جاد الكريم الجباعي: “الاستبداد والدين”1 في “التراث” الأقرب إلينا

0

قبل قرن من الزمن كتب الشيخ، عبد الرحمن الكواكبي، مقالات تنويرية، جمعها في كتاب صغير في حجمه كبير في محتواه ومميز في رسالته وغايته، هو “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”2 ، لم يتَّبع في تأليفه سلفاً، ولم يحاكِ نموذجاً، ولم يغرف من تراث الآباء والأجداد؛ ولعلَّةٍ ما، قلّما يبحث عنها الباحثون، ظل هذا الكتاب على هامش الثقافة العربية الحديثة، ولم يُمنح تأشيرة دخول إلى الثقافة العربية المعاصرة. ونظن أنّ عنوان الكتاب الدَّال على مضمونه، ولا سيما شطره الثاني هو هذه العلًّة، أو رسوخ الاستبدادين؛ السياسي والديني، في البنى الاجتماعية والسياسية والثقافية والذهنية، يغذي كل منهما الآخر ويتغذى منه. أو لعل العلَّة في نزوع “علماء الأمة”، ممن يتماهون بالمستبد، باعتباره مثلهم الأعلى الأخلاقي، إلى تعظيم الطغاة والمستبدين، بما يشبه عبادة إلهين: إله واجب الطاعة، في الأرض وإله “غفور”، في السماء 3.

دليلنا على أنّ الكواكبي لم يتبع سلفاً ولم يحاك مثالاً، ولم يغرف من تراث الآباء والأجداد تعريفه للسياسة بأنّها “إدارة الشؤون المشتركة بمقتضى الحكمة” (ص 34)، وقوام الحكمة، كما يتضح من الكتاب، هو الحرية والمساواة والعدالة. أجل، هذا هو قوام الحكمة لدى من يفكر في “الشؤون المشتركة” بين أفراد المجتمع المعني كافة، أو بين أفراد الأمة المعنية كافة، على نحو ما فكر الكواكبي. وهو مما يدحض ما جاء به محقق الكتاب في مقدمته، ويقيم الحد على دعوته. فلا يتضح معنى “الشؤون المشتركة” إلا لمن يعرف منبت الكواكبي وسيرته ودعوته إلى الدولة الدستورية، وحكم القانون، وفصل السلطات، ومساءلة الحاكم، وقوله: “وأشد مراتب الاستبداد التي يُتعوَّذ بها من الشيطان هي حكومة الفرد المطلق، الوارث للعرش، القائد للجيش، الحائز على سلطة دينية. ولنا أن نقول: كلما خفَّ وصفٌ من هذه الأوصاف خف الاستبداد إلى أن ينتهي بالحاكم المنتخب والمؤقت المسؤول فعلاً” (ص 38).

وصف الاستبداد، على هذا النحو: حكومة فرد ذي سلطة مطلقة، وارث للعرش وقائد للجيش  وحائز على سلطة دينية، وقوله كلما خف وصف من هذه الأوصاف يخف الاستبداد يدلان معاً  على فكر ينأى عن الأحكام المطلقة والقطعية، ويرى الاستبداد في الواقع ظاهرة تاريخية وحقيقة نسبية، تختلف، وتتغير من مكان إلى آخر، ومن زمن إلى آخر. وأكثر من ذلك، يرى إمكان تسرب الاستبداد إلى الحكومة المنتخبة، سواء بسبب الاختلاف التام أو بسبب الاتفاق التام.
فتح الكواكبي باباً “صغيراً” في أسوار الاستبداد، كما قال في تقديم كتابه، هو باب يفضي إلى حكومة تدير الشؤون المشتركة بالحكمة، على رأسها حاكم مقيد بالدستور والقانون، ومنتخب انتخاباً صحيحاً، وليس وارثاً للحكم، وليس قائداً للجيش، وليس له سلطة دينية على “رعايا” دولته. فالسلطة الدينية المطلقة، على وجه الخصوص، هي التي تولد الاستبداد السياسي، في نظر أكثر العلماء الناظرين في “التاريخ الطبيعي للأديان”. 

لقد امتاز الكواكبي عن مفكري عصره وبزَّهم جميعاً في الحكم بأنّ للدين تاريخاً طبيعياً، من ينظر في هذا التاريخ لا بد أن يكتشف أن الاستبداد السياسي، إما متولد من الاستبداد الديني، وإما هو أخو الاستبداد الديني، أبوهما التغلب وأمهما الرياسة، وإما أن الاستبدادين صنوان قويان بينهما رابطة الحاجة إلى التعاون لإذلال الإنسان. وإن ما يجمع بينهما، في جميع الأحوال، أنّهما حاكمان، أحدهما في مملكة الأجسام والآخر في عالم القلوب” (ص 54). الكواكبي، كما نظن، لا يأخذ بواحد من هذه الافتراضات (أو النظريات)، بل لعله يأخذ بها جميعاً، ربما لأن كل فرضية تشير إلى حقبة من حقب “التاريخ الطبيعي للأديان”.

نفترض، في هذا السياق، أن الاستبداد السياسي والاستبداد الديني متضايفان، كل تغير يطرأ على أحدهما يصيب الآخر، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وكل حضور لأحدهما يستدعي حضور الآخر، وبالعكس، وهما متضامنان، ويتبادلان المواقع، أي يتسبب أحدهما بالآخر مرة وينتج من الآخر مرة. سبب التضايف والتضامن وتبادل المواقع هو استمرار الوحدة البسيطة والمباشرة، في الأذهان، بين الملك والإله، أو بين السماء والأرض أو بين الدين والدنيا، هذه الوحدة البسيطة والمباشرة، التي لا تنفك إلى عنصرين متعارضين، ينمو كل منهما وفق قوانينه الخاصة، تدل على تخثر التاريخ  السياسي وركوده، وتخثر التاريخ الديني وركوده، في الوقت نفسه. وهذا ما تعاني منه مجتمعاتنا منذ قرون. انفكاك الوحدة البسيطة والمباشرة إلى عنصرين متعارضين هو الضمانة الوحيدة لوحدة العنصرين (الدين والدنيا) مرة أخرى، بعد أن يكونا قد اغتنيا بثروة التطور.

رفض الكواكبي أن يكون للمؤمن سيدان أو معبودان، إذ التشاكل بين الاستبدادين يؤدي بالسواد الأعظم من الناس إلى عدم التفريق بين “الإله المعبود بحق وبين المستبد المطاع بالقهر، فيختلطان في مضايق أذهانهم من حيث التشابه في استحقاق مزيد التعظيم، والرفعة عن السؤال، وعدم المؤاخذة على الأفعال؛ بناء عليه لا يرون لأنفسهم حقاً في مراقبة المستبد لانتفاء النسبة بين عظمته ودناءتهم. وبعبارة أخرى، يجد العوام معبودهم وجبَّارهم مشتركين في كثير من الحالات والأسماء والصفات”. “فما من مستبد سياسي، إلى الآن، إلا ويتخذ له صفة قدسية، يشارك بها الله، أو تعطيه مقام ذي علاقة مع الله، ولا أقل من أن يتخذ بطانة من خَدَمَةِ الدين يعينونه على ظلم الناس باسم الله، وأقل ما يعينون به الاستبدادَ تفريق الأمم إلى مذاهب وشيع متعادية تقاوم بعضها بعضاً، فتتهاتر قوة الأمة، ويذهب ريحها، فيخلو للاستبداد ليبيض ويفرِّخ” (ص 47).
لقد رأى الكواكبي، بحق، أنّ الدين، في المجتمعات العربية، أقوى تأثيراً من السياسة إصلاحاً أو إفساداً، وهذا ما ينطق به واقع الحال في أيامنا، وما يرتب على المؤمنين والمؤمنات، ولا سيما العالمات والعلماء، مسؤوليات اجتماعية وسياسية وأخلاقية.

(حفريات)