ان ذلك في 20 تشرين الأوّل/ أكتوبر من عام 1971. وصلَت برقيةٌ سرّية ومستعجلة من سفارة تشيلي في استوكهولم إلى العاصمة التشيلية، سانتياغو. كانت رسالةً قصيرة ومقتضبة، ولكن على الرغم من ذلك، حملَت خبراً مهمّاً للبلد: “تشير المعلومات السرّية التي حصلت عليها السفارة أنّ جائزة نوبل لهذا العام ستُمنح غداً لـ نيرودا. الرجاء التعامل بسرّية كاملة مع هذا الخبر، على اعتبار أنّه غير مؤكَّد”.
هذه الوثيقة وغيرُها من الوثائق والأخبار الكثيرة استُخرجت من الأرشيف التاريخي لوزارة الخارجية التشيلية، وقد تناولها الباحث والأكاديمي التشيلي أبراهام كيسادا بيرغارا في كتابه الصادر حديثاً عن دار “ريل إيديتوريس”، والذي حمل عنوان “بابلو نيرودا – سلفادور ألليندي: صداقة وتاريخ”.
يُعتبر كيسادا من أبرز الذين درسوا أعمال صاحب “كتاب التساؤلات”، وهو لا يكشف عن خبر مهمّ فحسب، ولكنّه يروي في الكتاب تفاصيل دقيقة عن آلية العلاقات الخارجية التي كانت تَحيك بدقّة وبراعة خطّةً مُبرمجة لتسهيل حصول نيرودا على جائزة نوبل للأدب، والتي تُعتبر أبرز جائزة أدبية عالمية. وقد كان الطريقُ إلى ذلك طويلاً جداً.
بالتحقيق في أرشيفات موقع “جائزة نوبل” على الإنترنت، والتي تنشُر معلومات أولئك الذين كانوا مرشَّحين لها بعد مرور خمسين عاماً من كلّ دورة، نلاحظ أنّ المرّة الأُولى التي رُشّح فيها بابلو نيرودا (1904 – 1973) رسمياً للجائزة كانت في عام 1956، عندما رُفع طلبُه من قِبل أندريه جوكلا رووا؛ أستاذ الأدب في “جامعة إيكس مارسيليا” الفرنسية.
في ذلك الوقت، كان نيرودا قد نشر كتباً مهمّة في مسيرته الأدبية مثل: “عشرون قصيدة حبّ وأغنية يائسة” (1924)، و”إقامة في الأرض” (1935)، و”النشيد الشامل” (1950). وبعد ذلك، سيبدأ بحملة نشر مجموعة من الكتب هي: “قصائد القبطان (1952)، و”العنب والريح” (1954)، و”قصائد جوهرية” (1956).
هذه الغزارة الإنتاجية، والتي احتفظ بها حتى رحيله، لم تكن عبثية، بل كانت جزءاً من استراتيجية، استخدمها الشاعر لجذب انتباه الأكاديمية السويدية؛ يقول أبراهام في كتابه: “لقد برع في إدارة موهبته، عرف جيّداً كيف يُدير إنتاجه الشعري، كانت استراتيجيته نشر أيّ شيء. لقد كان آلة إنتاج! وقد حرص بشكل كبير على نشر طبعات لكتبه في بلدان مختلفة. لقد اتّبع أسلوب ابنة بلده الشاعرة غابرييلا ميسترال (1889 – 1957)؛ التي حصلت على “نوبل” عام 1945، إذ حرص بشكلٍ منهجيٍّ ومستمرّ على الظهور أمام الصحافة، في المؤتمرات، في المهرجانات الأدبية، في أعمدة الجرائد، في كتابة الرأي، وحتى في المقابلات الصحافية. كانت سياسية دعائية ممنهجة، وفُتحت له جميع الأبواب بسهولة تدعو إلى التساؤل”. استُكملت هذه الاستراتيجية، كما يقول الباحث المتخصّص، بجولات وزيارات حول أنحاء العالم: “زياراته إلى بلدان العالم لم تكن تمرّ كأيّ حدث عادي، كان يجتمع دائماً مع رئيس البلد الذي يزوره”.
الصورة
غير أنّ الخطوة المهمّة التي جعلت نيرودا أقرب إلى الجائزة كانت نشاطه السياسي. لقد عُرف عنه أنّه، وحتى ورحيله، كان عضواً في صفوف “الحزب الشيوعي”، كما كان عضواً في “مجلس الشيوخ” بين عامَي 1945 و1948، ثم جاءت سنوات نفيه: “الشيء الوحيد الذي سمح له بالفوز بـ”جائزة نوبل” هو أنّه كان جزءاً من شبكة من المثقّفين والسياسيّين اليساريّين. كان تشدُّدها الشيوعي عاملاً أساسياً، لأنّه كان حزباً ذا بعد عالمي، لا سيما ‘الحزب الشيوعي’ في تشيلي. من دون هذه الشبكة من الخطوات لا يمكن فهم كيفيّة حصوله على الجائزة”، يعلّق كيسادا.
إلى جانب هذا كلّه، تعلّم نيرودا أن يكون لبقاً وسياسياً ماهراً من أجل الجائزة. ففي عام 1966، مثلاً – يروي مؤلّف الكتاب – نُشرت رسالة من كوبا ضدّ الشاعر تتّهمه بـ”عدم الالتزام السياسي”، وجرى تداولها في الأوساط الفكرية الرئيسية. حدث هذا ضمن خطّة ممنهجة “حتى إنهم أرسلوا الرسالة إلى الأكاديمية السويدية”. لم يرُد نيرودا بشكل علنيّ على الأمر، اكتفى بكتابة رسالة إلى صديقه الكاتب الفنزويلي ميغيل أوتيرو يقول فيها: “هل رأيتَ الابتذال والخيانة والخطأ الكبير الذي ارتكبه غيينيس في كوبا؟”. هنا انتهى الأمر، كان بإمكان نيرودا، الذي عُرف عنه الانفعال، أن يتسبّب بفضيحة أكبر، لكنّه لم يرغب بالمخاطرة، لأنّه سيَظهر بمظهر المشاكس ومفتعل الصراعات، وهذا ما لم يُرد أن تأخذه عليه الأكاديمية السويدية.
سيستمر نيرودا في حملته المُمنهجة في نشر الكتب، كما لو أنّ حياته ستضيع، سيزور البلدان، وسيقيم علاقات عامّة مع الصحافة، ولكنه سيصطدم بعقبة لم يحسب لها حساباً؛ وهي وكالة “سي آي أي” الأميركية، التي، وكما يقول مؤلّف الكتاب، أرسلَت أكثر من تقرير إلى الأكاديمية السويدية، تتحدّث فيها عن انخراطه السياسي في “الحزب الشيوعي”، وعن استخدامه الشعر كـ”أداة لالتزام سياسي شامل وشمولي”. لكن سرعان ما سيتغيّر الحال عندما يصل صديقه العزيز سلفادور ألليندي إلى الحكم، والذي سيكون داعمه الرئيسي؛ إذ ما إن صار رئيساً حتى عيّنه سفيراً في باريس، وهي خطوةٌ يفسّرها كيسادا بسعي السلطات التشيلية إلى تأكيد حضوره في النقاش الثقافي الغربي والتعريف به في أوروبا الغربية.
لم يتوقّف ألليندي عند هذا الحدّ، بل كانت خطوته المهمّة، والتي ساهمت بشكل كبير في ترويج اسم نيرودا في السويد، هي تعيين صديق بابلو المقرّب سفيراً في استوكهولم. هكذا، وبعد سنة واحدة من ذلك، ستُثمر جهود صديق نيرودا المقرَّب، الكاتب والدبلوماسي لويس إنريكي ديلانو، بأن تكون البرقية التي وصلت إلى العاصمة التشيلية في عام 1971 صحيحة، وستعلن الأكاديمية أنّ الشاعر بابلو نيرودا، الذي يبلغ من العمر 67 عاماً، حصل على جائزة نوبل للأدب “لأنّ شعره يمنح، بفعل قوّة الحياة الجوهرية الموجودة فيه، مصير وأحلام قارّة كاملة”.
*العربي الجديد