“جدائل الضباب” (Kezîyên mijê)

0

للشاعر سيف داود (لوند داليني)

قصائد مترجمة

مجلة أوراق العدد 13

مقدمة للشاعر إبراهيم اليوسف:

ينتمي الشاعر سيف داود (لوند داليني) إلى عالم هؤلاء المبدعين، متعددي المواهب، وذوي الحضور في كل منها على حدة، فهو الشاعر، وهو السارد، كما هو الفنان التشكيلي، بالإضافة إلى المرتبة العلمية التي عمق خلالها دراسته الأكاديمية، في أحد الاختصاصات المرموقة في عالم النفط، وغير المتقاطعة مع عالم الأدب، ناهيك عن أنه ذلك الأكثر حضوراً في عمق الحياة الاجتماعية اليومية، من حوله، وكأني به قد رهن نفسه لمعادلة ذهبية وراح يسوي بين أطرافها، بالرغم من كل المصاعب التي يدفع ثمنها من راحته، وهل أتحدث- هنا- عن اللغات التي يجيد الكتابة بها أو يستطيع أن يترجم منها وإليها؟، ففي هذا كله ما يدعو إلى الاندهاش من قدراته العالية.

أعرف الصديق د. لوند منذ عقود، وأعده أحد هؤلاء المبدعين الحقيقيين الذين يتمتعون بكاريزما روحية حياتية وجدت معادلها في ما وقع بين يدي من إبداعاته، لاسيما في حقل الشعر الذي يكتبه بأشكاله المتعددة.  بأشكاله التي تنوس بين امتلاكه لأدوات القصيدة التقليدية وبما يخطو به في عالم الحداثة، بل إنه ممن يكتبون النص المكثف بالإضافة إلى النص ذي النفس الملحمي، وفي كل هذا ما ينم عن براعته في سلاسة المفردة، ومطواعيتها بين يديه، شأن من يمتلك معجمه اللغوي، ولا يرى غضاضة في توظيفها ضمن السياق الذي يريد لتخرج عن إطار معجميتها وتتفاعل في مختبره الفني كشاعر ممتلك لهذه اللبنة الرئيسة في معمار النص الشعري، وهوما يسجل له.

لوند داليني، متعدد المواهب، أو متشظيها، لا يستطيع أن يرى ذاته إلا في أتون ألهبة معادلته المضرمة، وهذا ليس إلا مجرد ترجمة لروح ذات خصائص متعددة، هي الأخرى. روح تسعى إلى أن تقدم أوراق اعتمادها في أكثر من حقل إبداعي، باعتبارها ترى الفنون مجرد عالم واحد. عالم متداخل. عالم متكامل. عالم عذب لا يمكن لإيقاعات روحه المتأججة هذه أن تهدأ إلا عبر توزعها على مساحات خريطتها، في الشكل الذي ارتأته، وغدا كل منها بمثابة رئة لهذا المبدع، ليكون من عداد الذين لا يمكن لهم أن يتنفسوا إلا عبر هذه الرئات مجتمعة، من دون أن يكون أحدها على حساب الآخر، وهنا تكمتن فرادة لوند.

ثمة وفاء جلي سرعان ما يستكشفه من تمضي به قصيدة الشاعر، إنه وفاؤه هو مع عالمه الذي يعيد صياغته، بل هو وفاء لعالمه الواقعي الذي يعاد تشكيله في القصيدة، لتكون القصيدة صدى الواقع. صدى رؤى الشاعر. صدى روحه. صدى لحظته. صدى أرواح جمهرات ذويه من حوله، وهو يتقدم الحلبة، يلهج بأسمائهم، ليكونوا أبطالاً في هيئة أمرئ واحد، أو امرءاً واحداً في هيئات كثيرين. إنها روح الشاعر التي تنذر ذاتها لتكون سفيرة للآخرين، بما يموضع هذه القصائد في جبهة لا تتلكأ في عناوينها، من دون أن تتردد في ذلك. إننا هنا أمام هوية هذه القصيدة تحديداً. 

هذه المداخل برمتها، بل وسواها من مداخل أخرى حاولت أن أركنها بعيداً، استذكرتها، وأنا أنتهي من قراءة نصوص مجموعته الجديدة التي أقدمها “جدائل الضباب”  (Kezîyên mijê)والتي اجتذبتني فضاءاتها، لأجد ذلك الشاعر الذي لا يخيل إلى قارئ النصوص . نصوص مجموعته، إلا وأنه أمام ناص ماهر يستطيع أن يوصل إليه ذبذبات روحه على امتداد الشريط اللغوي للمجموعة، وهو يتنقل بين متوالية المحطات الكثيرة، وكأنه أمام كرنفالات عديدة تتراءى أمام عينيه على منصات عديدة، تستحضر أطيافاً هائلة تشكل عوالم تتراوح بين ما هو واقعي وما هو متخيل، إذ لا يفتأ الشاعر يروي سيرة ألم وحلم، من دون أن يتوانى عن اشتعالات روحه التي يكتوي بها، وهو يوازن بين ما هو جمالي وما هو رؤيوي، باعتباره في النهاية من هؤلاء المبدعين الذين لا يتوانون عن الانهمام بمتلقيهم، ليُتوئِمْ بين أنثاه ووطنه. يُتوئِمْ بين ذاته ومحيطه، من أجل قصيدة يحدد شروطها ضمن المجموعة، ولا يتوقف عندها، ليطور أدواته ورؤاه الجمالية في نصه المقبل.

خلال نصوص مجموعته هذه تظهر جلياً مهارة الشاعر في رسم صورته الشعرية، إذ يحضر لوند التشكيلي بمهرجان ألوانه التي يعيد خلقها على يديه، وهو ما يمكن تلمسه لدى هؤلاء التشكيليين الشعراء، أو الشعراء التشكيليين، أي هؤلاء الذين يجمعون بين الريشتين: ريشة الرسم وريشة الكتابة، أو الريشة والقلم، لا ضير، ولعل هاتين الريشتين تجتمعان في ريشة واحدة لتكون هناك لوحته التي تكرس حضورها، كما قصيدته التي تقدم ملامحها، ما يجعل النص لديه لوحة، كما يمكن اعتبار لوحته نصاً مفتوحاً على آفاق الشعر.

ثمة مخاطب في نص الشاعر. إنها أنثاه، تلك، التي تنتظر على بعد صدى صورة شعرية، يلهج باسمها، بصيغ عديدة، وفي هذا ما يعيد الاعتبار لبعض أدوات النص الشعري الحديث الذي لما ينفصم بعد من حاضنته الشعرية- القصيدة التقليدية- التي يجيد كتابتها، وإن كنا نجد لغته تمضي نحو حداثيتها، من خلال صياغاتها المكثفة، والجديدة. كما أن المخاطب قد يكون آخر غير الأنثى: جمهرات مرئية، غير مسماة لكنها معروفة، أو صورة وطن متخيل. وطن واقعي ملتهم في بطون حيتان الخرائط الطارئة، بعد قيامته الأولى.

عوالم قصيدة لوند هي الأخرى تتعدد، إذ إنه يكتب عن تفاصيل لحظته، حيث الذات الحاضرة. الذات التي ترصد، أو لنقل ترسم، أو تعزف، كما أن الآخر. الآخر الذي هو الذات نفسها تدخل في إطار حوارية لا تفتأ أحوالها تظهر تترى، لنكون في حضرة آلام تكاد لا تنطفئ هي الأخرى، ما خلا هاتيك الأوقات التي تهطل غيمات الحلم. غيمات الحب. غيمات الأنثى التي تظهر من حبر القصيدة بقامتها النعناعية، تراقص جمهرات صور قصيدته، تعده بفردوسها القريب، بعيد إرث من الخيبات، والطعنات، والانتظارات.

ما يسجل للوند، في قصيدته، كذلك، أنه من عداد هؤلاء الذين يجمعون بين الموسيقا الداخلية والخارجية في نصهم الشعري. الموسيقا الداخلية التي تنشأ من خلال هارموني كيمياء العلاقة بين المفردة والأخرى ضمن فضاء الصورة، ومدى توظيفها في بناء القصيدة، ودورها الجمالي والدلالي، بالإضافة إلى تلك الموسيقا الخارجية التي تترجمها أذنه، ما يضعنا أمام إيقاع أوكستري هو-في الأصل- نتاج تفاعلات الأدوات المعتمدة برمتها، والتي تحيل إلى ناص متمكن من لبنات عمارته، يشيدها، كما يريد، بحيث نجد  هذه التنويعات ضمن إطار المجموعة.

وأخيراً، فإن مجموعة لوند داليني هذه تشكل خطوة جديدة في تجربته الإبداعية التي أعرف بعض ملامح بداياتها، فهي بهذا إضافة جديدة إلى تجربته التي بدأها من خلال نشر نصوصه المتفرقة في بعض الوسائل المتاحة قبل أن يضمها بين غلافي  مجموعته الأولى “جدائل الضباب”  والتي صدرت في العام 2019، كما أنها إضافة مماثلة إلى مكتبتنا الكردية التي باتت تزدهر بوتائر أعلى بعد أن أتيحت لها أسباب الازدهار، في عصر تطور عالم النشر، بل وثورة الإعلام والتكنولوجيا، بعد أن حور مبدعنا وإبداعنا، وثقافتنا، وكان مجرد ضبط قصيدة مكتوبة باللغة الكردية في حوزة شاعر-ولو أنها قصيدة حب- ما يدعو إلى اعتقال صاحبها، وبالرغم من ذلك فإنه ومنذ جكر خوين، ومروراً بالأجيال التالية ومنهم لوند داليني كتبوا قصيدتهم ونشروها، متحدين آلة الرقابة. وها نحن الآن، نرى، أن ثقافتنا تنتصر، وأن إبداعنا ينتصر.

ابراهيم اليوسف

خريف 2019 مدينة ايسن/ ألمانيا.

وطني

Welatê min

ترجمة الشاعر: هادي بهلوي

على عتبة تاريخك

دفعت ضريبة حياتي

وفي بحر سمائك غاصت سفينتي

حدود انتكاستي اكتوت في شمعة قامتك

وذبلت أوراق نرجس رقصات القلوب

وعرضت للقتل

وفي عتمة أزقتك

 وتحت قطرات وكف الجدر ودلف المزاريب

انسلت الروح من الجسد

ودخلت في زوبعة أصنامك

نجوم سمائك اشرأبت

 وأطلت برأسها على هضابك وأصقاعك

ثم هوت متلاشية ببرود

روائح شياط الحرائق تعبق

والدخان المتصاعد يومض معه

على كامل جسدك

لجمت كل لغة ولهجة يعرفها قلبك

وانفطمت في خضم أحلام سوداء

انعكست حركة مراجيح الدنيا

مزقت جسدك اربا اربا….

واستمرت في الدوران بلا توقف

 شظايا الحدود مزقت قلبك وروحك

وغارت في شرايينك بعيدا بعيدا….

 نحو الأعماق …

مدن قلبك غيرت أسماؤها وعناوينها

وحطت أسماء غريبة رحالها

بدلا عنها

تمزيق قلبك

لم يشف غليل حقدهم

 ظمؤهم لامتصاص دمك

 يدفعهم الى مزيد من المعاهدات والاتفاقات

العنصرية؟!

 تعالى همس التعطش لوحدة قلبك

وطرق الهمس أسماع مستحرسي ترابك

فلم يرق لهم ذلك.

 وانتعشت

أحلام أطفالك الصابرين

وفي السماوات قاربت أهازيجهم

وتصفيقاتهم بين النجوم

وفي نهاية توهجك

 مغزل الانبعاث ينسج بساطا لتكية

 تحضن الصليب

ولالش فيها

ان بعث اسمك ينبض بقوة

وتقاسيم خط الحدود قد أقيمت حلقاتها

وراحت ترقص الحداثة على أنغامها

وعلى صدرك تعثرت سنابك خيل الأعداء

ورأت حلم ليلة (جارجرا) وتأملتها بذهول!

ضعف قلبك قارب النهاية

 واتلفت عقد الجرح وأربطته واندمل

 فلا خوف عليه من الانتكاس

طبيب قلبك أدرك التشخيص

أعطى وصفة الحداثة

والانبعاث

اندفنت أحلام الأعداء

واندثرت تحت التراب

القامشلي  8 حزيران 2008

دفء سواد عينيك

Têhna reşaya çavên te

ترجمة إبراهيم محمود

حينما سواد عينيك غمرني  

بموجاته

التأم جرح القلب

تبرعم السوسن في سمائي

وأينع مرتين

في محتوى عينيك

أمنيات قلبي

زهت وازدهت

وبدأ فارس الهيجا

في وهدة تينك الأفعيين

يعدو غدوا ورواحا

وبدا دفء عينيك يتكثف

والألق يتوهج

وهوت السفينة في لجة الظلمات

على غير هدى

طائر الرخ كان يجوب حدود الآفاق

بتمامها

لوحة معنوياتك في النزال الأول

شلت قواي مرات ثلاثا

وهجعت أوردتنا مسترخية واهنة

في وئام الأشقة

وهبط طائر الرخ من عليائه

للمرة الثانية

في نزال آخر

حيث كان حماسك

يفتر قليلا قليلا

ليهمد في النهاية

من شواطئ أذنيك

الى خلجان قدميك

همدت القبلات

وجمدت

توارى دفء سواد عينيك

واستوت سفينتك

وحللت

القبطان

القامشلي 2009-03-25