في الثامن عشر من آب/ أغسطس الجاري، صار الباكستاني عمران خان رئيسا للوزراء في بلاده، مُنهيا بذلك دوامة تداول السلطة في باكستان، بين عائلات بعينها، وتحديدا آل بوتو وآل شريف.
وبعد أن قاد باكستان إلى أول وآخر انتصار لها في لعبة الكريكيت، أسس خان حزب “الإنصاف” عام 1996، واسم الحزب الذي يشبه عناوين مواضيع الإنشاء المدرسية، يعطي فكرة عن المدخل الذي اختاره الرجل لدخول الحقل السياسي: الإيحاء بأن هناك مناخا من الظلم استوجب طرحا يعود على المواطن الباكستاني بـ”الإنصاف”.
وكشخص متشبع بالثقافة الغربية، ومدرك لأساليب دغدغة المشاعر، لجأ عمران إلى خطاب ممعن في الغوغائية، فهو تارة وطني متعصب، وتارة أخرى نصير للإسلام.
وفي بلد عانت كثيرا بسبب عمالة رؤسائه العسكريين المتعاقبين لواشنطن، اختار بذكاء شحن خطبه الجماهيرية بكلام ناري عن الولايات المتحدة، وإن كان من فصيلة “كلام الليل يمحوه النهار”.
ورغم أن عمران خان لم يقصر في سب الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب، إلا أن هناك قواسم مشتركة كثيرة، بينهما منها الاستفادة من مجانية الكلام، لبذل وعود للمواطنين بالمن السلوى، وادعاء أن لديهما قدرات خارقة لتحقيق الرخاء والازدهار، فالسياسي الشعبوي حتما نرجسي، بنفسه شديد الإعجاب.
وكما ترامب، فإن خان لمع في مجال بعيد عن السياسة، وعمد لاستغلال تلك النجومية لدغدغة المشاعر وتسويق نفسه، وكما ترامب، فإن لعمران خان غزوات ونزوات ضارية في مجال العلاقات بالحسناوات، وكما ترامب فإنه استغل ثروته لتلميع نفسه جماهيريا، وإن كان من مقتضيات الإنصاف، أن نقول إن عمران خان، اختار العمل الخيري المجدي وسيلة لكسب القلوب.
ولكن مهما قيل في ذم عمران خان، فإن لفوزه وجه إيجابي: لا زعامة للقدامى، بمعنى أن الشعوب تستطيع التخلص من قادتها السياسيين المزمنين، وتعطي الفرصة لوجوه جديدة.
أقول هذا وقد ظلت تتردد على مسامعنا طوال السنوات التي أعقبت الانتفاضات الشعبية في عدد من الدول العربية، تحذيرات من القيادات المتكلسة، إزاء كل فورة غضب شعبية: هل تريدون لبلادكم أن تشهد ما تشهده سوريا وليبيا واليمن؟
من يستخدمون فزاعة انتكاسة انتفاضات 2011 لتخويف الجماهير من عواقب التغيير، يقولون ضمنا، أي تلميحا لا تصريحا، إنهم فقط ضمان الاستقرار، ولا عليهم أنه استقرار بالحديد والنار، وبلا ثمار في مجال الخدمات الضرورية والحقوق المدنية.
سبق عمران خان في الصعود إلى قمة السلطة التنفيذية، جورج ويا، الذي فاز برئاسة ليبيريا بالانتخاب الحر، بعد أن نال غالبية أصوات جماهير بلاده التي عانت من الإبادة الجماعية، في ظل عنف أهوج استمر ربع قرن كامل.
وكما عمران خان، فإن ويا صنع مجده الشخصي في ميادين الرياضة، وبالتحديد في كرة القدم، وفاز بلقب أفضل لاعب في أوربا في تسعينيات القرن الحالي، وكما خان فإن ويا ظل ينافس في الانتخابات الرئاسية في بلاده في عدد من الدورات الانتخابية، إلى أن فاز بالرئاسة العام الماضي.
ولكن ويا يختلف عن خان في كونه ولد بلا حتى ملعقة خشبية في فمه، فقد ولد وترعرع في كوخ صفيح عشوائي.
أما كبيرهم الذي علمهم الجسارة، فهو رونالد ريغان، الذي فشل في إثبات وجوده في مجال السينما، ودخل عالم السياسة على المستوى الولائي (كاليفورنيا تحديدا)، ثم شق طريقه إلى البيت الأبيض، ويعتبره كثير من الأمريكان واحدا من أميز رؤسائهم.
الإيطالي سيلفيو بيرلسكوني، كان ولا يزال عاشقا للأضواء، فهو من فصيلة: ولَكَم تشيطن كي يقول الناس عنه تشيطنا، فعندما أدرك أن ملايينه لا تكفل له الشهرة المنشودة، دخل كما ترامب مجال البرامج التلفزيونية، وقام بتسريب غزواته النسائية لوسائل الإعلام، ثم راهن على الصيت السيئ، ودخل مجال السياسة، وصار رئيسا لحكومة بلاده ثلاث مرات.
بال شميت جلب لبلاده المجر، الميدالية الذهبية في رياضة الشيش، ثم دخل السياسة وصار رئيسا للوزراء عام 2012. (غادر منصبه خاسئا بعد اكتشاف سرقته للرسالة التي حصل بموجبها على درجة الدكتوراه).
جيمي موراليس، نال جماهيرية واسعة في بلاده غواتيمالا، بوصفه ممثلا كوميديا ثم مخرجا ومعد برامج تلفزيونية، ثم ركب موجة غضب شعبي على فساد الطبقة الحاكمة، وفاز بالرئاسة عام 2015.
ظل الفلبيني جوزيف استرادا ممثلا في السينما والتلفزيون طوال خمس وثلاثين سنة، وفاز بكرسي الرئاسة عام 1998، بينما لم يجد أهل ليتوانيا رجلا يقود البلاد عقب خروجها من جلباب الاتحاد السوفييتي، أفضل من عازف البيانو فتيوتاس لاندسبيرغس.
وبلوغ أهل الرياضة والتمثيل والموسيقى سدات الرئاسة في عديد البلدان دليل على خطأ مقولة إن الرئاسة تتطلب خبرة في مجال السياسة.
دعك-مثلا- من عبد الناصر وصدام والملك حسين وغيرهم الذين تسنموا أعلى مراقي السلطة في بلدانهم، دون أن تكون لهم أي خبرة في مجال العمل التنفيذي، وخذ نموذجا واحدا/ واحدة من أفضل من شغل منصب مستشار ألمانيا كفاءة، وهي أنجيلا ميركل.
فرغم أنها من مواليد هامبورغ في ألمانيا الغربية عام 1954، إلا أنها عاشت معظم سنوات عمرها في الشطر الشرقي/ الشيوعي من ألمانيا، وعملت طويلا في مجال “الكيمياء”، ودخلت المجال السياسي بخطى مترددة عام 1989، في لحظات تداعي جدار المعسكر الاشتراكي.
واليوم تعد هذه الـ”ميركل” القائد الأعلى للاتحاد الأوروبي.
والشاهد أيتها الشعوب القابعة تحت نير طواغيت منذ عقود: ما من شخص يولد جاهزا لقيادة حزب سياسي أو دولة، فأطيحوا بالأصنام، فلا يوجد شعب رحمه عقيم، وأجمل الأطفال قادمون ساعة فساعة، عيونهم شديدة البريق، وعقولهم شديدة الاتساع.
المصدر : عربي 21