في كتابه “خيانات اللغة والصمت”، يستعيد الشاعر فرج بيرقدار سيرته في السجون السورية، ومعها تحضر سيرة الصندوق الأسود الذي يغلقه نظام الأسد بإحكام، ويتكتم عليه منذ خمسة عقود، ذاك المكان المرعب، الخارج عن الأعراف والنواميس، حيث: “لا شيء يصبح على خير. ليل بين ليلين من التوجس والذهول والأصداء الباردة. بأحذيتهم يحاولون محوَ ماضيك.. يريدونك مسلوخًا من الداخل والخارج.. مهزومًا من رأس مستقبلك حتى أخمص ماضيك”.
كتب فرج تغريبته أثناء اعتقاله، ثلاث مرات، ولقرابة 14 عامًا، قضاها بين فروع الأمن، وسجنيّ تدمر وصدنايا، سجلها في ذاكرته وذاكرات زملائه المعتقلين، وفي أوراق السجائر، وكان يعلم أن اللغة ستخونه في توصيف المكان الذي لا رحمة فيه ولا شفاعة لمعتقل، لكنه تابع التدوين وتسريب قصاصاته إلى خارج السجن، تلك القصاصات التي سيصدرها أصدقاؤها في المجموعة الشعرية “حمامة مطلقة الجناحين” العام 1997، وستُترجم إلى الفرنسية، وتنال جائزة هيلمان ونادي القلم العالمي، وهو لا يزال سجينًا. أما خزين ذاكرته فسيغدو خامة الكتب التي ستصدر له لاحقًا، بعد إخلاء سبيله في 16 تشرين الثاني/نوفمبر2000 بضغط من حملة دولية.
كان على الشاعر والصحافي المُعارض، الذي اعتُقل تعسفيًا وهو في السادسة والثلاثين من عمره، أن ينسى اسمه، ويتعلم أن يقدم نفسه بالسجين الرقم 13 بعد توالي الصفعات والشتائم والكرابيج، وكان عليه أن يقضي السنوات الست الأولى من سجنه مقطوعًا عن العالم الخارجي، ممنوعًا عن أدوات الكتابة ووسائل الإعلام، ومحرومًا حتى من زيارة أهله له: أمه ووالده وأخوته الثمانية وابنته التي يكتب عنها: “تخفيّت حين ولدت ابنتي، واعتُقلت قبل أن تكمل الرابعة… رغم كل ذلك، وربما بسببه، أشعر أني أب إلى حد البكاء”. تلك الصغيرة حُرمت من أمها أيضاً التي اعتُقلت قبل فرج بأحد عشر شهرًا، وأُفرج عنها بعد حوالى أربع سنوات.
دخل فرج جهنم، وتعرض لكل ما تجود به قريحة الجلاد على المعتقلين من أساليب الإذلال والحرمان، ثم التعذيب، بدءًا من الضرب والجَلد والفلقة، إلى الشبح على السلم والفسخ والدولاب والكهرباء والكرسي الألماني، وحتى فسحة التنفس في باحة سجن تدمر التي غدت ساحة للتعذيب الجماعي.
تقاسم فرج الجحيم مع سجناء سوريين وفلسطينيين ولبنانيين وعراقيين وأردنيين، شيوعيين وقوميين ودينيين، اطفال دون السن القانونية وشباب وكهول وأشباه موتى.، وكان إذا ما أدرك أحدهم الموت بالتعذيب، أخفى الباقون الحقيقة على الطبيب الشرعي، وإلا يخسروا ضحية جديدة في اليوم التالي، ولم يكن “محمد عبود هو الشهيد الأول، ولا مضر الجندي هو الأخير”.
“أبو حسن بمفرده، وبدولاب واحد فقط، عد أكثر من ثلاثمئة جَلدة كافرة، قبل أن يلهمه الله الإغماء”، يكتب فرج، ويحدثنا عن عسكري يخلع أذن سجين بالكماشة، وعسكري آخر يأمر سجينًا عجوزًا أن ينحني ويلحس جزمته، وبعدها يصفعه بالجزمة على وجهه، ويشتمه عقابًا على تجهمه وعدم رضاه، وعسكري ثالث يجبر سجينًا ان يبتلع فأرًا ميتًا، فيُجن السجين.
الوحشية المفرطة التي امتدت لسنوات، اضطرت السجناء أن ينظموا أنفسهم في إضرابات عديدةعن الطعام، رغم الخوف مما سيواجههم. وأسفر اضرابهم عن انتصارات صغيرة لتحقيق أبسط حقوقهم في إدخال الراديو وبعض المطبوعات وزيارة أهلهم لهم. ويروي فرج قصة مؤلمة عن امرأة زارت سجينًا بعد عشر سنوات، وكان يسألها: يا أمي لماذا تبكين؟ فتزيد نشيجًا، ولا تستطيع أن تخبره أنها أخته وليست أمه التي توفيت.
يسرد فرج وقائع عجيبة، كأن يكون السبب الوحيد لاعتقال مازن حلمًا ضبابيًا مشوشًا رآه في نومه، حول ما يشبه جنازة مسؤول أو انقلاب عسكري أو عملية اغتيال، ورواه لصديقه الذي اعتُقل بعد فترة وجيزة، واعترف تحت التعذيب بكل ما يعرفه عن اصدقائه، بما في ذلك المنام، الذي اعتبر المحقق أنه يضمر نوايا معادية للحكومة، واعتُقل صاحبه لأجَل غير مسمى. كما يصف لنا ما يمكن تسميته بالكابوس الجماعي، ففي “بعض الظروف، وحين يكون السجناء نيامًا، يكفي أن يصرخ سجين واحد، حتى يصبح المهجع اشبه بصورة صوتية لمجزرة”.
حين سألهم مدير السجن: من لديه مشكلة؟ قال أحد السجناء إن المحكمة أقرّت براءته منذ تسع سنوات، وأُعيدت محاكمته قبل عامين، وصدر حكم ثان عليه بالبراءة، لكنه لا يزال قيد الاعتقال، فوعده المدير بأنه سيطلق سراحه ولو بعد مئة عام، وأمر بنقله إلى “مهجع البراءة” الذي لم يعد يتسع للمزيد.
في ذاك الكابوس الممتد إلى أجل مجهول، العصي على تفسير العقل السليم، والمحروم من لمسة الأنوثة الحانية، في ذاك الكابوس “تصبح المرأة معادلًا رمزيًا وإنسانيًا وفنيًا للحرية. بل تصبح الحرية هي المرأة، ولهذا شيئًا فشيئًا يتبدد السجين، حتى لا يبقى منه سوى نص غامض مدروس بالأشواك”.
يكتب فرج تغريبته الموجعة بشعرية خالصة، ويختمها بنص المرافعة التي قدمها أمام محكمة أمن الدولة العليا في دمشق، ويقول: “إن دولة تُعتبر فيها الكلمة جريمة يُحاكم عليها المرء، دولة غير جديرة بالحياة، ولا حتى بالدفن”. “حتى الأجيال التي ستولد في سورية مستقبلًا، ستطرق الرأس خجلًا، كلما توقفت أمام هذه الصفحات السوداء من تاريخ سورية”.
وتمضي قرابة عشرين سنة على خروج فرج سالمًا من وراء القضبان، وانتقاله إلى السويد، لكن صفحات العار لم تُطوَ بعد، بل أُضيف إليها أكثر من ربع مليون صفحة، كُتبت بدماء من اعتُقلوا واختفوا، وماتوا تعذيباً، في سجون نظام الأسد منذ بداية الثورة السورية، ولا يزال ثمة من ينكر حق السوريين في أن ينالوا الحرية.
(*) “خيانات اللغة والصمت/ تغريبتي في سجون المخابرات السورية”، كتاب في 256ص- قطع متوسط، تأليف فرج بيرقدار، ط3، الناشر مركز “الآن” 2019.
*المصدر: المدن