إن توصيف دافنشي لوظيفة وخاصية الصورة الفوتوغرافية من أن (التصوير يقدم أعماله الطبيعية إلى الحس الإنساني بقدر من الحقيقة واليقين، يفوق ما تقدمه الكلمات والحروف) إنما هو تأكيد على حقيقة ما تقدمه الصورة عبر مفردات بصرية، تحتمل انبعاث الحياة والحركة في استقراء المشهد اليومي، لتكون ضمن المقروء الذي يُشير ويؤكد حقيقة ما يُدرك ويُرى بصرياً. فالصورة وبهذا القدر من التأكيد إنما تضعنا على مشارف عمق الواقع المنسي، في إضاءة جوانبه المسكوت عنها، بالتشبث في صورة المهمل من الحياة الجارية، وهي متن للذاكرة التي تتجلى خلالها كل الحياة المؤجلة. وبهذا تكتسب الصورة فعلاً مرئياً فيه مجموعة إشارات وعلامات قارّة، تقود إلى كشف وتجلي متن التاريخ. فهي أحد أوجه التاريخ ومتنه المرئي، فالصورة إذن هي الجسد الذي نصادفه في الشارع والزقاق والمطبخ والمعمل والحقل، حتى الذي نداعبه بلذة وشوّق في السرير. إنه جسد كصفة نُزعت عنه كل المناطق النفعية، ليصبح دالاً على وظيفة واحدة هي الوظيفة الأيروسية. فهي خلاف النص الذي يتوسل باللغة في إنتاج مضامينه. ولا نستدعي إنتاج دلالاتها إلى عناصر أولية خالقة لمعان ساحقة، إنما لها تنظيم يستحضر الأسس التي تحكم هذه الأشياء في بنيتها الأصلية.
من هذا نجد أن الصورة تضعنا وفق عفويتها المدروسة ضمن حقل معرفة النموذج، وهو جزء من كادرها الذاتي والموضوعي. فالعفوية والقصد في إنتاج الصورة يخضع إلى الأبنية الفنية المشكّلة لذهن المصوّر. كما تخضع لحيوية العقل الفوتوغرافي وهو يراقب اليومي الشفاهي المرئي، مراعياً بذلك ذائقته وحسن اختياره لزاوية اللْقطة. فهو بهذا يعمل على إخضاع العفوية التي تخاطر مع الذهن البشري، باتجاه الحراك الفني المبني على الاختيار الحر والمشرق، فالذي يقوم به المصوّر ـ الفنان هو فعل إنتاج إبداعي، فالقصد يندرج ضمن حقل التجميل، أي إضفاء البنية الفنية ـ الجمالية لما هو مصوّر من الواقع. ووظيفتها الأساسية التوثيق، والاحتفاظ بما هو معرّض للاندثار والمحو العفوي والمقصود، كالأمكنة الشعبية مثلا، ومواطن الآثار التي تتعرض للإهمال والتخريب المتعمد. لاسيّما الأمكنة ذات الصفة الأثرية. ولعل عكس حقيقة جهد المصوَّر وهو يصوّر الواقع، دال على توثيق طبيعة العلاقات الاجتماعية في ذاكرة الصورة، التي تظهر كما لو أنها حياة نابضة بفعل حقيقة مكوّناتها. فالصورة بهذا المعنى هي الأكثر واقعية من الفنون الأُخرى، لأنها تتعامل مع الواقع بتسجيلية مدهشة، فهي كجنس إبداعي، تعمل على توثيق العلاقات (الأسرية، الاجتماعية، السياسية، تاريخ المُدن والحارات الشعبية، الحِرَف، تاريخ القوميات والجماعات الإثنية والطقوس).
وبهذا الاهتمام والوظيفة تستكمل الصورة محيط دائرتها، الذي لا ينفّك يتوسع عند هذا الفنان أو ذاك، أو يكتسب خاصية جديدة مضافة إلى تاريخ الفوتوغراف. أما تأثيرات الصورة على المتلقي، فهي بمثابة محاولة وضعه ضمن دائرة مرّحلة، أي سحب المتلقي باتجاه أزمنة منصرمة، ما ينتج حالات وظواهر إنسانية لديه كـ( الفرح، الغضب، الحزن، الثورة، التحريض).
كل هذه المفردات تنعكس وفق المكوّن النفسي للمتلقي، لأن الصورة تُقدم له أنموذجا يتداعى مع تخاطره وحراك ذاكرته. فهي مثيرة للعاطفة الإنسانية، ومبوبة لها في مجالات ضمن الحقل الذي تُشير إليه وتعمل فيه. فالرائي الذي ُيشاهد صورة لرأس الحسين مثلاً، أو حرق الخيام ومشهد الدماء كل هذا يُثير مزيجا من عاطفته وغضبه واحتجاجه، ويحرث في مكوّنه الميثولوجي، فتصدر منه سلوكيات مختلفة في وسائل وأنماط تعبيرها؛ معبّرة عن موقفه إزاء ما يرى، أو ما ترويه له الصورة من حدث دام تراجيدي ميثولوجي، تربطه بمعتقده ومكوّنه الفكري والديني. وهكذا يسري تأثير الصوّر بتعدد أغراضها الذاتية والموضوعية، تلك التي تتصل بحياة المتلقي، أو تاريخ الجماعة التي ينتسب إليها الإنسان. فالموت يقابله الحزن، ومظاهر البهجة يقابلها الفرح. وهكذا تتوإلى الثنائيات في المشهد الحياتي. والإنسان خاضع لحقيقة موّثقة في الصورة. ومن الوظائف التي تُثيرها الصورة، حالة التأمل في المحتوى، وحصراً في الصورة ذات المحمولات الفلسفية، التي تُثير أسئلة المتلقي عبر ما يجده ضمن كادر الصورة وحالات الأشياء في المكان. فمثلاً إذا كانت ثمة مجموعة من الكراسي مصوّرة بشكل عفوي يعكس تبعثرها كلا إلى جهة، فهذا يُشير إلى اختلاف الجلّاس والعكس يصح. وهذا بطبيعته يقود إلى متن أنثروبولوجي خالص، فالرائي الدارس للصورة، يأخذ بالنتائج ليدرس الظواهر الاجتماعية السائدة في الزمن. فالصورة حسب رأي ميرلوبونتي في كوّن العين ترى العالم المرئي كما يسكن الإنسان بيتاً، فالمصوّر يحاول خلال الصورة ومكوّناتها أن يسد النقص الحاصل في الواقع، فالتصوير له علاقة مباشرة بالحس الذاتي لتجسيد الحس الإنساني العام والترميم لما هو مخرّب. وبهذا يكون عمل المصوّر هو التعامل مع الواقع وفق تصوّره الذاتي، أو بما هي محمولات الذات، فالمصوّر ووفق (سيزان) القائل إن الطبيعة في الداخل، وليس بما نشاهده أمامنا. بمعنى ما ينعكس في الذات من جمال لها، والفنان يتعامل مع ما يرى بحسه الفني، لا مع ما هو موجود فقط. فمن القبيح يصنع الجمال والعكس صحيح.
إن الحركة الدائرية التي تنتجها الصورة؛ تنتج جدلياً ما يدور ضمن محوّر الداخل والخارج؛ أي بين داخل الصورة وخارجها. وهي الفرصة أو الفسحة التي تُتيح للمصوّر مجال تقديم وجوده الداخلي عن طريق تصوير الوجود الخارجي. وبهذا يتحقق في إنتاجه من الصوّر تكافؤ فطري لإنتاج المعادلة الإبداعية؛ في كوّنه يحقق ما يراه، لأن الصورة وسيلته في التعبير عن وجوده في الزمان والمكان. فهو كباقي المبدعين، أو من احترفوا الإنتاج الإبداعي الذي هو وسيلتهم لتنظيم العلاقة مع العالم. فمثلاً تكون الكتابة تحقيقا لداخل الشاعر والروائي، لتشكل مادته في التعبير، بينما المصوّر يستند إلى رؤاه التي تُشير إليه باختيار الطريق واقتناص زوايا الوجود الإنساني. فهو ـ أي المصوّر ـ عبارة عن فاعل اجتماعي، ينتج صورة باعتبارها تتعامل مع شريحة من الزمان والمكان، وتعكس علاقات قارّة بين الأفراد والجماعات، وتكون جماليات الوجود وخرابه، دون الاهتمام بالمسبب والنتيجة باعتبارها عائقاً. فجدلية الصورة تنبع من داخل محتواها الفعلي (الساكن/ المتحرك). فعل المصوّر باعتباره أحد منتجي صوّر الواقع، يدفع الصورة إلى مستوى تمتلك خلاله قدرة ذاتية على سد وملء الفراغات التي تؤكدها تصوّراتنا الذهنية، عن أزمنة مختلفة؛ الماضي والحاضر، وعكس الرؤى المتمكنة من إيجاد صلة بين المتلقي ومحتوى الصورة في كل زمان ومكان، أو على حد قول رولان بارت، إن الصورة تعمل على إثبات ما هو ممحو من الذاكرة، أو ننعته بالمشهد المؤجل. وبهذا تكون حاملة لمجموعة علامات تشكل عناصر مهمة في الصورة.
أما علاقة الصورة بالمخيّال، فهي مبنية كما في بقية الفنون والأجناس، على عنصر التحفيز الذاتي للمتلقي، وعنصر تجاذب وتجاوب معه. وبهذا تحصل على مجموعة دوافع للصعود بالمحتوى إلى مراتب التخييل الذي يمتلكه الرائي، والحوافز متوفرة في محتوى الصورة، بما يمكن التعبير عن التخاطر الذي هو خطوة مهمة في تحفيز الخيال. فالرائي لا يكتفي بالمحتوى مجرداً، وإنما يخلق مجموعة علاقات يتصوّرها، ويبني عليها وفق عمق تجربته وتاريخه مع الجماعة. فالصورة بهذا القدر من القيمة الفنية والموضوعية، تقترب من فعل المرآة العاكسة للأُصول والجذور الاجتماعية، التي يستحضرها المتلقي وفق خصب مخيّلته وبعده الأنثروبولوجي، الباحث عن العلاقات الكبرى والصغرى، التي تخلقها الجماعات والأفراد في التاريخ.
*القدس العربي