أحمد خميس، روائي وقاص سوري مقيم في اليونان
أوراق 19- 20
القصة
أنهى (ديميتري) نجار الموبيليا الجورجي تصميمه الثالث لمخطط المكتبة التي قررتْ زوجتي إهداءها لي بمناسبة عيد ميلادي التاسع والثلاثين.
الطريف في هذه الهدية هو أنني من دفع إلى ديميتري مبلغ 1500 يورو لقاء أتعابه رغم إصراري على (نهلة) بأني راضٍ بمكتبتي؛ وسعيدٌ بها لاسيما بعد أن عثرتُ على صورةٍ قديمةٍ لأبي أرسلتها إلى (ياسر) صديقي الذي كان يعملُ في إحدى الصحف السويديّة، حيث تمكّنَ من رفعِ جودتها، وتكبيرها ووضعها في إطارٍ نحاسيّ راقٍ جداً زيّنتُ بها المكتبة، وأفردتُ لها الطرف المقابل مباشرةً لروايتَيَّ الاثنتين.
كل ما فعلتْه السّيدة نهلة أنّها رفضتِ التّصميمين الأول والثاني، ووافقتْ على الثالث وبذلك أصبحتِ الهدية سارية المفعول، وسأظَلُّ ملزماً بدفعِ ضرائب امتناني وعرفاني لها إلى السنة القادمة.
في الواقع لا أعلم السبب الذي دفعني لوضع صورة والدي قبالة روايتَيّ ربما لأنيَ اشتقتُ إليه وأنا الذي بالكاد أذكرُ ملامحه الخشنةَ، وسحنته السمراءَ المهيبة، أو لأنني كنتُ واثقاً من أنّه يراني حينما أكتبُ، ويقرأ اسمَينا على كتبي ومقالاتي.
إحساسي تجاه ذاك الرجل الذي رحلَ باكراً غريبٌ حقاً، غريبٌ لدرجةِ أنّـي لطالما اختلقتُ ذكريـات غير حقيقية معه، ابتكرتُ ماضياً وتاريخاً لم يكن.
الآباء مجاديفُ حياتنا وقواربنا دونهم تائهة …
في الثالثة بعد ظهر الأول من “حزيران” اليوم السابق ليومِ مولدي؛ أجبرتني نهلة على اصطحابها، وولدينا إلى مطعم “تابولي” القريب من بيتنا في “إستكهولم”
كانتْ على غير عادتها، مضطربة، قلقة، تشي تقاطيع وجهها، وردّات فعلها بشيء لم أتمكّن من تخمينه البتة.
_لمَ نحنُ هنا يا نهلة؟
_ولماذا يقصد الناسُ المطاعمَ يا رجل!!
_لكي يأكلوا ..
أجبتُها وأردفتُ:
لكننا لم نعتد الأكل في أوقات كهذه.
_استمتِع يا حسام؛ استمتع؛ ألم تشتق روحك إلى أجواء عربية كهذه.
وراحتْ تتحدث عن التّبولة، والمحاشي، والكبب التي يقدمها هذا المطعم اللبناني بلا مبالاة زائفة ومصطنعة.
_نهلة أنت لستِ على ما يرام .. أكاد أجزم.
صمتتْ قليلاً – نهلة لا تجيد الكذب إنها ماهرة بصنع السعادة وإعداد الأمل – ترددتْ، شربتْ كأس ماءٍ على عجل، وأشارتْ إلى مُحمّد ابننا الأكبر أنّ يذهب، وأخاه إلى صالة الألعاب التابعة للمطعم.
_حسام .. قالتْ وقد أخذتْ نفساً عميقاً:
في الحقيقة لقد دخلتْ (عمتي) والدتك المستشفى صباح اليوم وهي في حالة غير مستقرة.
متى ماتت!! وكيف!! أجبتها بعزيمة مصارع في جولته الأخيرة.
إنها في المستشفى…
متى ماتتْ أمّي يا نهلة!! كانت المرّة الأولى التي أرفع صوتي في وجهها. وكأنني أقي نفسي الطعنة العظمى، والمصيبة التي لن تضاهيها مصيبة أخرى.
ظهر اليوم، ظهر اليوم حسام. قالتْ وغطّتْ وجهها بكلتا يديها ..
لا أعرفُ في الحقيقة كيف يستطيعُ الناس التعامل مع فجائعَ كهذه!
هل الدمعُ وحده من يتكفّل بحلّ مسائل معقدة إلى هذا الحد!
الصراخ!!
الركض في الشوارع كالمجانين!!
كنتُ واثقاً من أنّ أمّي لن تموت!! كلُّ الخلائقِ تموت إلا أمّي. لكنها ماتتْ ببساطة، غادرتْ كلها دفعة واحدة.
الروح التي كانت حياتي تتمحورُ حولها فقط، كنتُ أركض في الحياة ركضاً، أصارعُ الوقت لكي ترى نجاحاتي بأمّ عينها.
دعينا نعودُ إلى البيت. قلتُ بيأسِ محاربٍ خسر كلّ شيء.
عدنا … مشيّاً أو بالسيارة، لستُ أعي.
فتحتُ هاتفي الذي اعتدتُ إغلاقه فور دخولي إلى مكتبي ومباشرتي الكتابة. ثمّة رسائل صوتية وردتْ من إخوتي وأخواتي.
كانوا يبكون … إلا أنا، وقفتُ على شفيرِ صدمتي وذهولي، تحجّرتْ دموعي، وتيبّستْ عواطفي إلا أنني شعرتُ بالبرد.
للمرّةٍ الأولى مُذ وطئتْ أقدامي ثلوجَ هذه البلاد أشعرُ ببردٍ مختلفٍ عما ألِفته قبلُ، أحشائي ترتجف وقلبي، ظلمة دهماء تلفّ عالمي.
كانت نهلة بالقرب منّي قابضةً برفق على يدي، محاولةً الصمود قدر استطاعتها كونها تدرك أنها جسريَ الوحيد، وأول خطوط دفاعاتي في هذه البلاد الشاحبة الكئيبة.
لا بد أن نبكي يا حسام، الدمع يبللُ صحارى الروح فيمنح رمالها ندىً يعيد إلينا حياتنا مرة أخرى.
هززتُ رأسي ببلاهةٍ .. ونظرتُ إلى مكتبتي الجديدة، يبدو أن (ديمتري) انتهى منها في الوقت الذي كنّا فيه بالمطعم. لم يكنْ تصميمها غريباً عليَّ، مألوفاً أكثر من أيّ شيءٍ آخر، جميلاً أعادني من حيث جئت.
كان أبي ورغم التحديث الذي طرأ على المكتبة؛ في مكانه الذي وضعتُه فيه .. اقتربتُ منه، تمنيتُ لو أنه يمتلك القدرة على احتضاني، لو أنه يفعل ذلك الآن فقط.
أطفأتْ نهلة أضواء البيت كلّها عدا ضوء أزرق خفيف قبالة أبي، صوتٌ مرتعش رحتُ أسمعه من مكبر الصوت المدفون في الجدار المقابل للمكتبة.
رسالة أمي الأخيرة … كان صوتها دافئاً رقيقاً رغم السنين، شجيّاً كبوح العاشقات:
“كلُّ الأشجارِ قد كبُرت في غيابكم عدا شجرةِ الزيزفون التي اقتلعوها من جذورها بالأمس في غارةٍ أخطأتني وأصابتْ” أم جمال” تلك المسكينة التي لطالما أسقتكم من حليب بقرتها يوم كنتُم خرانقَ غِضاضاً، والنهرُ لا زال يجري يا حبيبي، وكعادته في الربيع يغزو كتفيه، فيُغرِقُ السنابلَ التي كانتْ تعتقد أنَّ الماءَ منقذُها.
هكذا نحنُ الأمهات يا حسام كالسنابلِ … نغرقُ دائماً.
والطريق، آهِ منها تلك الطريق أتَذْكُرُها!!
كم قبّلت خُمصَ أقدامكم!!
كم حرثتم حافتَيها!!
وركضتم عليها والمطر يغسلكم وأنتم تلعبون وتغنون ..
“مطر مطر عاصي
الله يطول راسي
راسي بالمدينة
ياكل حبّة تينة”
مشتاقةٌ مثلي هاتيك الدروب، مشتاقة والشوق يثقبها فتنزف، تنزف كديسم جريح تحاصره الثلوج.
أوه يا حسام، يا يمة ..
كم طويلة تلك الدروب!
طويلة تصل شرق الأرض بغربها، هكذا هي الطرقات لا تملّ ولا تكل، لكنها بالنسبة لي أقصر من تلك الشريطة الخضراء التي أحضرتها من مقام الشيخ “عيسى” وعقدتها على عنقك؛ خشية عليك من الحسد.
بالمناسبة لم أعد أخاف عليكم عيون النسوة أبداً؛ لأن الحرب تلاعبت جداً بنا وبمعايير خوفنا.
قد تظنون يا ولدي أن كثيراً من الأشياء قد تغيّرتْ.
نعم! صحيح، لقد تغيّر الكثير والكثير.
“مقبرة التلّ” ضاقت بموتاها، ولم تعد تحتمل زواراً جُدُداً.
كذلك مقبرة “الضيعة”. لكن خالك أبا أحمد قد تبرّع بجزء من أرضه المحاذية لها قبيل وفاته، مُفسحاً المجال لمزيد من الأموات الذين راحت تتقيّؤهم أرضهم.
بلادٌ تنتهك عذرية شبابها وترسلهم إلى الجحيم بقوارب مطاطية لن تتوانى في رجم شيوخها وصفع وجوههم العتيقة المتعبة.
ربما تنبّأ خالك أنه لن يجد مترين يحتويانه، فأقدم على ذلك رحمه الله.
بني …
لا أريد لكم أن تجزعوا في الغياب، ولا أن تندموا على رحيلكم؛ فالأرض حتى الأرض ضاقت بموتاها هنا، غيومنا مثلنا بائسة، وشقائق النعمان في التّلة التي لطالما كنتم تلوذون بها مني إذا ما أغصبتموني لم تعد تنمو مذ وطئت سلاسل الدبابات تربتها.
ودُورُكم آه من دُوركم يا صغيري مهجورة، مهجورة حقّاً. لكنني لم أكن أراها مهجورة يوماً.
أراكم وأولادكم، وزوجاتكم كلّ يوم، كنتُ أصنع من غيابكم أملاً وأراهن نفسي وأكسب الرهان.
هناك أنت على السطح كعادتك برفقة صَحْبك تلعبون الشّدّة وتدخنون الشيشة، يعلو صوتك الجميل على أصواتهم، تغضب، فتطردهم وتأتي إلي، تقبلني وتشتمهم ثم لا تلبث أن تناديهم مرة أخرى، وغير بعيد عنك هناك أخوك وأطفاله يزرعون الفجل والحشائش.
ترى أما زال يحبها؟!
أظن أن “الأجانب أولئك الشقر الباهتين” لا يحبون الفجل، أليس كذلك يا حسام؟!
أتدري؟!
ما ذخّرتُ روحي بعيونكم كما ينبغي، ولم أُكحل جفوني برؤية شيب الشباب في نواصيكم، كنتُ واثقة بأني في الصباح سألتقيكم، ستعودون لاعنينَ تلك الغربةَ المُرّةَ، ستعودون وقد شحبتْ وجوهكم من الثلج والبرد. وفي كلّ مَرّة يخيّب ظنّي، فأنتظر الصباح التالي ليخيّب ظنّي مرّة أخرى.
ربّيتكم شبراً بنذرٍ وحينما اشتددّتم ونَحلتُ رحلتم.
أوه يا كبدي ..
أعرف أنك لا تحبّ حديث العجائز، لكنني سأخبرك على عجل بأن من بقيت من حبيباتك هنا يسألنَني عنك بين الحين والآخر وفي عيونهن دمع يحرق كماء النار عظامي، فأسارع إلى الهاتف الذي أرسلتَ لي ثمنه السنة الماضية، أريهُنّ صوراً لك وخلفك مبانٍ شاهقات تناطح السحاب لكنني أقسمُ لهن في كلّ مرة بأنك تضاهي تلكم الناطحات طولا، يضحكن في البداية وسرعان ما يبكين بعدها.
على فكرة سأخبرك سراً يا يما، سراً يعلمه الجميع هنا حولي.
لقد كنتَ تزورني كلما أطبقتُ أجفاني أنت وكلّ أخوتك، ليلي مزدحم بكم مذ تجاوزتموها تلك الحدود.
لا أعرف لماذا كنتُ أشعر بالسعادة إذ أراهُنّ؛ ربما لأنني أعرف أنهُنّ يحببنَك أيضاً لكنّهن لن يحببنك مثلي على الإطلاق.
آهٍ صحيح!! ولكيلا لا أنسى، لقد اشتريت بالمال الذي أرسلته لي هاتفاً مستعملاً رغم إصرارك على أن أبتاع جديداً لكنني ادخرت بعضه واشتريتُ تلفازاً صغيراً لبنات أختك، لو تعلم كم دعت لك أختك!!!
حسام … يا عيون أمك
لطالما قلتُ في نفسي ترى لأيّ سببٍ أنجبتكم؟
أظلَمتُكم إذ فعلت هذا، أم جنيتُ بنفسي على نفسي؟
ولماذا سمحتُ للحرب أن تبعثركم كسبحة صوفيّ أعلن ردّته؟
أتصدّق؟!
ربما لن تصدّقني إن قلت لك أنني جمعتُ حريم القرية مرّةً وكنتُ على وشك تشكيل كتيبة للأمّهات اللواتي هاجر أبناؤهُنّ؛ لأنهنّ لا يمتلكْنَ القدرة على قتل أحد.
الأمّهات يُقتَلْنَ لأجل صغارهِنَّ، يتحوّلنَ إلى سنداوات يعوين في المدى، باحثات عن أطياف جرائهن.
وقد يَمُتن شوقاً حينما يفقدن الأمل بعودتهم.
يوم كفنتني عمتك ووضعتني رفقة نسوة حارتنا في تابوت الجامع الكبير هربتُ منه دون أن يراني أحد من المشيعين وجئتكم أطوف عليكم واحداً واحداً.
أعلم أنكم تكرهون الأغطية مذ كنتم صغاراً، دثرتكم، وقبّلتُ راحات أيديكم ومضيتُ خلسةً خشية إيقاظكم”.
قصدتُ مكتبتي الجديدة بعد أن استمعتُ لرسالة أمي الأخيرة، بكيتُها وسرّني رغم ذلك احتفاظ نهلة بحديثها هذا.
اقترب مني محمد ابني البكر كان مليحاً حسن الوجه كجدته حاملاً بيده صندوقاً صغيراً، تعلّقت روحي به قبيل أن أرى ما بداخله.
بابا لسوء حظنا أنْ توفيت جدتي قبيل عيد ميلادك بيوم واحد.
قال محمد وهو ينظر في عيوني.
لقد تحدثنا إليها منذ شهر تقريباً، كانت تنتظر هذا اليوم أكثر منا يا أبي، بعد أسبوع من مكالمتنا لها وردنا بريدٌ من “بيروت” يحمل اسم جدتي مكتوب على ظهره هذا التحذير.
تناولتُ العلبة من محمد ..
“لا تفتح الصندوق إلا بعد أن تدخل عامك التاسع والثلاثين..
سأظل بجانبك سواء أكنتُ على قيد الحياة أو بانتظار حياتي الأخرى.
أمك”
كانت ضفيرة أمي المعقودة بحريرتها الخضراء التي لطالما عصبتْ رأسها بها راقدة داخل الصندوق. زكيةً عَطِرةً كنسمة لفحتْ عالمي قادمةً من سماوات الله، لتستقر كطمأنينة صوفيّ في روحي، وفي خلدي، محنّاة كلون الشقق البعيد.
احتضنتُ جديلتها، قبلتُها، ووضعتُها بالقرب من صورة والدي جانب رواياتي في مكتبتنا الجديدة.
لم تختر نهلة تصميماً من تلك التصاميم الثلاثة. بل أعادت إليّ مكتبتي في بيتنا هناك حيث السماء أكبر، وأكثر زرقةً، والأرض غير هذه الأرض إلا أنها مليئة بالقبور.