النيران الكثيفة تتصاعد من بين الأبنية السكنية، وصوت أنثوي رقيق من خارج المشهد الكارثي، يقول: “هذه حلب، مدينتي”. تطل صاحبة الصوت، وعد الخطيب، وهي تمسك بكاميراتها، وتقول: “لا أزال أصور، هذا ما يمنح المعنى لوجودي”. تناجي طفلتها الرضيعة: “سما، أعدّ هذا الفيلم لأجلك، أريد أن تفهمي ما الذي كنا نقاتل لأجله”، “أعرف أنك تدركين ما يدور حولك، أرى ذلك في عينيك، أنت لا تبكين كأي طفل عادي، هذا يحرق قلبي”. “هناك الكثير من الغارات الجوية اليوم”. “لا أدري إن كان في استطاعتي حمايتكِ، ولا أعرف إن كان في إمكانكِ أن تسامحيني”.
خمسة مشاهد قصيرة تفيض بالحب والرهافة الفنية، وتختصر تفاصيل الملحمة التراجيدية في “حلب الثورة” التي تتناولها الإعلامية السورية وعد الخطيب، في فيلمها “إلى سما”، من خلال حياتها الشخصية وتجربتها مع عدسة التصوير، لتجيب عن الأسئلة التي لطالما حاول الإعلام الرسمي، السوري والروسي العبث بها، وتقديم إجابات مضللة حولها: لماذا انتفض السوريون ضد نظام الأسد؟ وكيف قاوموا بطشه وبطش حلفائه وسط صمت دولي مريب؟ إلى أن أُرغموا على الهجرة القسرية، بعدما استعاد النظام السيطرة على الجزء المحرر من المدينة؟
تختلف التفاصيل، وتتغير الشخصيات، لكن المأساة واحدة، تتكرر في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام، وتحاول الخطيب تكثيفها في 95 دقيقة، اقتطعتها من مادة فيلمية بطول 300 ساعة، كانت التقطتها بعدستها في حلب ما بين الأعوام 2011 و2016 وحملتها معها إلى لندن، لتغدو مادة فيلمها الوثائقي الأول، بمساعدة المخرج البريطاني إدوارد واتس، وإنتاج “القناة البريطانية الرابعة Channel4 News” في 11 آذار 2019.
تبدأ حكاية وعد الخطيب منذ أن باغتها الربيع السوري أوائل العام 2011، وقلب حياتها رأساً على عقب. كانت حينها شابة في أوائل العشرينات من عمرها، تدرس التسويق في جامعة حلب، ووجدت نفسها تشارك زملاءها الطلبة في المظاهرات، والأمل يشرق في داخلها بدولة مدنية ديموقراطية ومستقبل جميل، قبل أن تشهد بأمّ عينها بطش قوات النظام بالمتظاهرين. لم تنسحب من الميدان رغم خوفها من التنكيل، قررت أن تنضم إلى ناشطي الثورة، واختارت المجال الإعلامي لشغفها السابق به، وبدأت أولى تجاربها في تصوير ما يجري حولها ومعها بعدسة هاتفها الجوال.
بعدما تحررت أحياء حلب الشرقية العام 2012، وبدأت المعركة الطاحنة بين قوات الأسد وفصائل المعارضة المسلحة، اتخذت وعد قرارها الشجاع بأن تبقى في مدينتها، وتشاطر أهلها يوميات القصف والقتل والدمار والحصار، وأن تتفرغ للتصوير ونقل حقيقة ما يحدث إلى العالم، ولم يكن قرارها مجرد خيار، بل واجباً أخلاقياً، حتمياً، دفعها إلى توثيق الإبادة الجماعية التي كانوا يتعرضون لها من قبل قوات النظام وحلفائه باسم محاربة الإرهاب، كما صرَّحت للإعلام.
عدسة وعد الخطيب لا تتدخل في مجرى الأحداث، بل تترك الكلام لبلاغة اللقطة، تذهب مباشرة إلى مواقع قصف الطيران السوري والروسي، تعاين الدمار الذي احدثته البراميل المتفجرة في المنازل والمراكز الطبية والبنى التحتية، ترصد فرق الإنقاذ وهي تجلي الأحياء من تحت الأنقاض، وتدفن القتلى. تدخل المستشفيات وتصور الأطباء والمسعفين يبذلون ما بوسعهم لإنقاذ الجرحى، تصور مدنيين من مختلف الأعمار، وهم يختنقون بالغاز السام إثر واحدة من هجمات النظام بالسلاح الكيماوي على حلب الشرقية أواخر العام 2016. تلتقط الصدمة والرعب في وجوه الناجين، تتأمل الألم والدموع في عيون من فقدوا أحبتهم، وتتابع أمًا مكلومة في الشارع، تحتضن جثمان طفلها، وتنادي على المارين: “هذا ابني، حبيبي مات”.
وعد التي يحيط بها الرعب والموت، أينما تحركت، مثل باقي المدنيين المحاصرين معها، لا تفقد الأمل، ولا تنسى الحياة التي تنبعث من الرماد في المسافة القصيرة الفاصلة بين غارة وأخرى، تلتقط بعدستها فرح الأطفال وهم يتقافزون في بركة ماء أحدثها انفجار برميل في تمديدات المياه، تصوّر نفسها وهي غارقة في حب الطبيب حمزة الخطيب الذي تعرفت إليه في إحدى المظاهرات، والذي تفرغ لإسعاف المصابين، تصور حفل زفافهما العام 2014، ولحظة اكتشافها حَملها، ثم ولادة ابنتها العام 2015، تتأمل طفلتها الجميلة “سما”، تحادثها وتلتقط ابتسامتها التي تذيب القلب، وتصوغ بلقطاتها معجزة البقاء والحب والأمومة تحت نيران ديكتاتورية جائرة، لا تعترف لمعارض بحق الحياة.
لستة أعوام واجهت وعد وأسرتها خطر الموت والاعتقال في بلدها، ولم تتخلَّ عن إيمانها بقضيتها، وإصرارها على إيصال الحقيقة إلى المجتمع الدولي، وحين تمكنت من الخروج سالمة إلى المملكة المتحدة البريطانية، حظيت بما تستحق من تكريم على شجاعتها ودورها الإعلامي. فازت بجائزة “إيمي” الدولية للأخبار عن سلسلة (داخل حلب Inside Aleppo)، وجائزة أفضل تقرير إخباري في مهرجان “prix bayeux-calvados” عن تقريرها (آخر مستشفى the last hospital)، وجائزة “روري بيك” لأفضل المصورين والصحافيين المستقلين.
حين عُرض فيلمها “إلى سما” في الدورة الـ72 لمهرجان “كان” السينمائي، وحصل على جائزة العين الذهبية لأفضل فيلم وثائقي، كان الطيران السوري الروسي بدأ بحملته العسكرية الهمجية على منطقة خفض التصعيد الأخيرة في إدلب وريف حماه، وحين تقدمت وعد بوجهها المكشوف للمرة الأولى من المنصة لاستلام الجائزة، هي وشريكها في الإخراج إدوارد واتس، وزوجها حمزة الخطيب، كانوا يحملون لافتات كُتب فيها “أوقفوا قصف المستشفيات”.
ربما لم تستطع وعد بنشاطها الإعلامي السابق، وفيلمها الوثائقي الحديث أن توقف القصف أو تنقذ الأبرياء، لكنها استطاعت أن توصل رسالتها إلى العالم، وتقول له بعمق وشفافية: هذه حياتنا بلا أقنعة ولا تضليل، وهنا الحدود واضحة بين الديكتاتور وضحاياه. لسنا إرهابيين، نحن عشاق الحياة والكلمة الحرة.
المصدر : المدن