عندما كنّا تلاميذ، اكتشف صديقٌ لي أنه يستطيع التفوّق على أيّ شيء قاله أيّ شخص باستخدام كلمة “تراجيدي”. فإذا قال شخص مثلًا إنه يحتاج زوجًا جديدًا من النظارات أو إنه يفكر بالانضمام إلى دائرة الخدمة المدنية، كان المقطعان الموجزان، النابذان، في كلمة Tragic”/ تراجيدي” كافيين لإيقاف المحادثة فورًا. “تراجيدي” كلمةٌ قوية، شبه مقدسة، وشكل الفن الذي تسميّه مكبّلٌ بالمحظورات، شأنه شأن كلّ الظواهر المقدسة. بالمعنى التقليدي، لا يجب أن تقع التراجيديا بنتيجة حادث طارئ، بل عليها أن تنطوي على قدرٍ أو ظهورٍ إلهيّ، مما يستلزم بدوره وجود قوى خارقة. لا يرى ويليام بتلر ييتس أيّ عنصرٍ تراجيدي في حادث سيارة. فالمصادفة البحتة -السقوط في حالة سُكْر من نافذة الطابق الخامس، على سبيل المثال- تنقصها فخامة التراجيديّ. كذلك، يجب أن تكون الشخصية الرئيسية ذات منزلة اجتماعية رفيعة. ويعود ذلك في جانب منه إلى أن حيوات الناس العاديين ليست قيّمة بما يكفي ليكون دمارها أمرًا يستأهل الندب، وفي جانب آخر إلى كون الذين يسقطون من علّوٍ شاهق يُحدثون طرطشة أكبر. إن موت أميرٍ يتركُ عواقب معقدة على المجتمع بصورة عامة؛ موتُ سائقٍ لا يفعل ذلك. في عصرٍ ديمقراطي، بالمقابل، اتسعت طبقات الأبطال التراجيديين المحتملين إلى أبعد حد. وباتَ من الممكن لأيّ شخص يُلتقط من الشارع ويوضع في مأزق عسير أن يشكّل مرشحًا مقبولًا. لكنْ، لا يجب أن يكون، هو أو هي، شخصيةً شريرة، بما أننا لا نحزن على الأوغاد، كما يشيرُ أرسطو.
من وجهة النظر التقليدية، يجب ألا تكون الأحداث التراجيدية قابلة للإصلاح. لم يكن من الممكن مثلًا حلّ مشاكل الملك لير بوضعه في دارٍ للمسنّين، وجلسات الاستشارات الزوجية لم تكن لتنفع آنا كارنينا. إنّ كلّ ما يمكن تصويبه بإصلاح اجتماعي أو في مركز للعلاج النفسي يفتقر إلى السمو الذي تقتضيه التراجيديا. لكنْ، ما يدعو للمفاجأة أنه ليس من الضروريّ أن تنتهي التراجيديات على نحو سيء؛ في الحقيقة، يبدو أن معاصري يوريبيديس اعتقدوا أنه وضع أكثر ممّا يجب من النهايات الكئيبة. إن ما يصوّره بعض الفن التراجيدي هو تقلقل الحيوات البشرية وهشاشتها، وليس بلوغها ذروة الشقاء.
كانت التراجيديا في العصور القديمة محصورة بالمسرح، كما تشير إيميلي ويلسون محرّرة المجلد الأول من هذا التاريخ الطموح للشكل الفني “تاريخ ثقافي للتراجيديا” (*). لم تكن هناك رواية تراجيدية أو رؤية تراجيدية للعالم، كما لم يكن ثمة مجاعة تراجيدية أو حالة سكتة قلبية تراجيدية. استخدام الكلمة لتعني “مأساة واقعية”، كما نستخدمها اليوم، هو حالةُ حياةٍ تحاكي الفن. ينتج عن ذلك أن إسخيلوس تراجيدي، لكن معسكر أوشفيتز ليس كذلك. من ناحية أخرى، ورغم أن الحزن واليأس يشكّلان لغة مشتركة بين البشر، يميل الفن التراجيدي إلى الازدهار في ظروف محدّدة للغاية. التراجيديا فعلُ حدادٍ، تذكّرٍ، وتأمّلٍ، جماعيّ؛ محاولةٌ لإيجاد مغزىً ما، أو حتى قيمة، في المعاناة، وليست مجرد صورة عن البؤس في حالته الخام. الطقوس التي تقام في يوم الذكرى مثلًا هي بهذا المعنى أقرب للمعنى القديم للتراجيديا من المذبحة التي تحيي ذكراها. علاوة على ذلك، وكما ناقش ثيودور أدورنو وسلافوي جيجيك، إن وصفَ حالِ معتقلي المعسكرات النازية بالتراجيدي هو بذاءة أخلاقية. إذ يبدو كما لو أن استخدام هذا التعبير يسبغ معنى، أو حتى قيمة، على شيء يتحدى كل فهم. التراجيديا تسبغ معنىً جماليًا على ما لا يمكن احتماله.
من ناحية أخرى، يمكن القول إن استثمار مثل تلك المعاناة ضمن قالب بتحويلها إلى فن ليس محاولةً لجعلها طبيعية بالضرورة. لكنه فعلٌ جماليٌّ بالغ الخطورة. كيف لا يقتصر الأمر على كونه تحسينًا لما لا يمكن وصفه؟ منذ شيلينغ ووصولًا إلى نيتشه، لا تسعى التراجيديا لإيجاد معنى في الألم البشري وحسب، بل تصوّره على نحوٍ يترك جمهورها أكثر تنورًا وسموًا. في صراعه مع كلّ ما من شأنه أن يسبّب له الهلاك، إما برفضه الخضوع له أو بتقبّله من غير تهيب، يسمو البطل التراجيدي على هزيمته في لحظة الموت. هكذا، بفعل ابتهاجنا بانتصار الروح البشرية التي لا تقهر، نغادر المسرح مطهرّين ومتعزّين بدلًا من كوننا مستعدين للقفز من فوق جرف. لا شيء مُفائلٌ، على ما يبدو، أكثر من مشاهدة مجموعة من رفقائنا في البشرية يُمزَّقون إربًا. وهذا سبب آخر لكون معسكر أوشفيتز، كما يُزعم، لا علاقة له بالتراجيديا.
ثمة بعض الحقيقة في هذا: إن مشاهدة دراما تراجيدية فعل مُعزِّزُ للحياة، بمعنى أنها تذكرّنا بنفاسة ما نراه وهو يفنى. التراجيديُّ مقياسٌ لما نثمّنه أكثر من غيره، ولهذا لن نستخدم التعبير لوصفِ سحق ذبابة أو انتحار هيرمان غورينغ. في الحقيقة، بالنسبة إلى تيارٍ فكري يمتد من شليغل ونيتشه إلى هايدغر ولوكاش في بداياته، التراجيديا هي الأسمى بين الأشكال الفنية. لكن هذا الرأي يُغفل المازوخية السادية التي تنطوي عليها التراجيديا. لماذا نجني المتعة من عروض تمثيلية لما من شأنه أن يروّعنا في الواقع؟ هل لأننا نتساهل مع دافع الموت بالإنابة؛ أي حين نرى الآخرين يُدمَّرون في حين نعرف أننا منيعون؟ إن هذه الصيغة من التراجيدي غير مبالية أيضًا إزاء وجود العذاب البشري الذي يُصوَّر على أنه ثمنٌ جدير بالدفع لقاءَ النصر الأخلاقي. بالنسبة إلى الرومانسيين والمثاليين الألمان، تصبح التراجيديا بهذا المعنى مقابلًا دنيويًا لما يعرف اصطلاحًا باسم “الثيوديسيا”؛ نظرية العدالة الإلهية فيما يخص مسألة الشر، أو بكلماتٍ آخر “تبرير الشر”. والتراجيديا بهذا المعنى شكلٌ لا مسيحيّ إلى حد بعيد، بما أن الألم والمعاناة بالنسبة إلى العهد الجديد يجب أن تُحارَب كعدوّ، لا أن يُحتفى بها على أنها بناءٌ للشخصية. في هذا الصدد، يبدو واضحًا أن المسيح ودوق إدنبرة هما على طرفي نقيض.
من غير المحتمل أن يكون أيّ من المساهمين في كتابة المجلدات الستة لـِـ”تاريخ ثقافي للتراجيديا” يرى التراجيديا بهذه الطريقة قديمة الطراز. بلْ على العكس، هذا العمل، بمعنى ما، معاصرٌ للغاية، متيقظ للسياسة، للنظرية الاجتماعية، والجنسانية. وكل مجلد فيه – من الأول الذي يتحدث عن العصر القديم، إلى السادس الذي يتناول العصر الحديث- مقسّم إلى ثمانية أجزاء تتعامل على التوالي مع: الأشكال ووسائط الإعلام، أمكنة العرض والانتشار، جماعات الإنتاج والاستهلاك، الفلسفة والنظرية الاجتماعية، الدين، الطقوس والأسطورة، سياسات المدينة والأمة، المجتمع والعائلة، والجندر والجنسانية. إن طريقة هذا العمل في تنظيم المواد أكثرُ ابتكارًا من طريقة القفز من أعمال أحد الأسماء المعتمدة المكرّسة إلى آخر، على الرغم من أن الفئتين الثانية والثالثة محصورة قليلًا لأجل السهولة، وكذلك آخر فئتين. على أية حال، وبينما تعدّ العائلات أساسية بالتأكيد في بعض أنواع التراجيديا، إلا أنها أقل بروزًا في مسرح القرن العشرين، وثمة مواضيع أخرى بذات أهميتها على أقل تقدير، كالشهادة، على سبيل المثال.
ظهور التراجيديا
لكلّ أشكال الفن بعدٌ سياسي، لكن التراجيديا في الواقع ظهرت في أثينا القرن الخامس كمؤسسة سياسية، حبيسة بنى الدولة. في ذلك الوقت، كانت السلطات تعيّن مسؤولًا ليقوم بتدريب الجوقة والدفع لها، كما احتفظت المدينة بمخطوطات المسرحيات في أرشيفها، وكان هنالك صندوق تمويل حكومي يستطيع الأثينيون الفقراء السحب منه لأجل رسوم الدخول للعروض. علاوة على ذلك، كانت التراجيديا بالنسبة إلى الدولة المدينة (أثينا) ككلّ نوعًا من التعليم الأخلاقي- السياسي، لا مجرد سهرة للأغنياء. كذلك، احتلت النساء مكانًا بارزًا في التراجيديا حينها، كما تشير كارين سوليفن في المجلد الأول. وفي مهرجان ديونيسوس، الذي مُثلَّت فيه المسرحية التراجيدية لأول مرة، حوّلت المدينة نفسها إلى مسرح. وأمّا المواطنون الذين تعلّموا تقييم القضايا المعقدة في المحاكم والمجلس الديمقراطي فقد أتوا بقدراتهم البلاغية ليؤثروا على مجرى مسرحيات ميديا وأغاممنون. كانت المسرحيات، كما تشير نعومي وايس، تجربةً متعددة الوسائط، متعددة الحواس، تتضمن الموسيقى، الرقص، الأزياء ومؤثرات خاصة، أقرب إلى حفلة روك منها إلى بلاط ملكي. كما تشدّد إيزابيل تورانس على الجذور الدينية العميقة للدراما التراجيدية. تعني كلمة تراجيديا “أغنية الماعز”، وعلى الرغم من أننا نجهل السبب الحقيقي لهذا المعنى، إلا أنه قد يعطي تلميحًا عن الأصول الشعائرية، أو حتى القربانية، للتراجيديا. يلاحظ روبرت كاون أيضًا أن التراجيديا “ولدت في ظل الاستبداد، لكنها ازدهرت في ظل الديمقراطية”. بيد أن ميتشل غرينبرغ يشير إلى أن المسرح التراجيدي في القرن السابع عشر تمتع بفترة ذهبية في عصرٍ من الاستبداد السياسي. وحريّ بنا أن نتساءل: لماذا تزامن انحدار التراجيديا مع انحسار تلك السلطة؟
إن الباحثين الذين كتبوا في المجلد الخاص بتراجيديا العصور الوسطى هم في الموقع ذاته الذي لا يُحسد عليه أولئك الذين يدافعون عن وجود مخلوق اليتي الأسطوري. إذ اعتُقد لزمن طويل أنه لا وجود لتلك التراجيديا، الأمر الذي يعود جزئيًا إلى أن العقيدة المسيحية التي تنمّ على تلك الفترة تعد متنافية مع القطيعة المطلقة. هكذا، بات على المختصين بالعصور الوسطى أن يبذلوا بالغ الجهد كي يدحضوا الادعاء بأن عبارة “التراجيديا القروسطية” هي نوعٌ من إرداف خُلفيّ يجمع بين لفظتين متناقضتين. وعلى الرغم من أنهم ينجحون في ذلك إلى حد بعيد، يبقى هنالك أحيانًا احتمال لجوئهم إلى آخر الحلول.
لا ينبعث مثل ذلك الضجيج من المجلد الخاص بتراجيديا أوائل العصر الحديث، على الرغم من أن القارئ الذي يتوقع تحليلًا عميقًا لمارلو، شكسبير، كالديرون، ونظرائهم سيصاب بخيبة أمل. فبدلًا عن ذلك التحليل، نتعلّم أن استخدام المنظور في الديكور بلغ أوجه في المسرح الأولمبي الذي صمّمه بالاديو في فيتشنزا، إيطاليا، في آذار/ مارس 1585، وأن مسرحية صفنبعل لدانييل كاسبر فون لوينشتاين كانت آخر تراجيديا سيليزية. كذلك، وبروح بحثية مماثلة، يزودنا المجلد الخاص بعصر التنوير بمخططات بيانية عن عدد التراجيديات التي أنتجتها شركة موليير المسرحية في أماكن معينة، من دون أي إشارة إلى الأهمية الفنية للمسرحيات التي تم تقديمها. ففي بعض الأحيان، لا تكون الحال “هاملت” من دون الأمير وحسب، بل “هاملت” من دون المسرحية أيضًا. إذ يولى قدر ضئيل من الاهتمام، في معظم المجلدات، لفنيّة المسرحيات، وتتنحى الأفكار غالبًا لتفسح المجال للمعلومة التاريخية، كما تبدو الآراء النقدية مبعثرة. بالنتيجة، ربما تكون بعض المسرحيات المغمورة التي تم تناولها مريعة للغاية، لكن يبدو أن لا أحد يريد قول ذلك.
رغم كلّ هذا، ليست تلك بمثالب. فهذا تاريخ ثقافيّ وليس نقديًّا، حتى أن الفن ذاته يؤدي فيه معظم الوقت دورًا ثانويًا بالنسبة إلى تاريخه الاجتماعي. وعندما يتعلق الأمر بشخصية كوريولانوس أو فكرة الشرف عند لوبي دي فيغا، نستطيع دائمًا أن نلجأ إلى مصدر آخر. إن “تاريخ ثقافي للتراجيديا”، باحتوائه إشارات متناثرة إلى ماركس ولاكان، فوكو وأغامبين، عازمٌ على أن يكون مجاريًا للعصر. كما أنه، عندما يصل إلى مرحلة العصر الحديث، يحاول أن يصبح انتقاديًا ومجازفًا أكثر منه رصينًا أو أكاديميًا. مع هذا، وإذا تجاهلنا مجموعة مواضيعه ذات الميول اليسارية، يبقى العمل مثالًا قريبًا بما يكفي من الدراسات الأدبية التقليدية. ومن المفاجئ أن نلاحظ، في عمل يتحكم به أكاديميون أميركيون، أن بعض المقالات مصاغة بلغة اصطلاحية قديمة الطراز؛ على الرغم من أننا نتعلم منه بالفعل أن “فقء عينِ أوديب يقرّ بقابلية الانتهاك في وجه التأثيرات الخارجية”.
موت التراجيديا المزعوم
وفقًا لجورج شتاينر، واحد من أسباب موت التراجيديا المزعوم في العصر الحديث هو أن الأيديولوجيتين الأكثر تأثيرًا في تشكيل المرحلة، الماركسية والمسيحية، هما عقيدتان لا تراجيديتان. لكن هذا يصحّ فقط إذا عرّفنا التراجيديا على أنها حكاية تنتهي على نحو سيء، لا على أنها الاعتقاد بأن أيّ خلاصٍ جدير بهذه التسمية ينطوي على تحطيم وإعادة بناء جذريين. لا تعني التراجيديا بالضرورة أن كل شيء ينهار في النهاية نحو الفوضى، بل تعني أن حرمانًا للذات مؤلمًا هو شرطٌ لأيّ إنجاز باقٍ؛ وبهذا المعنى، فإنّ كلًّا من الماركسية والمسيحية مؤهلتان لحمل لقب “التراجيديا”. قد ينتهي الصلبُ إلى القيامة، لكنه لا يُبطَل بها، تمامًا كما أن فظائع المجتمع الطبقيّ لا تُمحى بالاشتراكية.
من الصعب طرح قضايا متعلقة بالحقبة التاريخية في دراسة تحتوي مقالات دقيقة كالتي في هذه المجموعة. ومن كليشيهات النظرية التراجيدية أن نقول مثلًا إن الفن التراجيدي يزدهر بكثرة في فترات التحول التاريخي؛ في حالة التوتر بين يونان الميثولوجيا البطولية وأثينا الديمقراطية المتنورة، على سبيل المثال، أو (كما عند إِبسن) في نضال الحداثة الليبرالية للتحرر من الحمل الثقيل لماضٍ قمعيّ. كذلك، وعلى الرغم من أن تراجيديا التحول التاريخي لم تكن أكثر بروزًا قط مما كانت عليه في عصر شكسبير، إلا أن المجلد المخصص لتلك الفترة لم يقل إلا القليل عن ذلك.
المسألة العامة الأخرى التي يعتبرها هذا التاريخ أمرًا مفروغًا منه إلى حد بعيد هي مسألة ما نعنيه بالتراجيديا في المقام الأول. ما الذي يجمع بين سوفوكليس وسارة كين مثلًا؟ يمكن أن نتبع المذهب الاسميّ ونقول إن لا شيء مشتركًا بين أعمالهما سوى الاسم؛ لكنّ هذا، كما كلّ الاسمية، يطرح سؤالًا حول سبب منحهما الاسم ذاته من الأساس. أو يمكن أن نكون أكثر معقولية ونقول إن التراجيديا هي من نوعٌ من الــ “شبه عائلي” وفق تعبير فيتغنشتاين الذي يعني مجموعة من الظواهر ما من سمات مشتركة بينها، لكنها تحتوي عددًا من الجوانب المتداخلة. أو يمكن أن نتبع المذهب الجوهري ونقول إن هنالك بالفعل جوهرًا ثابتًا من الخصائص يمتد من عهد إسخيلوس إلى آرثر ميلر – نوع من الألم أو الشقاء. غير أنّ هذه جوهرية متساهلة من حيث إنها لا تقدم لنا الكثير، فكما قد يبرهن شايلوك ومالفوليو، ثمة ألم في الكوميديا كذلك.
بالنتيجة، إذا كانت التراجيديا كلمة غير ثابتة، فإن مسألة موتها أو عدم موتها تصبح مسألة مستعصية، بما أننا لا نستطيع أن نحدّد ماهية الشيء الذي فني أو بقي على قيد الحياة. يعتقد هيغل أن نوع التراجيديا الأكثر سموًا قد أخذ مجراه الطبيعي، في حين يرى نيتشه أن ذلك الفن مات في طفولته، مخنوقًا في مهده على أيدي يوريبيديس المتشكك وسقراط العقلاني. أما فرويد فيعتبر فكرة القدر أساسية لهذا الشكل الفني، ويشك، بالتالي، في إمكانية وجود مرادف حديث لها، بينما يرى شتاينر أن التراجيديا انتهت تقريبًا في أعقاب راسين. أما من الذي أمسك بيده المدية القاتلة، فذاك سؤالٌ يبقى محلّ جدل. بالنسبة إلى بعض المعّلقين على المسألة، الجواب هو المسيحية، بينما لآخرين هو العلم، العلمانية، الديمقراطية، موت الله أو الهولوكوست. تعتقد سوزان سونتاج أن الموضوع برمّته لا يستحق النقاش إلا لمامًا، بما أن التراجيديا في رأيها لم تكن أبدًا محورية في المسرح الغربي. بينما يؤكد كتاب ريموند وليامز “التراجيديا الحديثة” أن كل إشعارات النعي سابقة لأوانها.
المقالات المتعلقة بالمسرح الحديث في هذه المجموعة تثبت وجهة نظر وليامز. التراجيديا، البعيدة كل البعد عن الذبول، قد نمت إلى أبعد حد. وباتت تنطوي على ما تسميّه رامونا موسِي “مزيجًا وسيطًا” يمتد من السينما، الجاز والتصوير الفوتوغرافي، إلى الرواية، فن الأداء، الخيال العلمي ومجموعة كبيرة من وسائط الإعلام الأخرى. فنحن نقع على التراجيديا ابتداءً بأفلام “سائق التاكسي” و”طريق مولهولاند”، وانتهاءً بــِ”مذكرات آنا فرانك” وأغنيات إيمي واينهاوس، وابتداءً بالعجرفة الكلاسيكية لِــ أو جيه سيمبسون وانتهاءً بالعجرفة الجمعية لكارثة بيئية. كذلك، وكما يشير ديفيد كورنهيبر، لا تزال التراجيديا تستعمر الفلسفة عند فرويد والوجوديين. إن التراجيدي، في حضارة سائلة، متشظية، ومناوئة للحدود، يصبح مسألة أساليب هجينة، فضاءات معاد تدويرها، ميتا- مسرح، وعروض تجلس فيها أنتيغون على ركبتيك، مكبوتةً داخل كيس، إذا شاء سوء حظك أن تكون جالسًا في الصف الأول. يشكّل كلّ هذا طرحًا مثيرًا للاهتمام. لكنْ، بتأكيده، على نحو غير نقديّ، على الهامشي، المتعدد، الهدّام والتجاوزي، يكاد المجلد لا يحيد عن عقيدة ما بعد حداثوية متشددة، وبهذا يخاطر بتقويض حججه.
ن هذه التجربة الفنية برمّتها يجري تناولها على خلفية معركة السوم، معسكر اعتقال بوخنفالد، حزب الخمير الحمر، الأرض صفر (موقع برجي التجارة)، والأغطية الجليدية الآخذة بالذوبان. صحيح أن التراجيديا بدأت كشكل فنيّ، لكنها باتت اليوم -على الرغم من التعريف التقليدي- طريقةَ حياة. وكما يلاحظ مايكل غِيمر ودييغو ساغليا بخصوص القرن التاسع عشر، التراجيديا تغادر الخشبةَ نحو العالم. إن حاجة العصر الحديث إلى صيغٍ من الفن تكون عاطفية عميقة ومستفزة تعدّ إلى حد ما استجابةً لحساسيّةٍ عامة معرّضةٍ لخطر التحجّر بفعل العادية المضجرة والمجرّدة للتعذيب والإبادات الجماعية. إن ما لا يمكن احتماله وما لا يمكن وصفه يشكّلان جزءًا من بنية السياسات العالمية. ولطالما كانا كذلك، بالطبع، لكنّ وسائل الإعلام اليوم هي ما يجعل ذلك باديًا للعيان على المستوى العالمي؛ الأمر الذي لم يكن موجودًا في زمن حرب الثلاثين عامًا. لقد كانت الحياة العادية يومًا ما عدوّ هذا الشكلِ الفني الأكثر أرستقراطية بين الفنون؛ بيد أنها اليوم باتت مستقرّه. ولهذا صار لزامًا على الفن التراجيدي أن يغيّر نفسه في ضوء هذه الحقيقة، أو أن يواجهَ الفناء الذي نُسِب إليه مرارًا.
(ضفة ثالثة) (ترجمة سارة حبيب)