يتطلع السوريون والسوريات، منذ وقت طويل، إلى “عقد اجتماعي جديد” يمهّد الطريق لتحولات ديمقراطية وحياة إنسانية لائقة. ولطالما عدّ الكتّاب والمفكرون مسألة العقد الاجتماعي مسألة مفتاحية، وهي كذلك بالفعل. ولكن ما آل إليه المجتمع السوري من تفكك وتنثر، وما تركته الحرب، التي لا تزال مفتوحة من نتائج كارثية على الاجتماع السوري والحياة الإنسانية و”العمران”، يطرح معنيين متداخلين من معاني العقد الاجتماعي الممكن، الذي يعبّر عنه الدستور، ورؤيتين مختلفتين لطبيعته:
المعنى الأول هو ضرورة الانتقال من حالة التنثر والنزاع، التي تشبه “الحالة الطبيعية”، كما وصفها هوبز، أي “حرب الكل على الكل”، إلى الحالة المدنية؛ أو الانتقال من “حالة اللاعقل”، أي حالة الغرائز والعصبيات المنفلتة من أي عقال، إلى “حالة العقل”، بتعبير كانط. والمعنى الثاني يتعلق بالمبادئ التي تؤسس إمكانية التشارك الحر والمبدع في عملية/ عمليات التشكل الاجتماعي وبناء الدولة، وهذه عمليات مستمرة لا تتوقف ولا تنتهي، تتجه نحو تشكل مجتمع مدني حديث، ودولة ديمقراطية حديثة. ويفترض أن تكون هذه المبادئ مبادئ عامة، يقبل بها جميع السوريات والسوريين قبولًا صريحًا أو ضمنيًا؛ ولهذا يُطرح مشروع الدستور للنقاش العام، ثم يستفتى فيه الشعب. ومن البديهي أن القبول العام تعبير مباشر عن حرية الاختيار.
ثمة إذًا تداخل وتلازم بين الضرورة التاريخية، ضرورة الانتقال من الحالة الطبيعية إلى الحالة المدنية، بغية الحفاظ على الحياة وتنميتها وصون الحريات والحقوق، في ظلال الأمن والسلام، وبين حرية الاختيار المستندة إلى مبادئ عامة، على الصعيدين النظري والأخلاقي أو العملي، وكونية، على الصعيد العالمي. هذه المبادئ هي مبادئ العدالة، التي أشرنا إليها في مقاربة سابقة، هنا، على موقع حرمون، وهي: 1 – المساواة، في الحريات الأساسية والحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وفي الالتزامات القانونية، والمساواة بين النساء والرجال. 2 – الحرية، التي تحد من التطرف في المساواة، فيلغي الفروق بين الأفراد عمومًا، وبين النساء والرجال، على وجه الخصوص، إذ يعامل الكسول/،ة معاملة النشيط/ـة والخامل/ـة معاملة المبتكر/ة والمبدع/ـة وغير الماهر/ة معاملة الماهر/ة. 3 – تكافؤ الفرص، الذي يتأسس على تكافؤ الأفراد إناثًا وذكورًا، في الكرامة الإنسانية والجدارة والاستحقاق 4 – تساوي الشروط، ولا سيما في الانتخابات والمباريات أو المسابقات لتسنم المناصب الإدارية والسياسية في جميع مؤسسات الدولة، حتى مؤسسة الرئاسة. 5 – التوزيع العادل للثروة والسلطة والموارد الثقافية بين الفئات الاجتماعية وبين الأفراد أيضًا. وتجدر الإشارة إلى أن التوزيع العادل للثروة والتوزيع العادل للسلطة متشارطان، فلا تتحقق العدالة إلا بتلازمهما. وهذا ما يطرح أفضلية النظام الفيدرالي.
أما من حيث طبيعة العقد الاجتماعي الممكن، فثمة رؤيتان أساسيتان مختلفتان، بل متضادتان: الأولى تعدّ العقد الاجتماعي عقدًا بين جماعات، إثنية ودينية ومذهبية وفئات اجتماعية مختلفة ومتفاوتة في القوة، ومتفاوتة من ثم في الحقوق، على نحو العقد الاجتماعي اللبناني، الذي يسمّى “ديمقراطية توافقية”، على سبيل المثال. والثانية تعدّه عقدًا بين أفراد أحرار وحرائر، ينزل كل منهم/ـن عن حريته/ـا الطبيعية وحقوقه/ـا الطبيعية طوعًا واختيارًا لشخص معنوي، محايد، ومؤتمن على الحريات والحقوق، هو الدولة، التي تمنح مواطناتها ومواطنيها بالتساوي حريات مدنية وحقوقًا مدنية، بدلًا من الحريات والحقوق الطبيعية، التي نزلوا ونزلن عنها طوعًا، وعلى أساسها. وهذا يعني أن الطبيعي يؤسس الوضعي، وأن من يمنح الحريات المدنية والحقوق المدنية هو شخص اعتباري، محايد/ة حيادًا تامًا، شخص رمزي، إذا شئتم، هو الصورة السياسية والأخلاقية لكل مواطنة ومواطن، وليس شخصًا طبيعيًا، كزيد أو عمرو أو هند.
الفرق بين الرؤيتين هو فرق نوعي بين اللاعدالة والعدالة النسبية: في حالة اللاعدالة، القوة هي التي تعين الحريات والحقوق، في حالة العدالة، الحريات والحقوق هي التي تعين القوة. هذا الفرق هو نفسه الذي يعين مبادئ إنتاج السلطة، إما على أساس القوة والغلبة والأكثرية والأقلية، وإما على أساس المساواة والحرية، وتكافؤ المعاني وتكافؤ القيم، أي تكافؤ اللغات والثقافات وما تنطوي عليه كل منها من إيمانات وعقائد وعبادات ورموز وشعائر.
الوضع السوري الذي وصفناه قد يقتضي الجمع بين المعنيين المشار إليهما من معاني العقد الاجتماعي: معنى الضرورة التاريخية، ومعنى الحرية، ولا سيما حرية الاختيار، التي تفوق قيمتُها قيمةَ الشيء الذي نختاره، أو الوضع الذي نختاره، لأنها منفتحة على الممكن والأفضل، ومتسقه مع مبدأ التقدم. وقد أشرنا مرارًا إلى أن المواطنة اختيار حر، لا قسر فيها ولا إكراه، ولا اضطرار، بدليل أن أي فرد يمكن أن يختار العيش في مجتمع غير مجتمعه ودولة غير دولته، ويكتسب جنسيتها ويتمتع بحريات وحقوق متساوية مع مواطنيها ومواطناتها.
فالمواطنة مشاركة في الماهية والوجود، ومشاركة في الحياة النوعية العامة، أو الحياة العامة، وفي إنتاج المجتمع والدولة إعادة إنتاجهما، لا مجرد انتماء، قد يكون باردًا وهامدًا، ويغلب أن يكون انتماء إلى عصبية مغلقة، نافية للحرية ونابذة للآخر المختلف والأخرى المختلفة، كالهوية الإثنية أو الدينية أو المذهبية، أو الجهوية أو الأيديولوجية بوجه عام.
ومن ثم، إن القاعدة التي يتأسس عليها الدستور العادل هي العمومية؛ فكل ما ليس عامًا ومشتركًا بين جميع المواطنين والمواطنات لا يصلح أن يكون مبدأ لدستور يتسق مع مبادئ العدالة، ويلبي الحاجة إليها. إذ الدستور هو الذي يعين ماهية الدولة، ونظام الحكم، والذي تشتق منه جميع القوانين، التي تنظم العلاقات المتبادلة بين الأفراد والجماعات والمؤسسات، وعلاقات الدولة بغيرها من الدول. العمومية هي جوهر الدولة، ومعنى الوطنية، التي تعبر عنها المطالبة المتواترة بـ “دولة لجميع مواطنيها ومواطناتها بالتساوي”. أجل، العمومية هي ماهية الدولة الوطنية الحديثة، بخلاف الممالك والإمارات والإمبراطوريات القديمة الوسيطة، وبخلاف دولة الحزب الواحد أو الحزب القائد، كدولة البعث، وبخلاف دولة العائلة أو العشيرة أو الطغمة. وهي، أي العمومية، الصفة الجوهرية للدستور والقانون، التي تجعل المساواة في الحريات الأساسية والحقوق ممكنة. ثمة علاقة تضايف بين العمومية والمساواة، لا تتحقق إلا على جسر الحرية الرابط بينهما؛ العمومية بدون الحرية عماء، والمساواة بدون الحرية عماء؛ الحرية هي التي تجعل من المتضايفين نسقين ديناميكيين، ولذلك تتسق عمومية الدولة مع خصوصيات المجتمع المدني، التي لا يمكن إلغاؤها بدون ثورة على الطبيعة البشرية، وتتواءم المساواة مع اختلاف الأفراد، الذي لا يمكن حذفه إلا بثورة على الطبيعة عمومًا، وعلى الطبيعة البشرية خصوصًا.
الدستور العادل، أو العقد الاجتماعي المبني على مبادئ العدالة، لا يمنح أي امتياز لأي جماعة إثنية أو دينية أو مذهبية، ولا يحابي أي طبقة أو فئة اجتماعية، وإن تكن أكثرية؛ بهذا، على وجه الخصوص، يضع الدستور العادل أسس المجتمع الديمقراطي والدولة الديمقراطية؛ فالديمقراطية تعني، في واقعها العملي، حكم الأكثرية التي تفوز في الانتخابات السرية المباشرة، الحرة والنزيهة، ولا تعني دولة الأكثرية، لأن الأكثرية الانتخابية قد تتحول إلى أقلية انتخابية. الحكومات تتغير، وفقًا لعلاقات القوة في المجتمع، لكن الدولة تبقى ببقاء الشعب موحدًا والمجتمع متماسكًا. فإن تفكك المجتمع قد تنتج منه عدة دول، على نحو ما تفكك الاتحاد السوفييتي والاتحاد اليوغوسلافي السابقان، على سبيل المثال، أو كما تفككت مجتمعات أخرى، ونتج من تفككها دول جديدة.
أدلوجة الوطنية في الخطاب الأيديولوجي تستبعد العمومية والمساواة، ولا تميز حكم الأكثرية الانتخابية، من “دولة الأكثرية”، إثنية كانت الأكثرية أم دينية أم مذهبية أم طبقية. غلبة الأيديولوجيا على السياسة، وغلبة المصالح الفئوية الضيقة، بل العمياء، على المصلحة العامة، تفسران تعثر التحولات الديمقراطية في العراق ولبنان وتونس ومصر، على سبيل المثال، كما تفسران النزاعات والحروب في ليبيا واليمن وسورية.
الأيديولوجيات أقنعة للمصالح الخاصة العمياء، لا تستقل عن هذه المصالح، وإن بدت منظومات مستقلة وقائمة بذاتها، في الظاهر. فلأن الأيديولوجيات أقنعة، تحجب المصالح الخاصة، تتحول هي نفسها إلى حُجُب تحجب الواقع عن أبصار الذين يتقنعون بها وعن بصائرهم. فهي تربط المنظور المعرفي – الأخلاقي بالانتماء الاجتماعي والموقع الاجتماعي، ربطًا تعسفيًا، في حين يمكن أن يستقل المنظور المعرفي – الأخلاقي عن الانتماء والموقع الاجتماعيين، بموجب حرية التفكير والتعبير واستقلال الوجدان وحرية الضمير.
الإسلام في سورية، على سبيل المثال، ليس دينًا عامًا، حتى للمسلمين أنفسهم، مع أن “السنة”، أي الأرثوذكسية، السنية أو الشيعية أو العلوية.. فضاء عام لأهلها أو أتباعها، فقط، ولكن ليس من “سنة” سنية أو علوية أو درزية أو إسماعيلية.. هي فضاء عام مشترك بين جميع السوريين والسوريات، والعروبة كذلك، ليست فضاء عامًا حتى للعرب أنفسهم، وليست، من ثم، فضاء عامًا لجميع السوريين والسوريات. الدولة الوطنية هي الفضاء العام الذي ينبثق من التنوع والاختلاف.
إن ما يجعل التنوعَ ثروة معرفية وثقافية وأخلاقية هو مبدأ الاقتراع العام، الذي يمهد الطريق إلى دستور عادل، من خلال قانون الانتخاب المقبول من جميع المواطنين والمواطنات. ولعل قانون الانتخاب الأقرب إلى العدالة هو الذي يقوم على الدوائر الانتخابية الصغيرة، ومبدأ لكل ناخب/ـة صوت واحد لمرشح واحد أو مرشحة واحدة، وينصف النساء والفئات المهمشة تاريخيًا والمحرومة من حقوق المواطنة المتساوية. الدوائر الانتخابية الواسعة والانتخابات الحزبية النسبية ترتبط بحياة برلمانية سليمة ومستقرة ووجود أحزاب سياسية برنامجية، ذات طابع وطني، تتنافس على تقديم أفضل ما لديها للمجتمع، لا أحزاب عقائدية تتنازع على السلطة وعلى السيادة.
مبدأ الاقتراع العام، بصفته أول شكل من أشكال العدالة السياسية، هو الذي يؤدي إلى ما سماه ماركس “إلغاء الملكية الخاصة سياسيًا”، إذ أتاح هذا المبدأ، لأول مرة في التاريخ، أن يشرِّع غيرُ المالكين، وهم الأكثرية، للمالكين، وأتاح في الوقت نفسه إلغاء الدين سياسيًا، من خلال حياد الدولة الإيجابي عن عقائد مواطنيها، ويمكن أن نضيف إلغاء الإثنية – الدينية أو المذهبية سياسيًا، إذ، بموجب هذا المبدأ، لا تنتج من الملكية الخاصة أو من الانتماء الديني أو من الانتماء الإثني أي نتيجة سياسية. إن حق الاقتراع العام، من جهة، ودورية الانتخابات، من جهة أخرى، هما الضمانة الموضوعية لتداول السلطة سلميًا.
الدستور العادل لا يتسق لا مع الامتيازات، ولا مع قوانين خاصة بهذه الجماعة أو تلك، كقوانين الأحوال الشخصية المعمول بها في سورية، ولكنة لا يمنع الأفراد من الاحتكام الشخصي إلى الأعراف والشرائع الخاصة، إذا كان هذا الاحتكام صادرًا عن إرادة حرة واختيار حرّ.
(كركز حرمون)