خلايا النحل تطن في رأسها وتزن في دمها.
تنهدت بآهات الحرقة لذكرى لقاءهما الأول، ذكرى نهوض الجبال العنيف وسيل الكلمات والجداول الرقيقة في الحوار والحديث….
كان يوماً مختلفاً…
أصوات الرصاص تلاحق كل قدم تطأ الشارع، جثة مرمية هنا وساق مبتورة هناك، جدار من الرعب بني بأجساد عشاق تواعدوا في يوم الحب والقديس فلانتاين، تواعدوا أن يعانقوا لحظات الحرية، فقابلهم الرصاص ورجال من سواد…
كيف أسحبه؟ كانت تردد في صدرها الخائف، محتمية خلف جدار نصف مهدم .. كيف أسحبه من الشارع ومن بين أيديهم؟؟؟
خائفة كعصفور أراد أن يطير فأصابته رصاصة في الجناح فهوى يرتجف منازعاً…
تصاعد ارتجاف قلبها وكاد يتوقف حين تطاول ظل مارد من خلفها يقول لها بحزم:
- تعالي معي….
لم تجرؤ للنظر للخلف أبداً وقد تجمدت أوصالها…
وضع يديه على كتفيها وهمس بها:
- تعالي معي وإلا أخذوك معهم إلى زنازين الموت…
حينها التفت للخلف فلمعت ذات عينه الجريئة في وجهها…
- أريد سحبه من هناك….
- لا يمكن احضاره، انهم يطلقون النار على كل حركة في الشارع…
- لن أذهب إلا به … دعني وشأني…
توقف الزمن عن التقدم… لا شيء يحدث سوى قلوب ترتجف هناك، وأجساد تقاوم الموت هناك… وعيون الموت ترقب كل حركة للحياة فترديها…
- تعالي معي أحميك أولاً منهم وسنعود لنأخذه بعد قليل…
- سيموت…
- وقد نموت كلنا… ثقي بي وتعالي معي…
- وكيف أثق بك وأنا لا أعرف من أنت …
- كل من كان هنا كان يثق بلحظات الحب والحرية العلنية…
- وهل كنت هنا معنا…
- رأيتك تتابعينه من بعيد، كنت أمشي بجواره نهتف معاً، ظننتكما عاشقين مثل البقية…
- شجعني ان أخرج معهم … أرادني أن أبصر الحياة وصوت ضجيجها لأول مرة في عمري المنسي…
- أول مرة تخرجين معه … يا لتعاسة أقدارنا… أول وضوح في الحب موت في هذه البلاد الجريمة!
- هذا أخي …أخي الذي لم أعشق ولم أعرف سواه لليوم…
لم تكد تكمل جملتها، حتى ذعرت من سرعة قدمين تقفز من فوقها اتجاه الشارع … ليرتمي بجواره …. لف جسده الطويل على الجسد الغارق في دمه…. وحمله على كتفيه وبدأ يركض ناحيتها …
غطت رأسها تلافياً لتلك الرؤية … لقد كان موتاً مؤجلاً فقط…
عين حارسة من بعيد حيدت مرمى الطلقات عنهم …. ولم يكن القدر قد رسم معنى لهذا النجاة اليوم من موت محتم بعد!!! ولربما كانت مجرد فرصة لحياة فقط…
كانت الأيام بعدها سجن طويل داخل البيت، لا أحد يجرؤ على الخروج من بيته فكل الشوارع مقفلة بمنع التجول وحتمية الموت الجزاف…. وتلك الأيام المعدودات كانت فرصة حياة…. أجل فرصة حياة….
بين جدارين مرتفعين للسماء… جدار حرمة الأنثى الأزلي من خروجها لنور الحياة والاختيار، وجدار الرعب الدائرة رحاه تهرس الأجيال جيلاً خلف جيل، رعب المرت الفجائي أو الاختفاء القسري… أمضت عمرها حياة…
اليوم وبعد تلك الحادثة وجد هذا الغريب صدفة في بيتهم، أنقذ أخاها صدفة، وحدثها صدفة، وبقي في منزلهم قولاً مختلفاً عما ألفته صدفة… إلى أن اختفى صدفة لأعوام ويعود ليطل من خلف شاشة كمبيوترها… جثة في مجزرة جماعية لمعتقل…
لأيام في بيتهم كانت كلماته وقع لحن شرقي حزين، عباراته موسيقى عالمية التكوين والوجدان والإحساس، أطربت داخلها، وناجت أفكاره أحلامها وشرعت تفتح الأبواب أمامها لتعبر خارج حدود قوقعتها الموصدة على تحريم الشعر والغزل.
على مهل شق الدرب لقلبها ورفع رايات الحب فيه، داوى وجع أنوثتها المعزولة في جزيرة نائية من العار. ولم يدم ذلك طويلاً…
جابت كلماته عن الحرية والحب والحياة، عن العدالة وفرص الشباب وقدرة الشباب، عن الوجود والإنسانية وحلم التغيير لعالم آخر مختلف عما نعيش لغير المألوف.
شَكلها من قلبها ورأسها ولطالما غرقت في أحلام يقظتها، وكثيراً ما أتاها صوت أمها أو أبيها صحوة من غرقها في عالمها الوردي…
- هذا الغريب يجب أن يغادر المنزل… قال الأب
- لكن الشارع محاصر وخطر…
- ووجوده خطر علينا وعلى حياة أيضاً يا امرأة…
- لقد أنقذ ابننا الوحيد …
- أجره عن الله، فقد قام بواجبه تجاه رفاقه والله …
كان ذو القامة الطويلة يستمع بهدوء لحديثهم القادم من الغرفة الثانية، لم يتردد لحظة، توجه ناحية الباب وهم بفتحه حين سمع صوتاً يناديه:
- إلى أين…
لم يلتفت للخلف، لكنه توقف زمناً وأجاب…
- إلى حيث أمارس هواية الحياة بعيداً عن أذيتكم..
- أنت لم تؤذينا أبداً…
- ربما سأؤذيك ان بقيت هنا…
- أنت فتحت لي بوابة الحياة….
- وأصنامنا تصر على اقفالها يا حياة…
- لا تخرج أرجوك…
التفت ناحيتها وعينه تضيء بذات الطريقة اليوم، وكأنها لم تعبر كل تلك السنوات..
- سأعود حين تتغير مواقيت هذا الزمن يا حياة… حين نقرر أن الحياة وجدت لنعيش لا لنقفل عليها الأبواب…. هناك في الشوارع اليوم ميلاد حياة جديدة… ولكن دروبها لا كما تخيلناها … دروبها وعرة جداً… والدرب متعرج وطويل يا حياة
- لا تذهب لا تذهب…
- دعيه يذهب وادخلي غرفتك أنت ولا تبرحيها… أجابها صوت أبيها القادم من خلف التاريخ….
- ألم أقل لك درب الحياة وعر يا حياة….
ما أن أقفل الباب خلفه حتى تعالت الأصوات وضجة الشارع…
أطلت من الشباك فاذا بمجموعة من رجال السواد تنهال عليه ضرباً وترميه في سيارة ….
تمضي السيارة والسنون وتمضي فرصة الحياة تلك وتبقى هي معلقة على جدار الزمن تتابع ما يجري من خلف شاشة كمبيوترها وقد انعقد لسانها عن الكلام رغم كل محاولات أبيها وأمها أن يكلماها أو يفكا عقدة لسانها…
لم ينفك أبيها عن البكاء ندماً، وما نفع الندم بعدما أكلت أحقاد التاريخ فرصة حياة… بينما بقيت أمها تحتار بين بكاء زوجها الصامت وصمت ابنتها الباكي….
استحالت حياة إلى جسد لا يتكلم، مجرد جسد يتحرك في بضعة أمتار من المنزل… لا تستطيع الكلمة ولا التعبير….
غرقت حياة في صمتها كما غرقنا جميعاً في صمتنا الكبير حين كان التاريخ كما الحاضر ضد أحلام الحب وحرية الهواء والنور الواضح .. فكانت وكنا حطام مجزرة كبرى….
ولليوم، وللحظة التي التقت عيناها عيناه بعد سنين من اختفاءه القهري في زنازين الموت، كانت كلما انتابها حزن عميق وذبلت كعصفورة تحت المطر تذكرت بريق عينيه فتمتشق الأمل…. متابعة صمتها عله يعود…
عاد اليوم بصورته العارية وقامته الطويلة رقماً من أرقام موتنا المتكرر… عاد حباً لا يموت لكنه لا زال مدفوناً في القلوب… حملته بتثاقل لسريرها وهي تقلب تلك اللحظات بأيام معدودات من فرجة حياة …
في ذلك الصباح استيقظت قبل الجميع… لبست على عجل … أخذت ورقة بيضاء وكتبت:
سامحوني، لم أكن عاراً أبدا، ولن أكون، فقط أدرك اليوم معنى أنني أحتاج للكلام … لا تبحثوا عني إلا عندما تقرروا حقي في اللغة والكلام…
بينما كان الأب مشغول في ترتيب أيامه لمواجهة الغلاء الفاحش الذي يطال البلاد والعباد، فجأة نادته زوجته تعالى أنظر إنها حياة… على شاشة التلفاز كانت فتاة يكتنفها الحلم والجرأة، يلفها الحزن والأمل معاً، كانت تقف كشجرة وسط جمهور كبير من البشر، وصوت مقدم الحفل يقول: أما الفائزة بجائزة هذا العام فهي حياة عن قصتها: رغم الموت هذا الحب لا يموت….
*خاص بالموقع