تيسير خلف: حاج من بلاد الغال.. وصف القدس ودمشق في زمن معاوية

0

تمتاز رحلة أسقف بلاد الغال فرانك أركولف إلى الأراضي المقدسة وبعض مدن المشرق العربي بأنها الرحلة الأولى المدونة من عصر الفتوحات الإسلامية، إذ قام بها هذا القس الكاثوليكي في حوالي عام 670 للميلاد، أثناء حياة معاوية بن أبي سفيان ملك السراسين، بحسب تعبير أركولف.

وتسجل هذه الرحلة التي استمرت قرابة العام وصفاً نادراً لمدن مثل القدس ودمشق قبل الثورة المعمارية التي حدثت بعد سنوات قليلة على يد عبد الملك بن مروان وأبنائه: الوليد وسليمان وهشام، حيث بنيت أهم العمائر الإسلامية الباقية في بلاد الشام حتى يومنا هذا.

وبالإضافة إلى الوصف النادر والثمين للمقدسات المسيحية التي اختفى الكثير منها بفعل تقلبات الأحداث والدول، نقرأ عن قصة متداولة بين مسيحيي القدس عن خلاف نشأ بين طائفتين محليتين دعي أتباع إحداهما باليهود – المؤمنين بالمسيح حول كفن يسوع، وكيف قام معاوية بحل المشكلة بطريقة حازت الإعجاب والثناء من جانب المسيحيين. وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على مصداقية الروايات الإسلامية حول دهاء معاوية وسعة حيلته في أمور الحكم.


وصف القدس

أحصى أركولف أربعة وثمانين برجاً في سور مدينة القدس وست بوابات هي: بوابة داود، وبوابة القصار، وبوابة القديس ستيفانوس، وبوابة بنيامين، وبوابة تيكيتوس، وبوابة وادي قدرون. وقال إن المدينة نفسها تبدأ من الجانب الشمالي لجبل صهيون، وتنحدر بانحدار لطيف نحو الأسوار في الشمال والشرق حيث تنخفض هناك؛ حتى إن المطر الذي يهطل على المدينة يجري في مجارٍ مائية عبر الأبواب الشرقية حاملاً معه أوساخ الشوارع إلى وادي قدرون.

ويشير أسقف الغال إلى اجتماع حشود هائلة من الأشخاص في يوم الخامس عشر من أيلول (سبتمبر) بغرض التجارة، ولكنه لا يذكر أن هذا الاجتماع هو احتفال بعيد أحزان مريم العذراء، حيث يقول إن شوارع المدينة تمتلئ في هذا اليوم بروث الحيوانات، غير أن معجزة إلهية تحدث كل عام بعد مغادرة الحشود للمدينة تتمثل بهطول مطر غزير، لا يتوقف إلا بعد تطهير المدينة تماماً.

ويلفت النظر إلى أن السراسين (المسلمين) أقاموا في مكان المعبد (أي معبد هيرودوس المدمر)، بالقرب من الجدار الشرقي، بيتاً مربعاً للصلاة، بطريقة بدائية، من خلال رفع العوارض والألواح الخشبية على بعض بقايا الآثار القديمة؛ مشيراً إلى أن هذا المصلى يتسع لحوالي ثلاثة آلاف رجل.

بعد ذلك يصف كنيسة القبر المقدس بشيء من التفصيل، إذ يقول إنها محاطة بثلاثة جدران، مع مساحة واسعة بين كل منها، وتحتوي على ثلاثة مذابح رائعة الصنع. وهي مدعومة باثني عشر عموداً حجرياً بأحجام غير عادية. مؤكداً وجود ثمانية أبواب أو مداخل في الجدران الثلاثة: أربعة منها في الجهة الشمالية الشرقية، وأربعة في الجهة الجنوبية الشرقية. ويقول إن قبر المسيح واسع بما يكفي لاستلقاء رجل واحد على ظهره، وبه شق بارز في الحجر لفصل ساقيه.

ويتوسع أركولف في وصف المواقع المقدسة المسيحية مثل كنيسة القيامة التي تجاور الكنيسة المربعة للسيدة العذراء. وإلى الشرق من هذه الكنيسة الكبيرة، هناك كنيسة الجلجثة، والكنيسة التي بناها قسطنطين في موقع الصليب، وغيرها من مبانٍ مقامة بحسب التصورات البيزنطية لمواضع آلام المسيح وأمه العذراء، كما حددتها القديسة هيلانة والدة الإمبراطور قسطنطين في القرن الرابع الميلادي.


معاوية وكفن المسيح

وينقل أركولف قصه مثيرة متداولة بين سكان المدينة المسيحيين سمعها منهم، ومفادها بأن أحد اليهود – المسيحيين سرق الكفن الكتاني الذي كان جسد يسوع ملفوفاً به، واحتفظ هذا اللص بالكفن لعدة سنوات وانتقل بعد وفاته لأحد أبنائه، وبعد مرور خمسة أجيال على هذه الحادثة وقع الكفن في أيدي اليهود الكافرين بيسوع، وسرعان ما وصل الخبر الى أسماع اليهود المؤمنين بيسوع، وحدث صراع كبير حول ذلك في المدينة المقدسة؛ عندها وصل الخبر الى معاوية ملك السراسين (المسلمين)، حيث دعا الطرفين للحضور بين يديه، وعندما حضروا طلب الكفن من اليهود غير المؤمنين واستلمه بكل إجلال عظيم، ثم أمر بإشعال نار عظيمة وخطب في الناس قائلاً: فلندع الأمر ليسوع مخلص هذا العالم، والذي دفع ثمن خطايانا ليكون هو الحكم في من له الحق بتملك هذا الكفن المقدس. وألقى الكفن في النار، إلا أن الكفن حلق في الهواء لثوانٍ عديدة ثم توجه للمسيحيين المؤمنين وحط في أيديهم.

من القدس ذهب أركولف إلى بيت لحم، التي تقع على سلسلة من التلال الصغيرة، وتحيط بها الوديان من جميع الجهات. يبلغ طولها، بحسب وصفه، حوالي ميل واحد من الغرب إلى الشرق؛ لها سور منخفض من دون أبراج، يحيط بحواف التل، ويطل على الوادي. بيوتها متناثرة هنا وهناك داخل السور. يقول أركولف: “في أقصى الزاوية الشرقية ثمة كهف طبيعي يقال إن الجزء الخارجي منه كان مكان ولادة سيدنا؛ داخل الكهف مهد سيدنا. كامل الكهف مغطى من الداخل بالرخام الثمين. فوق المكان الذي يُقال إن سيدنا ولد فيه تمثال للسيدة القديسة العظيمة مريم. بالقرب من الحائط ثمة حجر أجوف فيه الماء الذي غسل فيه جسد سيدنا، ومنذ ذلك الحين امتلأ من أنقى المياه دون أدنى نقص. وإذا تم إفراغه لسبب أو لآخر فسيمتلئ بسرعة كما كان من قبل”.

في الوادي إلى الشمال من بيت لحم رأى أركولف كنيسة مبنية على قبر داود، وكان القبر على شكل هرمي منخفض وغير مزخرف، مع مصباح يوضع فوقه. وفي كنيسة أخرى، على منحدر التل إلى الجنوب، رأى قبر القديس جيروم، والذي كان أيضاً من دون زخرفة. وعلى بعد حوالي ميل واحد شرقي بيت لحم كانت هناك كنيسة تحتوي على آثار للرعاة الثلاثة الذين أخبرهم ملاك الرب بميلاد يسوع.

هناك طريق سريع، حسب قول أركولف، يقود جنوباً من القدس إلى الخليل، إلى الشرق من بيت لحم، على بعد ستة أميال من المدينة المقدسة. في أقصى هذا الطريق، على الجانب الغربي، يوجد قبر راحيل، المبني من الحجارة الخام من دون أي زخرفة، على شكل الهرم.


عند قبر الخليل

حول مدينة الخليل (حبرون)، يقول أركولف: “تسمى أيضاً ممرا، ليس لها أسوار، ولا نرى فيها سوى أنقاض المدينة القديمة. ولكن هناك بعض القرى والمزارع الصغيرة المتناثرة في السهل يسكنها عدد كبير من الناس. إلى الشرق يوجد كهف مزدوج باتجاه ممرا، حيث توجد قبور الآباء الأربعة، أبرام وإسحق ويعقوب وآدم الرجل الأول. وعلى عكس العادة الأرجل إلى الجنوب والرؤوس الى الشمال. وهي محاطة بجدار منخفض مربع. كل من القبور مغطاة بحجر واحد، وبني عليها بناء إلى حد ما على شكل كنيسة. لون القبور الثلاثة فاتح. يقع قبر آدم، وهو المزخرف أكثر من غيره في مكان غير بعيد عنهم، في أقصى الشمال”.

وقد شاهد أركولف أيضاً أضرحة ثلاثة منسوبة لثلاث نساء هن سارة ورفقة ولائقة، اللواتي دفنّ هنا في الأرض. ويقول إن تل ممرا يقع على بعد ميل واحد إلى الجنوب الغربي من هذه الآثار، وهو مغطى بالعشب والأزهار، مع سهل منبسط في القمة؛ وعلى الجانب الشمالي من التل كنيسة كانت لا تزال تُرى متجذرة في الأرض. وعند المرور من الخليل باتجاه الشمال، رأى أركولف تلاً متوسط الحجم مغطى بأشجار الصنوبر. يقول أركولف في ذلك: “يؤتى بالخشب إلى أورشليم من غابة كثيفة واقعة على بعد ثلاثة أميال من الخليل إلى الشمال، وعلى تل منتصب في وسط سهل متسع يقع على يسار المسافر إلى القدس، ولا يبعد عن الطريق إلا قليلاً. وفي هذه الغابة تنبت أشجار الصنوبر بكثرة، ومن هذه الأشجار ينقل أهالي إيليا (القدس) الخشب الذي يحتاجون إليه من أجل البناء والوقود، ينقلونه على جمالهم، إذ إن المركبات نادرة الوجود في هذه المدينة وما حولها من بلدان”.


حوض الأردن وسفوح جبل الشيخ

في رحلة أخرى زار أركولف أريحا حيث لاحظ أن موقع المدينة بأكمله مغطى بحقول الذرة وكروم العنب، من دون أي مساكن. وقال إن بينها وبين نهر الأردن بساتين نخيل كثيرة تتخللها مساحات مفتوحة، فيها منازل لا تعد ولا تحصى، يسكنها رجال ضئيلو الحجم من نسل الكنعانيين، بحسب تعبيره. وفي نهر الأردن يقف صليب خشبي في المكان الذي اعتمد فيه المسيح، حيث يصل عمقه، عندما يكون الماء في أعلى مستوى، إلى عنق رجل طويل. مشيراً إلى أن النهر عريض في هذه البقعة وعليه جسر حجري مرتفع على أقواس، من ضفة النهر إلى الصليب، حيث يستحم الناس. وقد سبح أركولف للخلف وللأمام في الماء الذي وجده بلون حليبي مائل للصفرة، ولاحظ أيضاً أنه حافظ على هذا اللون لمسافة كبيرة، حتى بعد أن تدفق في البحر الميت، حيث شاهد أيضاً طريقة الحصول على الملح من مياه هذا البحر.

وفي رحلة ثالثة زار أركولف منابع نهر الأردن عند سفوح جبل الشيخ من نبعين سماهما جور ودان، كما يقول، حيث تتحد مياههما في اسم جديد هو نهر الأردن، والمقصود هنا نبعا بانياس وتل القاضي في أقصى شمالي الجولان. ويبدو أن أركولف طاف طويلاً حول بحيرة طبريا التي يقول إنها محاطة بغابات كثيفة، ويبلغ طولها، أي البحيرة، مائة وأربعين غلوة. ويشير إلى أن مياهها عذبة صالحة للشرب.

وقد سافر أركولف أيضاً عبر بلاد السامرة، وزار مدينة شكيم (نابلس) التي كانت من دون سور، ورأى كنيسة صليبية في وسط الموقع الذي يعتقد أن فيه بئر يعقوب، حيث التقى يسوع بالمرأة السامرية. وقدر أركولف عمقها بأربعين ذراعاً. كذلك رأى في البرية ينبوعاً صافياً محمياً بغطاء من البناء، قيل إن يوحنا المعمدان كان يشرب فيه. كذلك رأى نوعاً صغيراً من الجراد، بحجم الإصبع تقريباً يقلى بالزيت ويشكل طعماً رديئاً، كما يقول.

ويبدو أنه وصل في رحلته هذه إلى شمالي مدينة طبريا حيث المكان الذي بارك فيه يسوع الأرغفة والأسماك. ولاحظ أنه سهل عشبي ومستوٍ، لم يحرث أبداً منذ ذلك الحدث، ولم ير في المكان أي أثر للمباني، باستثناء عدد قليل من الأعمدة حول النبع (الطابغة على الأرجح). ومكث أركولف يومين وليلتين في الناصرة غير المسورة أيضاً، وذكر أن فيها بيوتاً حجرية كبيرة، وكنيستين كبيرتين جداً. وذكر أن إحدى هاتين الكنيستين كانت سابقاً المنزل الذي نشأ فيه يسوع الرضيع، وأن الكنيسة الأخرى بنيت في مكان البيت الذي بشر فيه رئيس الملائكة جبرائيل مريم المباركة.

ويصف أركولف جبل طابور الذي يبعد عن بحيرة طبريا ثلاثة أميال بأنه “ذو شكل دائري ملحوظ، ومكسو بالعشب والأزهار. وفي قمته مرج جميل وواسع، محاط بغابة كثيفة، وفي وسط المرج دير كبير به العديد من صوامع الرهبان. يبلغ عرض المرج حوالي أربعة وعشرين ستاديوم (وحدة قياس رومانية)، ويبلغ ارتفاع الجبل حوالي ثلاثين ستاديوم. هناك أيضًا ثلاث كنائس جميلة على القمة محاطة هي والدير بجدار حجري”.


إلى دمشق

من جبل طابور، ذهب أركولف إلى دمشق المدينة الملكية كما يسميها، واستغرقت رحلته إليها ثمانية أيام، ومكث هناك عدة أيام. وذكر أنها تقع في سهل، ويحيط بها سور واسع عليه أبراج عديدة، تمر فيها أربعة أنهار عظيمة من جميع الجوانب. وخلف الأسوار الكثير من بساتين الزيتون. ويذكر أن ملك السراسين يقيم فيها (يقصد معاوية)، وأن فيها كنيسة كبيرة للقديس يوحنا المعمدان يتردد عليها المسيحيون، وأن السراسين (العرب – المسلمين) غير المؤمنين بنوا لأنفسهم مسجداً كبيراً هنا.

ومن دمشق توجه أركولف إلى صور، ومن هناك (كما يبدو) عاد إلى القدس. ثم ذهب بعد ذلك إلى يافا، وأبحر بعد ذلك في أربعين يوماً إلى مدينة الإسكندرية في مصر.

ويستطرد رحالتنا في وصف الإسكندرية التي يندهش من اتساعها وعظم مينائها ومنارتها الكبيرة والشهيرة. ويلمح إلى مكانة ميناء الإسكندرية بوصفه ميناء للتجارة العالمية. وبعد الإسكندرية يتوجه أركولف إلى القسطنطينية، التي يقول إن البحر يحدها من جميع الجهات، ما عدا الشمال، وأن مبلغ دوران جدران السور على خط البحر حوالي اثنا عشر ميلاً. ويشير إلى وجود كنيسة عظيمة على اسم القديس بطرس، وكنيسة أخرى على اسم صوفيا مبنية بشكل دائري كما يقول.

ومن القسطنطينية أبحر أركولف عائداً إلى بلده. ورأى على بعد حوالي اثني عشر ميلاً من صقلية جزيرة البركان، حيث كان الدخان يتصاعد في النهار والنار في الليل، مع ضوضاء مثل الرعد. ومن هناك حملته رياح معاكسة إلى شواطئ اسكتلندا حيث التقى آدمنان الذي دوّن وقائع الرحلة كما سمعها من لسان أركولف.

(العربي الجديد) – الصورة: إحدى بوابات القدس في القرن التاسع عشر