حَسَب أوشو “الإنسان جمهرة من الناس وليس فرداً واحداً فقط”، وهذا تاريخ شاق، حاضر مكتنز. إنها صيرورة يكتنفها التواصل والحب والحرية، إذا ما كانت الحرية هي الاختلاف والتعدد والتنوع، فالحب جامع مكنوناتها، ومحقق فرادتها ومنتج زَهْوتها وشغفها ونكهتها المميزة.
الحرية، ومع أن جذرها الأنطولوجي هي مَحْض شخصية، وهوىً ذاتي، واكتناز نفسي، لكنها في الوجود المتعين، في الصيرورة المتشكلة تاريخاً هي خلاف ذلك. ولنقل هي ترويض النفس البشرية عن شططها الفردي إلى حضورها الجماعي، وقد اكتست طابعها الجماعي كما الفردي أيضاً، وأقامت جسور التواصل، وباتت لوحة للحب والإجماع والتوافق، للحوار والتباين وإمكانية الاختلاف أيضاً دون نفي أو زجر أو قتل، وحدّ حياتي ومعرفي على لغة النفور والكراهية عندما تصبح ذاتية نفسانية محضة نسميها أنانية أو مصلحية! فالأنا تتعرف وتتحدد بدلالة “الآخر” المختلف وطريقة العلاقة بينهما، ونموذج تواضعها، واحترام اختلافها، والإقرار أيضاً عن رضا وتواضع بوجودها، كما الأنا ذاتها، وهذا هو السبيل لرؤية الأنا ومعرفتها من خارجها.
والسؤال في جذره وأوراقه المتفتحة شهية أولى في المعرفة، خطوة أولى في رحلة الألف ميل في معرفة العالم، طريقة في المنهج، في الطريقة، في معنى الوجود وسبر سبل الحرية والانعتاق الإنساني. فلا تتحقق حرية الأنا المفردة إلا بدلالة حرية الآخر، فحَسَب جان بول سارتر “إننا سنمارس الحرية من أجل الحرية، وبسعينا خلف الحرية نكتشف أنها تتوقف كلية على حرية الآخرين، وأن حرية الآخرين تتوقف على حريتنا”. وهذا موقع مُناقِض كليةً للاستبداد والعسف الإنساني وأهمّه السياسي.
قبل قرون من اليوم لم يُجِز أفلاطون أن يشارك العبيد في الديمقراطية الحرة، وأكد على هذا عبد الرحمن الكواكبي في طبائع الاستبداد، فالعبيد سينتخبون أسيادهم، وتِلْكُمْ إحالة على نموذج يُمسخ فيه الإنسان بحيث يصبح بلا أنا حرة أو ذات فاعلة وقادرة على الحرية بخياراتها، بقدر استلابها الكلي لسيدها، وبالنتيجة نفي كلي لوجود الآخر المختلف عنه سوى ذات سيده العليا. واليوم لم تزل سلطات الشرق العاتية، تغرق الوجود الإنساني في محاولة إضفاء هذا النموذج الممسوخ على حياة البشر، فالسيد ورعيته، ماسخ وممسوخ، غياب كلي للآخر، وحضور جاثِم ومقزِّز لأنا السيد المريضة والمتخارجة مع التاريخ والوجود الإنساني مهما بلغ تغوُّله الحاضر، ومهما كان قابضاً لأرواح البشر ومنكل دنياهم وحياتهم وناهب أرزاقهم وهادم تاريخهم وحاضرهم.
الاستبداد الشمولي “Totalism”كلية التمكن، الهيمنة المطلقة، موقف مصّاص الدماء وقد تمكن من فريسته، وليس فقط، بل تركها جثة هامدة تتبعه نفسياً وسلوكياً وتماثله فعلاً حين تتمكن من غيرها أيضاً. الاستبداد في موقع الموجود القائم والنهائي والأزلي، في مكانة ضد الوجود المتكون والمتشكل والصائر، ضدّ الثورة والتغيير، مع “الراهن” و”القائم” المستديم والنهائي في صيغة مُعطاةٍ مُسبقاً لا يمكن الوقوف عند غيرها أبداً، هو شكلٌ مدوّر ومنتحَل لسلطة الله النهائية على الأرض، فكان شعار الديكتاتورية: “الخالد، الأبدي” ولا أحد سواه.
فالفاشية والموسولينية والنازية الهتلرية والعنصرية البلفورية تاريخياً، والعولمة المبلعمة للعراق والجيوبوليتيك الروسي الحديث، وبينهما يمر كل نُسَخ القادة العرب من رؤساء وحكام، هي استبداد وآلة للحرب والقتل التي لا تجيزها أية معرفة بشرية أرضية أو سماوية إلا في نفي غاية الوجود الإنساني وهدم كُلِّيته، حيث لا غاية تبرر ذلك حينها سوى شهوة التسلط المطلقة ووحشية الافتراس في الامتلاك …
هذا الإقصاء للتعدد والتنوع، للحركة والتطور والتقدم وإضفاء صفة الأزلية القسرية على الواقع، هي جذر المظالم والمجتمع القهري والوطن المهدور، وبالضرورة أسباب ومولدات كل نزعات الحرية والانفكاك ومقدمات الثورات حتى وإن استحالت فوضى راهنة، فالحرية هوية الوجود الإنساني، وحق غير قابل للتنازل عنه أو وَهْبه لآخر، والحرية شرط وجودي متلازم مع الإنسانية، والتنازل عنها هو تنازُل عن حقوقه كإنسان. وهي أيضاً تمتع الفرد بجميع حقوقه المادية السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية في دولة وعَقْد مشروط على الحكم، وذلك حسب جان جاك روسو وثقافة عصر الأنوار “وإذ ليس لإنسان أيّاً كان هذا الإنسان، من سلطة طبيعية على شبيهه، فالقوة لا تُولِّد أيّ حق كان”.
تَساوي الأنا والآخر حقوقياً ومكانةً، سماتٍ وحضوراً، خصائص متشابهة واختلافات عدة في الرؤى والأهداف والطرق وحتى الغايات، هو شكلُ تحديد الخصائص والفروق والميزات في الواقع صيرورةً وسيراً، هي ما تجيز حُبّاً وألفة على تعاقُد الموجودين في عَقْد توافقيّ أسماه الفكرُ البشري الحديث “عَقْداً اجتماعياً” توافقت عليه الذوات و”الأنات ” (جمع مفردة أنا) المختلفة في هوية الكلي المتعينة في وطن، وربما كون أوسع، تلك التي أجازها روسو في حدود العقد الاجتماعي “إذ يضع كل واحد منا شخصه وكل قدرته موضع اشتراك تحت الإمرة العليا التي للإرادة العامة، ونتقبل كجسم واحد كل عضو كجزء لا يتجزأ من الكل”، ما ينتج جسماً وأرضية مادية للكل الاجتماعي، والإرادة العامة المتمثلة بإرادة الكل (الشخص العمومي) هي الوجود المعنوي الذي يعبر عن روح الشعب ووحدته، وحدة الاختلاف والتنوع، وحدة الأنا والآخر والإرادة المشتركة ومبتغاها الخير العمومي أو المصلحة المشتركة. هذه التحديدات التي يحتاج كل منها لفرد صفحات متسعة من الحوار والجدل ستكون قاعدة نقاش عريض في مسألة المجتمع المدني السوري، هُويّته وبِنْيته، والفَرْق بين مثلث الحقوق الليبرالية والعلمانية وما يوازيها من سطحية الدَّمقرطة والعَلْمنة والأَسْلَمة غير المرتبطة بجذرَي الحرية كنقيض استبداد والأيديولوجيا وأيديولوجيا السلطة كضدّ للمعرفة في كتاب دفاعاً عن الحرية والوطن المهدور.
أيّاً تكن نتائج الوجود السياسي الذي نعيشه اليوم من هدرٍ وهدمٍ لا متناهٍ للقيم الإنسانية وتغوُّل الاستبداد في أَعْتى صوره السياسية والأيديولوجية والعُنْفية والدينية، ستبقى الحرية مكنون النفس والذات البشرية، تداعب شهوة الحياة، تغالب نزعة الاندثار وتبعث المعنى في الروح التواقة للحب والتفتح والازدهار، حتى وإن كَمنت اجتماعياً لزمن غير هذا، زمن تحقق في كلية الإنسان في دولة للكل المجتمعي. فالحرية بذاتها صِنْو الكلمة ومفتاح دَرْبها الشاق والطويل، وهذا موقف نهائي للحرية ضدّ الاستبداد كمتناقضين بحِدَّةٍ لا يتعايشان أبداً.
*نداء بوست