جبران علي: عن “تقديس” الشخصيات السياسية والدينية في لبنان وسوريا

0

من المعلوم أن العيش في البلاد التي تسيطر عليها الأنظمة القمعية محكوم بجملة من المحرمات غير القابلة للمس، أو لنقل إنها جملة من المقدسات السياسية وأحياناً الدينية. ويدخل في تعريف المقدس أنه غير قابل للمسّ، وأنه في الحالة السياسية قائم “في العالم” الذي تحدده السلطة، والغاية أن يكون قائماً في نفوس الناس أيضاً.

والمقدس حسب المؤرخ والمفكر الفرنسي ميرسيا إلياد هو جزء من بنية الشعور بعامة، وليس أمراً اختيارياً في جميع الأحوال، أي أن الإنسان لا يختار جميع مقدساته إنما هو موجود في أفق تاريخي حدد مقدساته وأدخلها في عوالم العيش المختلفة.

والبحث المعاصر في تاريخ المقدس يكشف أن تاريخ التقديس ضارب في جذور الإنسان التاريخية القديمة وتعتريه ضروب من الغموض، إلا أن ما يهمنا هنا هو المقدس بوصفه جزءاً من بنية الشعور، وانطلاقاً من هذا التعريف سنشير إلى بعض تجليات هذا المقدس في الحياة اليومية للسوريين واللبنانيين تحديداً. واختيارنا الحديث عن لبنان وسوريا في وقت واحد هو لتشابه الأفق المعيشي بين شعبي البلدين إلى حد ما، والتشارك في بعض المقدسات السياسية الدينية.

والتقديس في المجال السياسي من شأنه في الحد الأدنى أن يضيّق مجال العمل ويحرم الفاعلين فيه من إمكانات وخيارات أخرى غير التي حددتها السلطة السياسية العليا مسبقاً، أما المقدس الأكبر في الحياة السياسية كما تريدها السلطة فيتمثل على هيئة أشخاص. ففي سوريا، ما زال حافظ الأسد هو المقدس الأكبر عند النظام، وكل اقتراب من مكانته هو احتكاك مع الموت في كثير من الأحيان، والحال أن الأسد الابن ورث هذا التقديس ضمن ما ورثه عن أبيه…

ما علينا إلا أن نشاهد صور الأسدين الأب والابن في كل الفضاءات العامة في سوريا حتى ندرك مدى المهابة التي يحرص النظام على إحاطتها بهذين الشخصين. وتتسرّب سياسات تقديس هذين الرمزين عند النظام إلى مختلف مجالات الحياة السورية، في النظام التعليمي منذ المرحلة الابتدائية وصولاً إلى الدراسات العليا، وبحدود أقل في المجالات الفنية، أو لنقل باختصار في كل الحقول الاجتماعية، إلا أن الأسدين ليسا شخصيات دينية وإنْ كانا يحظيان بشيء من التقديس الديني.

وعند الوصول إلى زمن الثورة السورية، ستظهر شخصيات مقدسة جديدة في الفضاءات العامة، وهي شخصيات أو رموز النظام الإيراني وحزب الله. وإذا كان تقديس أمين عام حزب الله حسن نصر الله في سوريا وانتشار صوره في الحياة اليومية يعود إلى ما قبل الثورة السورية، خصوصاً بعد حرب تموز/ يوليو عام 2006، فإن صور الخميني والخامنئي صرنا نشاهدها في الفضاءات العامة أثناء الثورة.

أما في لبنان، فإن الحديث عن حسن نصر الله يضعنا أمام مقدس سياسي ديني بشكل أكثر كثافة ووضوحاً، فالرجل يُعتبر في الأوساط الشيعية الموالية لحزب الله سليل آل البيت وكثيراً ما يتم إجراء مقاربة بين ثورية الحسين حفيد الرسول وبين الخط السياسي والعسكري الذي ينتهجه نصر الله. ولعل المثال التبسيطي عن ذلك، أو التجلي المباشر له، هو الصور التي تجمعه بعلي بن أبي طالب والحسين في صورة واحدة. وليس حسن نصر الله الشخصية المقدسة الوحيدة في الحياة السياسية في لبنان، إلا أنه أكثر شخصية محاطة بهالة من التقديس، ربما لاجتماع العاملين الديني والسياسي فيه معاً.

وبالعودة إلى بنية الشعور الذي يشكل تقديس هذه الشخصيات السياسية جزءاً منه، يمكننا القول إنه شعور معقد تتواشج فيه جملة من المشاعر الدينية والسياسية الوطنية وتحت الوطنية، ومن الممكن ربما تحديد هذا الشعور كأحد محددات العمل السياسي، فهو ليس مجرد شعور ينتاب الناس ويتم التخلص منه أو تجاوزه، إنما هو محدد من محددات العمل السياسي، وجزء أساسي من شخصية كثير من الناس في لبنان وسوريا على حد سواء.

الحديث عن تقديس هذه الشخصيات السياسية الدينية ليس جديداً عند السوريين واللبنانيين، ولكن النقطة المهمة هنا هي ارتباط المقدس الديني بالسياسي، أو استخدام التقديس الديني من قبل السلطات السياسية لتحريك مشاعر الناس، ونقول هنا الناس وليس المواطنين لأن المواطَنة لم تتحقق بعد في بلادنا، والحال أن عملية تقديس هذه الشخصيات السياسية يدخل ضمن أسباب تأجيل تحقق المواطَنة، فالعمل السياسي الذي يتوخى بناء دول وتحقيق مواطَنة ما لا يتطلب ارتباطاً أو استخداماً للمقدس الديني، وما استخدام هذا المقدس الديني إلا ضرباً من ضروب التسييس ما قبل الحديث الذي عفى عليه الزمان.

“رصيف 22”