- لماذا تطيل النظر للسماء يا أبي؟
- أعد النجوم يا ابنتي؟
- لكنك تعدها منذ سنين ولم تتغير؟؟
يحيل وجهه عن براءتها، وصمت طويل كجبل يجثو على صدره؛ ثمة مغالطة كبرى في الكون أن يبكي الرجل أمام طفله، وبين أن يدرج أمامه سيل الآهات ومعاني النجوم تلك… فكيف يحبسها وهو لا يكف عن تعدادها!
- تعالي نعدها معا:
ثمة نجم يهز الكون أرجوحة وجود، كان طفلاً ذات يوم. كان بسماته والأطفال حوله مراجيح العيد. كانت تتقافز ضحكاته كأنها غزالات المرج والوقت معاً، حين كان الكون يوم مولده، وقد بات يوم وأده أيضاً، موسيقا متناغمة، واليوم هو ذا نجمة تتلألأ..
وآخر يداعب غيمات تمر من تحت إطلالته، ذو أضواء تتكسر بين ثناياها، يحاول ازاحتها كي لا تحجبه؛ يعجزه تحريكها كونه بات بيد واحدة! لقد بُترت الأخرى بفعل قنبلة طائرة مركزة، وبات عاجز عن الإحاطة بكلتا يديه، والإحاطة فعل حنان وضم! كان يغمر وجه أمه وحضنها بهما، لكنه اليوم استحال نجمة وحيدة الظل بلون وحيد يتكسر ألماً، وكأنها بلورات صقيع الثلج تبهر من شدة الحزن…
ورعيل من النجوم هنا وهناك، هناك كما درب التبانة في رحلة النجوم تشابه طريق “التبن” حيث يجمع الحصاد، هناك درب حمص وحماة وحلب، والآخر درب داريا والغوطة وحوران، وفي جهة أخرى درب السهل والفرات والدير، وفي ضفة ثانية من الكون درب الساحل والغاب والجبل، وعلى مثلث كل منهما، درب عيون تتربع زاويتها عيناي ….
- هل عرفت ما النجوم يا وليدتي؟
- يا حزنك المقعد في قاع يومنا العميق، ولما لا أقول أنك تضحك علي بهذا يا ابي؟ تغريني بأن مشهد النجوم أجمل وأبهى من أي ملامسة أرضية، من أي شكل وجود لنا في هذه الأرض الكارثة، تضحك علي حتى لا أطالبك بثياب عيد، بمراجيح العيد، بحلوى العيد….
تشرد عينا أبيها ويزداد هطول قلبه …
- يا نوارتي…
تقاطعه ابنته،
- هل تظنني لا افهم أو لا أعلم؟ اسمع مني يا ابي، وانتم الذين طالما رددتم أمامنا أن حياة أخرى في اليوم الآخر أكثر جمالاً وعدلاً، يوم يصنف الله عبيده بين أخيار وأشرار، ونصيب الأخيار منا، والأطفال في مقدمتهم، جنة خالدة، فلماذا تبكي اليوم؟ ألم يذهبوا لتلك الموعودة التي كنت تحدثني عنها! ويزداد الأب ذهولاً…
يا ابي، هل تعلم أننا نعلم ونعلم كل شيء، ولقد أرسلنا مع أحدنا ذات يوم وقبل أعوام مع أحد رفاقنا رسالة لله “أن يخبره بكل شيء”، يخبره بليالي الحصار الطويلة، البرد الطويلة، الموت البطيء، بأيام القصف الجوي والبري والموت الأصفر الكيماوي. الهجرة الاجبارية والنزوح وسفن الموت البحرية أو القتل كيفما اتفق؟ ترى يا ابي هل وصل رفيقنا لله وأخبره؟ أم لم يستطع الوصول؟ ولماذا لم يفعل الله شيئاً لنا؟ لماذا يصر الله على قهرك، على تكديس الألم في قلبك، في قلبي أمي، على جعل الخوف حاضرنا المستديم والموت شهوة دائما خلاصاً من هذا وذاك…؟
يا الله لو كنت ذو عدل وصاحب جلالة لفعلت! يا الله لو كنت ذو قدرة وقيامة لما غفوت أو سهوت!
يا الله، يا من استبدلت ولد إبراهيم الخليل بكبش من السماء تفتدي به ابنه، ألم تستطع أن تفتدينا نحن وآبائنا المقهورين بقطيع من الكباش؟ أم أنك ذو تخصص فقط في ألام إبراهيم والمسيح وأمثالهم الأنبياء؟ وبت أشك أنك متخصص فقط في افتداء أبناء الأغنياء….
- يكفي، يكفي يا بنتي، يكفي لا تكفرِ بالله في ليالي عُشر عيده…
تنفلت حنجرة الطفلة ويعلو الصراخ,,,
- أي عيد يا ابي، أي عُشر يا أبي، تعال أنت وعد معي معاني الكفر هذه، هل تذكر حمزة الخطيب ومثله الآلاف حين باتوا نجوما، حسب قولك، بدءا من معتقل، هل نسيت؟ وهل لازالت تسمع تكرار الصدى وهو يردد، يا قرة عيني: “أمانة عيوني” في ملحمة طفولة في السابعة من عمر الورود، حين فقد بصره فجأة ودخل الكون من حوله في عتمة هول شديد، وكان الطفل يحب نور الحروف والله أيضاً! وذاك الذي لم يزل يلحن أسطورة الوقوف وعدم الخشوع على بحر وجعه الممتد بين كل أوتار العزف وما فتئت قيثارته تردد: “شيلني، يا بابا شيلني” حين قطعت قذيفة قدماه، ونزفت من كل جنباته أسطورة الوقوف والانتصاب والجري خلف الفراشات، وأباه يقف مشدوهاً في ذهولٍ وهولِ فجيعة.
كما كان كل ضمير في هذه الأرض في ذهول وصمت مطبق، وكان الله يكتفي بالفرجة والنظر… ان الله بلا عدل يا ابتي، فأيهما الكفر أجبني ….
عشرة أعياد مرت يا أبي وأنت تنتظر، وأمي تنتظر، وجارنا، وجارتنا وأنا ومن بقي منا أطفال الحي، ننتظر عدالة الله، جنته الموعودة، فرجه المعهود، ننتظر تفسيرا ولو بسيطاً لزيادة ابتلائنا بهذا الهول من الفاجعة المتراكمة حين يحبنا الله ولم ينصفنا بعد!
عشرة أعياد وهذا الحادي عشر يا الله. الله ذو الجلال والعزة والقدرة، لم يفعل لنا شيء سوى أنه زاد في اتساع السماء لنمر اليها نجوما! فهل عدالته هذه ما يستطيع… أم أن الله غير موجود!
يقال، أن جثة الأب وجدت بعد يومين من هذا الحديث باردة، عيناه مركزتان في السماء، وصورة وجوه جميلة لأطفال كثر قد التصقت فيهما، وأن يده اليسرى كانت تشير للسماء والأخرى تلتحف قلبه، وابنته تمر بيدها على رأسه تراقبه عند كثب، تحار بين درب السماء السعيد هذا ومعراج الأرض الرهيب، حين بات العيد في الأرض وبالاً والجنة خدعة كبرى، والسماء متسع للفرح وتراقص النجوم بينما غدت الأرض آلات قتل لا تتوقف وقد غدا الإنسان وحشاً تحكمه شهوة الدم وقتل الطفولة الحرام… وقلبها يردد قول والدها الأثير:
- وحده الكون موسيقا فرح متناغمة….
ولا زال الله في حضرة علياءه يتفرج ويطيل التأمل في خلقه وشؤونهم ومواكب موتهم اليومي، وكأن النجوم تطلب المزيد!…
*خاص بالموقع