جان هاشم: “إخوتنا الغرباء” لأمين معلوف… هل تستعيد البشرية رشدها؟

0

يطرق أمين معلوف في روايته “إخوتنا الغرباء” (Nos frères inattendus) باب الرواية المستقبليّة الاستشرافيّة، بعدما كان قد عوَّد قرّاءه منذ بداياته، على الراوية التاريخيّة، مجارياً بذلك آراء الكثير من النقّاد والروائيّين والدارسين الذين يرون أنه لا بدّ للفنّ الراوئيّ في عصرنا هذا من التوجّه إلى المستقبل كون المجتمعات البشريّة باتت تترقّب ما ستؤول إليه أوضاعها، سلباً أو إيجاباً، مع التطوّرات العلميّة والتكنولوجيّة الحادثة والمتسارعة، وانعكاساتها على مستوى الحياة العمليّة والصحّية وتأثيراتها في مجالات البيئة وفي إمكانية استمرار الحياة البشريّة على الكوكب، والتداعيات الكارثيّة والأبوكاليبتيّة في حال اختلال النظام أو الميزان المناخي الطبيعي، أو في حال نشوب أي حرب كبرى تفتح مجالات استعمال الأسلحة النوويّة والبيولوجيّة المهدّدة بفناء البشريّة.

وهذه الفكرة الأخيرة هي بالتحديد موضوع رواية معلوف. بطل الرواية، ألكس زاندر، رسّام اختار العزلة في جزيرة صغيرة قبالة شاطئ الأطلسي، تدعى انطاكيا، كان والده قد اشتراها ولم يتخلَّ عنها حتّى عندما أفلس. وتشاركه العيش في قسم صغير من هذه الجزيرة كاتبة اشتُهِرت بكتاب واحد تدعى إيف سان جيل، لم يتكثَّف تواصله معها قبل بدء وقوع الأحداث التي شكّلت مادّة الرواية. وهو في عزلته تلك يتردّد من حين إلى آخر، وعند الضرورة إلى سائر جزر الأرخبيل، حيث لا صداقات له، عبر ممرّ “غواي” الذي يفتح ويغلق بحسب حركة المدّ والجزر، والصداقة الوحيدة التي أقامها هي مع “الملّاح” مراقب هذا الممرّ المدعو أغاممنون ويختصر أهل الجزيرة اسمه إلى “أَغَام”.

تتوالى الأحداث على لسان الراوي المتكلّم، بطل الرواية، وهي تبدأ متأزّمة يوم اكتشف، ومعه أهل الجزيرة، وكل سكان المعمورة كما تبيّن لاحقاً، أنّ الكهرباء مقطوعة والهواتف خارج الخدمة، وكذلك وسائل الإعلام، من راديوهات وتلفزيونات، وشبكات التواصل الاجتماعي، معطّلةً كل أشكال الاتّصال بين العالم، وكذلك إمكانيّة تشغيل الآلات والآليّات المتحكِّمة بمسار العالم. ويُنذِر ذلك بوقوع حدث جلَل، ربما يكون هجوماً نووياً تخريبيّاً تدميريّاً. وهو ما تلوح بوادره مع الأخبار التي سبقت انقطاع الاتصالات، ثمّ في الفترات المتقطّعة التي عادت فيها.

الاحتمال كبير، فقد سبق أن وقع انفجار في ولاية ميريلاند الأميركيّة، رُجّح أنّه هجوم نووي، واتّهمت به أطراف عديدة، إلا أنّ التهمة وجّهت بشكل أساسيّ إلى حاكم ولاية جبلية في القوقاز، ساردار سارداروف، وهنا يبدأ التعقيد. فهل سيأمر رئيس الولايات المتحدة بالردّ لتدمير أسلحته النوويّة؟ هل سيوافق، هو وغيره، على جمع الأسلحة النوويّة من العالم وضبطها كلّياً؟ وباختصار هل ستنشب حرب نوويّة شاملة، بل هل هي نشبت فعلاً وعطّلت ما عطّلته من وسائل اتّصال وتواصل؟ بات العالم كلّه يترّقب ردّ فعل الرئيس الأميركي الذي حوصر في تشيلي، أثناء زيارته لها، بعد تعطّل كل تلك الوسائل. ثمّ بعودته إلى عاصمته، يكتشف، ومعه العالم، أنّ من عمل على تعطيل كلّ تلك الوسائل التقنيّة هم جماعة مسالمة، من أتباع أمبيدوقليس اليوناني، اغتنت بالعلم والمعرفة، وتمكّنت من وسائلها التقنيّة، كما تقدّمت كثيراً في مجال الطبّ، وهي استمرّت عاملة، بشكلٍ سرّي على ما يبدو، منذ أيام أمبيدوقليس، وغايتها، على غرار ما دعا هو نفسه إليه، هي تخليص العالم من الخطيئة، وإقامة العدل والسلام، ومحاربة الموت… ولذلك هم عطّلوا الاتصالات وما يرتبط بها من أجل منع وقوع حرب نوويّة مدمّرة من شأنها القضاء على البشريّة، وتدخّلوا لدى رئيس الولايات المتحدة لاقناعه بعدم اتّخاذ قرار الحرب…

حول هذه النقطة تتعقّد القصة، فهل سيتجاوب الرئيس الأميركي ميلتون معهم؟ هذا ما بات العالم يترقّبه، وما نشأت حوله نزاعات، وتشكّلت مواقف متناقضة، تطوّرت معها وحولها حبكة الرواية. فالجماعة حسنة النيّة، وكبرهان على حسن نيّتها وعدت، بواسطة ديموستينوس رسولها إلى البيت الأبيض بأن تشفي الرئيس الأميركي نهائيّاً من مرض سرطان الرئة الذي بلغ مراحله النهائية… وقد رفض الرئيس أولاً الخضوع لهذا العلاج، كي لا يضطرّ إلى الإنصياع لهم والتعامل معهم في ما يمكن أن يُعتَبر فعل خيانة إذا لم تكن نواياهم سليمة. لكنه وافق في النهاية تحت إلحاح زوجته، وقد شفي بشكلٍ نهائيّ، ما شجع الناس على الإقبال عليهم للاستشفاء. وأقامت الجماعة مركزاً استشفائيّاً في الأرخبيل الذي يقيم فيه ألكس، شفى الكثير من الناس من أمراضها المزمنة والمستعصية، فاشتدّ الإقبال عليهم لكن الموقف منهم لم يكن واحداً. فمن هم هؤلاء الجماعة؟ وماذا يريدون؟ وكيف يجب أن يكون الموقف منهم.؟

هذه هي الأسئلة التي شغلت بطل الرواية كما شغلت العالم. العالم السياسيّ انقسم قسمين. قسم متجاوب يريد التعاون مع الجماعة، وقادته السيّدة الأميركية الأولى. وقسم توجّس شرّا من الجماعة وأراد محاربتها، وقاده نائب الرئيس الأميركي، وهذا ما حدث عندما هوجم أحد مراكز العلاج وسقط قتلى ما اضطر الجماعة إلى الانسحاب من هذا العالم. إلا أنّ الأمر لم ينتهِ هنا وستبقى هناك محاولات لإصلاح الوضع. وفي هذا إشارة واضحة وصحيحة إلى انطباع البشر على الشرّ، ولذلك يتخيّلون الشرّ والأذى في كل طارئ جديد حتى لو أبدى حسن النيّة.

ألكس تابع مجريات الأمور على محاور عديدة. أوّلاً مع صديقه أغاممنون “الملّاح”، وقد اكتشف شيئاً فشيئاً أنّه واحد من أتباع هذه الجماعة وأنّه ربّما أُرْسِل إلى المنطقة في مهمة محدّدة. ثمّ مع صديقته، الكاتبة المنعزلة، إيف سان جيل، التي نشأت بينه وبينها علاقة حبّ، والتي مالت إلى طروحات الجماعة المتوافقة مع قناعاتها الخاصّة ووجدت فيها خلاصاً للبشريّة، حتى ليمكن القول إنها باتت أوّل مؤمنة بهم، لا بل أوّل “كاهنة” لهم. أمّا المحور الثالث الذي تابعه ألكس، فقد كان مع صديقه مورو المقرّب من الرئيس الأميركيّ، الذي راح يتواصل معه عندما تتوفّر الاتّصالات ليضعه في أجواء ما يجري في مقرّ الرئيس الأميركي ومحيطه في ما خصّ المواقف والقرارات المتّخذة.

يتّخذ أمين معلوف من هذه الأحداث المتخيَّلة في زمنٍ مستقبليّ منصّة للتعبير عن أفكاره الإنسانيّة التي دأب على الدعوة إليها في مختلف أعماله الأدبيّة، لا بل يبدو أنّه نذر نفسه لها. هؤلاء الأخوة، الناشطون والعاملون من أزمنة سحيقة، “فاجأوا” العالم بتدخّلهم في اللحظة الحرِجة المهدّدة بدمار العالم وزواله ليجنّبوه هذه الكارثة، واعدين بتخليصه من أمراضه وبالعمل على محاربة الموت، مبرهنين على قدرتهم على ذلك من خلال التقنيّات المتطوّرة التي يمتلكونها ويتقنونها، لكنّ ذلك لا يتمّ ويكتمل إلا بتعاون كل أطراف العالم معهم، وهنا تكمن العقدة. فقد انقسم العالم فريقين، الأول متعاون مع هؤلاء الجماعة وساعٍ إلى الاستفادة من قدراتهم، والآخر متخوّف من غاياتهم ومشكّك في ما يضمرونه. الفريق الأوّل متمثّل بزوجة الرئيس الأميركيّ التي تحمّست لفكرة التعاون والاستفادة من هؤلاء الجماعة، وشجّعت زوجها المتردّد، رئيس أقوى دولة في العالم، على الخضوع للعلاج المقترح من ديموستينوس، ممثّل هؤلاء الجماعة الذي أوفِد على ما يبدو ليتدخّل عند سيّد البيت الأبيض ويدعوه إلى التعاون، واعداً إياه بشفائه سريعاً من مرض سرطان الرئة الذي بلغ به مراحله النهائيّة. والفريق الآخر المشكّك في نوايا هؤلاء الجماعة، ويرى فيهم خطراً وسعياً إلى السيطرة على العالم والتحكّم به، ومن هنا تولّدت عندهم عدائيّة شرسة تجاههم تمثّلت في الاعتداء الذي وقع على مركزهم وأدى إلى سقوط ضحايا منهم ومن الناس الذين حضروا للاستشفاء، وهو ما دفعهم إلى الانكفاء والانسحاب متخلّين عن مهمّتهم. أمّا لماذا لا يتدخّلون بشكل أقوى، مع قدراتهم هذه ليخلّصوا العالم نهائيّاً؟ فلأنّه “ستضمحلّ حضارتكم وتصبح حضارتنا ممسوخة…”. هكذا وكأنّ إمكانات تدخلهم، أو الرغبة فيه، تبقى محدودة ورهناً بقرارات البشر الأخرين…

أحداث الرواية عاديّة جدّاً، يمكن أن نشاهدها في أي فيلم من أفلام الخيال العلميّ، إلا أنّ أمين معلوف وظّف هذه الأحداث للتعبير عن مخاوفه المستقبليّة، وعن قناعاته الإصلاحيّة، وعن دعوته العالم إلى الوعي والعودة إلى الرشد لينقذ نفسه. فالأحرى بالبشريّة أن توحّد جهودها، بدلاً من التنابذ والتصارع، وأن تتخلّص من ضغائنها وتوظّف مخترعاتها وإمكاناتها المادّية والعلميّة من أجل محاربة الموت، عدو البشر الأوّل والأساسيّ، لا من أجل خدمة هذه الضغائن. تلك هي الفكرة السامية التي يهدف إليها معلوف، والتي تطالعنا في مختلف رواياته ومؤلفاته، وهي الدعوة إلى التقارب بين البشر، ونبذ العنف والكراهية والتمييز، والعمل من أجل التلاقي والسلام. لكن فكرته في روايته هذه بقيت مجرّدة، لا أساس عملياً لها. إنها مجرّد دعوة لا بوصلة ولا توجيهات فيها إلى كيفيّة تخلّص البشريّة من آفاتها. الأخوة “الفجائيّون” مستعدّون للمساعدة ولمحاربة الموت، لكن على البشر أن يتوحّدوا أولاً وأن يتقبّلوا المساعدة، وإلا انسحبت هذه الجماعة، وهذا ما حدث فعلاً عندما تعرّضت لأوّل اعتداء. والحال، أنّ هذه الجماعة لم تحمل حلّاً أو تصوّر حلّ، بل أبدت استعداداً لتقديم هذه الخدمات في حال اتفقت الدول وقادة العالم وتوافقوا في ما بينهم. لكن أليست مشكلة البشريّة والسياسات العالميّة أنها لا تعرف كيف التوصّل إلى التوافق والسلام. تلك هي المشكلة الأساسيّة التي لم تقدم الجماعة، والمعلوف بالتالي، تصوّر حلٍّ لها! ولذلك تحوّلت الرواية إلى موعظة تنتهي بدرس أخلاقيّ على لسان إلكترا، مندوبة الجماعة:

“إنّ المسألة محسومة بالنسبةّ إلينا، نحن أصدقاء أمبيدوقليس. وماذا عنكم، أيها الإخوة الذين لقيناكم؟ هل أنتم على استعداد لاعتبار الموت عدوّكم الوحيد؟ أجل، الموت، الموت وحده. لا القوى العظمى الغريمة، لا الشعوب الأخرى، لا الأعراق الأخرى، لا نحن. الموت فحسب. إنّه العدو الوحيد الذي يستحقّ أن يُقاتَل ويُدحَر ويُهزم؟ هل أنتم على استعداد لإعادة النظر في أولويّاتكم وفتح صفحة جديدة معنا، وفيما بينكم؟”. وعندما تسأل ربيبة ألكس عمّا يجب على البشر أن يفعلوا بناء على طلب إلكترا، يأتيها الجواب من إيف، المتحمّسة الأولى للجماعة: “أن نصبح راشدين وأخيراً”… “ذلك هو شرطهم للعودة”.

نلاحظ هذا الوعظ المباشر والأخلاقيّة الطوباويّة، والحلّ المنشود الذي تقول به البشريّة منذ أن كانت، وتسعى إليه، أعني “الرشد”، لكن طبعاً تكمن أزمات العالم في أنّ البشريّة لم تعرف بعد “السبيل” إلى الرشد بالرغم من كل الديانات والفلسفات والسياسات القديمة والحديثة. وفي هذا المجال لم تقدّم رواية معلوف جديداً.

ولذلك تبدو رواية “إخوتنا الغرباء” منصّة لما يشبه نشرة إخباريّة مطوّلة، فيها الخبر، وفيها النقل المباشر وفيها الاتّصالات والمقابلات والحوارات والتحقيقات، وهدفها الأساسيّ إيصال فكرة الكاتب ودعوته الخلاصيّة بعيداً إلى حدٍّ ما من البناء الفنّي المميَّز والمبتَكر. فالحبكة الروائيّة تسير بشكل خطّي مبسّط بعيداً من التعقيد أو الانحياز أو الإيحاء. حتى أسماء الشخوص التاريخيّة التي اختارها، والتي لها رمزيتها في الميتولوجيا اليونانيّة، لم يبدُ منها ما يوحي بميزاتها. أغاممنون القائد المخلّص والضحية ورمز الأبوّة. وديموستينوس الخطيب رمز المرافعة والإقناع، وإلكترا الثائرة للحقّ والساعية إلى استعادته، والأهم، الشخصيّة الأساسيّة المذكورة من دون أن يكون لها دور، أعني أمبيدوقليس، مؤسّس مذهب الجماعة “المفاجِئة”، الساعي إلى خلاص البشريّة بالحب الذي هو قوة توحيد وتماسك، بعكس الكراهية أو النزاع الذي يفرّق ويدمّر، وهذا هو المغزى الأخلاقي من رواية معلوف. وأمبيدوقليس نفسه يسعى إلى الخلود عندما يرتمي في بركان للقضاء على كلّ أثر للجسد لتبقى الروح وحدها خالدة، لكنه لم ينجح في ذلك طبعاً… وبالطبع على القارئ أن يكون ملمّاً بهذه الشخصيّات الميتولوجيّة لكي يفهم سبب اختيار اسمائها والأدوار الموكلة إليها.

هذه البنية الروائيّة البسيطة وغائيّة الكاتب غير المدعّمة بالحجج والبراهين والوقائع العلميّة، أضفت على القضيّة المطروحة في الرواية نوعاً من السطحيّة، وبقيت فيها أسئلة، أو هي تثير عند القارئ تساؤلات، لا إجابات مباشرة أو غير مباشرة عنها. فمن هي فعلاً هذه الجماعة غير المنتَظرة؟ وما هي الأسس التي يقوم عليه مبدؤها، أي محاربة الموت وخلاص العالم، وربما الخلود؟ هل هي فعلاً تسعى إلى الخلود، وهل هو متحقّق؟ هذه الإمكانات والتقنيات الشفائيّة، الأشبه بالمعجزات، على أي أسس علمية توافرت؟ وما هي الصيغ والمعادلات والاكتشافات والاختراعات التي أوصلت إلى هذه التقنيّة الرفيعة الناجحة؟ كل ذلك لا إشارة إليه في الرواية. فقط المرضى يمرَّرون في آلة على شكل نفق أو أنبوب لمدة دقائق يخرجون في نهايته سالمين معافين؟ كيف ولماذا؟ لا جواب عن ذلك. حبّذا لو تمثّل معلوف بالكاتب والمفكّر يوفال هراري (Yuval Noah Harari)، في كتابه الإنسان الإله (Homo Deus) وكتابه الآخر 21 درساً للقرن الحادي والعشرين، حيث توسّع علمياً وتخييليّاً، وبالتفاصيل الدقيقة، في دراسة وشرح سعي الإنسان إلى الخلود عبر إطالة الأعمار ومحاربة الموت. ونذكر هراري على سبيل المثال لا الحصر، فهناك كثُرٌ غيره تطرّقوا إلى هذه المواضيع في أبحاث أو أعمال روائيّة، دقيقة ومفصَّلة.

ومن الأسئلة المطروحة حتى في الرواية والتي لا إجابة وافية وشافية عنها: أين كانت هذه الجماعة؟ وأين كان مركز نشاطها على مدى آلاف أو حتى مئات السنين؟ لماذا لم تظهر من قبل؟ وكيف نجحت في التخفّي؟ وطالما عندها هذه القدرة فلماذا لم تتدخّل من قبل، لوقف الحروب، أو لمنع صناعة الأسلحة النوويّة مثلاً؟

باختصار كان متوقَّعاً من أمين معلوف، وهو العضو صاحب الكرسي في الأكاديميّة الفرنسيّة، أن يكون أكثر تعمّقاً في معالجة أفكاره وبلورتها، وأن يكون أكثر إتقاناً لبُنية روايته الفنّية كعنصر مساعد على بلورة تلك الأفكار الإنسانيّة والسامية والصادقة من دون أدنى شكّ، خصوصاً وأنّه يترك لنا بصيص أملٍ، حين يبيّن صراحة أنّ التكنولوجياً الحديثة المعقدّة ليست خارج السيطرة والتحكّم لو أرادت جماعة مسالمة أن تعطّل عملها وأذاها، وأن العمل من أجل السلام العالمي، ومن أجل رفاهية البشريّة وخلودها يبقى احتمالاً قائماً وممكناً.

وفي النهاية لا بد من كلمة عن ترجمة الرواية. فالترجمة (نهلة بيضون) جيّدة ومتقنة، حرصت فيها المترجمة على الدقة والأمانة في نقل الفكرة والعبارة، وإيصالهما بالشكل الأنسب والأقرب إلى العبارة الفرنسيّة. والملاحظة الأساسيّة في هذا المجال هي حول اختيار ترجمة العنوان. فلماذا “أخوتنا الغرباء”؟ ففي الفرنسية “inattendu” تعني “المفاجئ” أو “غير المنتظَر” وفي ترجمة الرواية استُعملت العبارتان غير مرّة. فالرئيس ميلتون يسميهم في خطابه مثلاً “إخوتنا غير المنتَظرين” ويرى أنّهم “فرعٌ ثمين من بشريّتنا” (ص 317) ثم هم ليسوا كائنات فضائيّة مثلاً، فكيف يكونون غرباء؟ وفي مواضع أخرى من الرواية يُذكر أنّ هؤلاء الإخوة فاجأونا… ولذلك نرى أن اختيار كلمة “الغرباء” غير موفّقة، ولَكُنّا اقترحنا “اخوتنا الفجائيّون” أو “المفاجئون” أو ما هو بهذا المعنى.

ومن باب الملاحظة والتوضيح ليس إلا، لا بدّ من القول إن الالتزام الحرفيّ أحياناً بالنصّ الفرنسي وعبارته، يفقد النصّ العربي شيئاً من سلاسته ورشاقته. فبعض التعابير أو الصيغ المعتمدة بكثرة في الفرنسيّة يمكن إسقاطها والاستغناء عنها أحياناً في العربيّة (مثل: en effet, enfin, au fond, alors وغيرها)، كما أنّه ليس من الضروريّ دوماً نقل “ماضي الماضي” (le plus-que-parfait) بـ”كنت قد…”، فهذا قد يلحق بعض الثقل بالعبارة خصوصاً عندما يتكرّر بكثرة، ففي العربية صيغ مختلفة للتعبير عن هذا الماضي بشكل مختلف ووافٍ. كما أرى أنّ اختيار بعض المرادفات كان بحاجة إلى تدقيق أعمق. لكن هذا لا يمنع أنّ ترجمة الرواية جيّدة كما ذكرنا، مصوغة بلغة سليمة ومتقنة وسلسة، وبأسلوب سهلٍ وممتع.

*المدن