لم يكتفِ درويش بالحلول اللغوية، كما قال لصديقه الشاعر السوري سليم بركات بإطراء يوماً “حلولك لغوية” حسبما نقله بركات. فلم يكن وطنه لغوي الحلول أو يحتمل رفاهية اللغوي في طيش مقاصد اللغة حسب بركات ذاته، وليت سوريا باتت وطناً لغوياً لسليم بركات كما أشاد درويش بفلسطين.
درويش حول ثلاثة رموز في الحياة اليومية إلى لغة تصل لكل الكون أيا كانت لغتهم. الحرية والأرض والأنثى، رموز ثلاث، لم تكن مجرد لغة اكتفى بها في حلّ قضية الشعب الفلسطيني ليجلس من بعد في قصره العاجي، ينظّر عليهم كيف تكون الثورة، وكيف يكون الحب، بطريقة لغوية حلولية تخاتل المعنى وتفترض عَليّة التفوق “الذاتوي” على شعب تشرد في كل شتات الكون.
لم تكن دهشة أن يبقى الهنود الحمر رغم موتهم الجماعي. رقصة الهندي الأحمر ونايه خلدت قصة حضارة أبادتها لغة الآلة والقتل الحرام. ومعزوفة الهندي الأحمر تخلد حقيقته، أرضه، عاداته، ثقافته، حبه للحياة للسلام، وتجوب الكون أيضاً. ولم يكن الهندي الأحمر وحيداً بل كان مثله محمود درويش، وكل درويش حوّل الواقع الكارثي لرموز كونية نقلها لكل أصقاع الكون، عاشها حسّاً، تشرداً، معنى، وموقفاً، فكانت لغة واضحة، لا مخاتلة أو مخادعة فيها. لم تكن رصف جمل، ولا مجرد اشتقاق معان، ولا كفاية حلول.
درويش ليس أعجوبة زمانه، ولا أسطورة الحاضر. درويش عجن الخبز مع أمه، عاش الحنين والفقد، فقد الكروم وأشجار الزيتون التي تموت واقفة أبداً. تحسس حذوة الفرس، آنية النحاس، المفتاح والباب، الملح من أثر الدموع على جدار البيت.. امتلكها، والملك هنا انتماء ووجود لا سطوة واستحواذ وعسف سياسي. امتلك الكون لغة ورمزاً فباتت قضية شعب قضية وجود حملها رموزاً ولغةً. وليس فقط، بل خاض حوارات الحل الفلسطيني رافضاً التنازل عن حقه الفلسطيني. الفلسطيني ليس اللغوي كسيبويه، ولا الثائر العالمي كيجفارا، ولا قائد أمة الشيوعيين كلينين، ولا أسطورة فلسفية كهيجل أو كانط. الفلسطيني هو الإنسان البسيط، إنسان الحنين والأرض والتشرد، إنسان القضية والأرض والحرية، كما الهنود الحمر. هكذا حولها درويش لملحمة لا تموت، بل تحيا دوماً وأبداً حين جبلها بدمعه، بأساطير الخلود والحب والمعنى، بفلسفة الوجود والكون الأنيق.
رغم أنه هو بذاته كان محمود “جرحاً طفيفاً في ذراع الحاضر العبثي، والتاريخ يسخر من أبطاله وضحاياه” و”متران من هذا التراب سيكفيان” منهم 175 سم لجسده ذاك، والباقي ليشربه زهر فوضوي اللون على مهل، وينشره في كل فضاء الكون ريح أمة عصية عن الفناء، فهو: “أما أنا وقد امتلأت بكل أسباب الغياب لست لي”، بل لكل من يعبر على وجه البسيطة اليوم وغداً، لكل من يجرد المعنى من عبث اللغة والحلول الفوضوية، من انتقاء الكلمات والأسرار وتوضيفها في غير مكانها. فتلكم لغة تخاتل، وتلكم لغة تمتلك البحر والأرض والسماء وحرية المكان والوجود، وتصير الطير الشريد في كل أصقاع الأرض، فالفلسطيني لا يموت.
من مباشرية الوجود ومأساة وكارثة الفلسطيني، إلى رمزية اللغة متضمنة مقومات الواقع بكل تجلياته بوضوح دون موارية، إلى ثورة في اللغة والشعر، إلى مكونات مفاهيمية محدثة في عالم الفكر والأدب؛ فقد “جبل” درويش معاناة الفلسطينيين في قارورة شعرية عامة ميزت وجوده وحضوره اليومي في الأرض والحب والحرية، في الأنثى وجسدها الحنون الولّاد. فالحب والحرية والأرض أنثى! فكانت لغة الحنين المباشرية المريرة -ومعظم السوريين يعانون منها اليوم- لغة تحدٍّ وإصرار على الاستمرار والحياة حيث “أخشى خجلاً من دمع أمي”؛ إلى رفض علني للتصالح واستبدال القضية بمجرد كرسي أو سلطة كما يحبذ عباس أو هنية، كما معظم السياسيين السوريين، معارضة ومولاة، أن يعيشوها اليوم في شبهة نزوة في الحكم ليس إلا: “لا تصالح ولو توَّجوك بتاج الإمارة، كيف تخطو على جثة ابن أبيكَ؟ وكيف تصير المليكَ.. كيف تنظر في يد من صافحوك.. فلا تبصر الدم؟”.. فاللغة هنا كثافة رمزية للموت والولادة، للحب والحرية، لتحقيق أحقية الأرض وشعبها المستباح. اللغة عند درويش سلاح من الكلمات ومساحتها المتسعة في كسب مساحة الرأي العام العالمي وأحقية القضية، فهل يدرك معظم سياسيينا ومثقفينا هذا المعنى؟
لطالما خاتلني سؤال اللغة، وطالما استوقفتني الجمل حين ترتصف بجوار بعضها، ولا أجد فيها الروح! لطالما تساءلت أليست الأنثى أمّ لطفل تغتاله طائرة؟ أليس الإنسان رجلًا يبكي وليده المدفون تحت الأنقاض؟ أليس الإنسان طفلًا أراد الحياة فأردتّه القنابل العنقودية وشتى صنوف آلة الحرب هنا وهناك، وهل ثمة طفل موالٍ وآخر معارض؟ طفل مسلم وآخر علماني؟ وهل ثمة أم إرهابية وأخرى حضارية؟
الأم أم والطفولة طفولة، حيز عام ومفهوم ووجود كلي لا يخضع لتصنيفات الاجتزاء والأغراض السياسية التصنيفية دون الوطنية، فهل ثمة قول يصف وقع آلة الحرب في أفئدتنا ووجداننا العام؟ والسؤال الأمر كان، أين أصحاب الكلمة والشعر من هذا الذي اجتاح سوريا؟ أم أنها مجرد حلول لغوية ليس إلا؟
أما نحن متذوقي الشعر واللغة والكلمة، قد يعجبنا بركات أو درويش أو أدونيس، كلهم أو واحد منهم وقد لا يعجبنا أحد، وربما لا يتمكن كلنا من تحسس الفوارق اللغوية وتحليل الصور الشعرية بين هذا وذاك، ولربما من الحق القول كلٌ له أدواته وصوره وأبطاله وأسلوبه، لكن بقي درويش روح قضية الفلسيطيني الموسوم بالإرهاب زيفاً، بقي درويش لغة واضحة تكتنز المعنى والروح، تحلق في فضاء الكون، تجوب أطراف سطح البسيطة، لغة يفهمها الطير والبشر، عامة البشر وفلاسفتهم. وهذا لوضوح القضية والهدف والمعنى مهما عبثت فيها صور الإعلام والتشويه السياسي الغارض، وحقيقة لم يعد مستغرباً، هذه المخاتلة اللغوية في شعر الكثير من الشعراء والفنانين والممثلين، والذين مثلوا لتاريخ طويل وجدان الإنسان البسيط في رغبته وحلمه الإنساني، موروث الشعب في حلمه الوطني؛ ولم يعرفوا، ولم يريدوا أن يسمعوا عن أطفال سوريا شيئاً ولا عن قصة موتهم المعلن. بعضهم، و”إنسانوياً”، بشكل موارب ومجافٍ للإنسانية بعمقها، حين تكون الطفولة كما الأمومة والمشاعر الإنسانية في الظلم والقهر مخصصة لفئة من البشر من دون غيرهم، اكتفى بالنداء لحماية الكلاب، وبعض شعراء البلاط والسلاطين أنشدوا الغزل في الأنثى وعشتار، ونصبوا شراك اللغة أمام متذوقي الشعر، فبدل أن ينهضوا بقيمة الإنسان وقيمة الأنثى والأطفال والطفولة في محنة موتهم الكبير، كانوا وما زالوا يستمتعون بما يجنون من منابر تفتحها لهم السلطات المتوحشة؛ ليصبحوا نجوم مسارحها، وغزاة ليلها سراً، في مشهد أقل ما يقال عنه أنه إسفاف في القيم لما دون التسطح والهزالة.
أياً يكن، فلا رغبة لي بإدخال السياسة في الشعر والكلمة واللغة، فلكل زاده وموقفه. ولا رغبة لدي للدخول في خصوصية صديقين كدرويش وبركات، لكن بات معنى الحلول اللغوية أكثر وضوحاً اليوم، لا بل شاهد عيان على مواقع موتنا المعلن، فكيف تكون الصداقة مجرد لغة؟ الصداقة صدق وأمانة، فكيف تصبح مقالة، مجرد مقالة؟ يقول صاحبها، إن صديقه أسرّ له أن له ابنة من أم متزوجة، وهو الذي رفض أن يتحسس الأبوة فعاشها معنى وجودياً وحسب. وحيث إن الحلول اللغوية مواربة بمحتواها، يصبح ما نقله بركات عن لسان درويش على أنه سر صديق مات من سنين طوال ودفن في مترين من الأرض، مجرد مخاتلة لغوية أخرى، وحلولاً فضفاضة لمشاكل السادية الرغبوية المتعالية، لرصيد من شعراء كنا نعتبرهم وجدان أمة، فباتوا مختبئين خلف لغة مليئة بالرموز خالية من الوضوح، وليته اكتفى بذات الرمزية لأبقينا الشعر في مكانته العليا ذوقياً، لكنه لم يختر إلا وضوح سر، لا نعلم مدى صدقه، ولا يستطيع صاحبه نفيه أو الاعتراف به، وكلي خشية أن تدفن ذات الحلول اللغوية وجودنا الكارثي اليوم، في شبهة لغوية ورمزية تكتنفها عجائبية الرمز دون المعنى والحضور، فنصبح شعب بلا ناي هندي ولا رمزية درويش، وبلا صدر أم أو أنثى تطبب على جراحنا موتاً أو حياة.. فلغة درويش ومن يشبهه لغة تنجب وطناً، ولغة الآخرين تصرّ على اغتياله فجاجة.
*ليفانت