مازن عرفة، كاتب وروائي سوري مقيم في ألمانيا
مجلة أوراق العدد 13
الملف
نغادر البلاد مُهجّرين، لكن البلاد تأبى أن تغادرنا، ترافقنا في الكوابيس، التي حلت مكان الأحلام… وفي الحنين، الذي حل مكان الواقع. الكابوس رعب، والحنين حكاية، وبينهما نتمزق، نتشظى. هكذا، نغدو معلقين بين رائحة الذكريات، التي نكتشفها في لحظات عشق لمعنى حياتنا، وبين ظلمة الكوابيس، التي تداهمنا في لحظات رعب قاسية.
لماذا يكتب المهجّرون، المقتلعون عنوة من حقول طفولتهم، دائماً، عن حكاياتهم؟ ربما لأنهم في المنفى أشجار دون جذور! قدموا إلى بلاد غابات خضراء ماطرة، وسع حلم شاعري. لكن الغابات هنا لا تستقبلهم، تتوجس الغرابة فيهم، تتوجس من اشتعال الشمس في مشاعرهم. فكيف لشجرة أن تعيش دون جذور، وهي تحمل دفء شمس عتيقة، من هناك، حيث تسطع على جبال، تحمل عنفوان زمن غارق في القدم، وعلى سهول شبه جرداء وسع المدى، لكنها تنبض بربيع القلوب… لذا يكتب المهجرون هنا، فبالكلمات تعيش الأشجار المهاجرة، تورق ذكريات وحنين، تورق حكايات، تغدو غابة نفسها، تتحدى كوابيس متاهات الأزمنة الصعبة.
“أرواح تحت الصفر” لأفين أوسو هي شجرة حكاية، تتجدد في غابة المنفى، تنضم إلى الغابة العذراء، تبحث عن جذور لها في الذكريات، وتورق في الحنين، كي تتحدى بها ألم الفقد؛ فقد طفولتنا، وشبابنا، في تلك البلاد، التي ما عادت بلاد، حيث كانت الشمس تنير القلوب، وتنير وردة الدار، وفنجان القهوة الصباحي، والمخدة المطّرزة بلمسات الوالدة، وعريشة الظهيرة، وصخب أطفال يلعبون في الحارة، وصوت بائع الخضار منادياً… هي تفاصيل صغيرة في حياة يومية، منحتنا المعنى في البلاد. لكن أتى زمن أسود، ببراميل متفجرة، تلقيها غربان السماء، محى الحياة من منازل القلوب، ومحى الموت من مدافن الأجداد، وتركتنا هباء. لم يكن أمامنا إلا أن نفر هاربين، فبقاؤنا كابوس، وطريقنا كابوس، لا نصحو من واحد منه، حتى ندخل في ثان.
مهربو البحار، ليسوا جميلين كما في الأفلام، مثل القراصنة الأخيار، هم شرسون كما الذئاب، كأسماك القرش، إذا لم يلتهموك، فسيلتهمك يم عميق. وكي تعبر بحراً، وتنجو، عليك أن تقدم أضحية؛ بعضاً من قلبك، طفلك، لأسماكه، كي تغدو أسطورة قرن جديد، تملأ فراغ قلبه المشبع باللامبالاة، عسى يستيقظ مع نداءات الغرقى.
في “أرواح تحت الصفر” تسقط الطفلة “شام” ـ برمزية اسمها ـ في بحرٍ هائج، من زورق مطاطي، محشو بثلاث أضعاف حِمله من مهجّرين. تدفع الحمية شاباً، بالكاد يعرف السباحة، كي ينقذها، وينقذها إنما دون حياة. ترافقهم الطفلة الزورق جثة، تزعج المهرّبين، إذ ستحمل إدانة قتل لهم، وينبغي التخلّص منها. ومن سيحاسبهم؟ فقد ضاعت في عتمة الليل، في عاصفة البحر. حتى الهاربين لن يعرفوا، سوى أنها سقطت أو تاهت في غفلة منهم. وعلى أرض جزيرة مجهولة، ينتظرون إكمال الرحلة، وبينما الجثة لا تفارق حضن والدتها التي مسّها الجنون، في حين تتمدّد إلى جانبهما الأخت الثانية التوأم الحية، لكنها المخدرة بالحبوب، مثل كل الأطفال المرافقين، حتى لا يلفتوا انتباه الشرطة بضجيجهم. وبقدر ما هي حياة الهاربين سوريالية في أقصى معانيها، هاربين من الموت، وعبر الموت، إلى الموت، بقدر هذا يختلط الأمر على المهربين، فيتخلصون من جسد الفتاة الحية مرام، المخدرة، وقد ظنوها ميتة، يلفوها بكيس، ويرموها خلسة في البحر. وتبقى جثة شام في حضن أمها بافتراض أنها هي الحية… أي سوريالية هي الحياة؟
هل يحدث هذا في الواقع، أم في نسخ الأفلام الهندية القديمة “بوليود”… ولم لا يحدث هذا، بل وأقسى. كم التهم البحر من مهجرين، عجائز وراشدين وأطفال، وغابت معهم الحكايات والذكريات في يمه، وكم أنتشت ذئاب الغابات الباردة بأجساد التائهين في الغابات، وكم استمتع سماسرة الحدود والطرقات الخفية بساديتهم، وهم يمتصون دماء الهاربين حتى آخر قطعة نقد لديهم، فلا يجدون ما يلتهمونه، سوى العشب. ما الذي يدفع الهاربين للنجاة من الموت في بلادهم، إلى الموت في الطرقات، مما يخافون من البلاد حتى يغادروها هكذا؟ هم يعرفون أن بدلاً من منازلهم المدمرة، تنتظرهم أقبية التعذيب، حيث يمارس الجلاد عليهم ساديته الشرقية، فيقضون جثة بلا هوية، تنتهي في حفرة جماعية، لن يحمل إليهم أحد وروداً ودموعاً.
جيان وزنار، أفيستا وشفان، جوان وهيفي … والراوية نفسها أفين، أستمع إلى رنين الأسماء! أليست هذه قصيدة كردية حلوة، تجعلنا نسافر بشاعرية في جبال الكرد، رمز الشموخ والحرية. وتتداعى هذه الشاعرية إلى القلب، فتتذكر أصدقاءك الكرد الرائعين، وهم يحلمون ببلاد حرة تجمعهم، بدل المنافي، وتتذكر كيف يرقصون ويغنون بأعيادهم ونيروزهم، كيف يزهون بملابسهم التقليدية، كيف ينفعلون بحميمية عندما يلتقون ببعضهم البعض، أو بمجرد أن تلتقي بهم، ويعرفون أنك تؤيد حقوقهم.
لكن أغنية القلب الشاعرية هذه سرعان ما تتحطم على أرض الواقع، فالأسطورة الكردية هي حلم حرية، لكن الدول تتآمر لتحطيمه، والكثير من أفراد شعوب هذه الدول يغدو شوفينياً عنصرياً، بتأثير سياسات دولهم. لا فرق إن كانت هذه الدول ديكتاتورية عسكرية على النمط الستاليني، أصاب البلى أركان نظامها، أو فاشية دينية، مغرقة في غيبيات العصور الوسطى، تعتاش على أو هامها، أو دول تدّعي العلمانية، بحقد تاريخي عنصري، تنكر حقائق التاريخ… هل تغير شكل المعاداة للكرد في العراق بتغير نظام الحكم فيها من عسكري فاشي إلى طائفي فاشي؟ جميع هذه الدول تعادي حلماً تجذر في التاريخ، بأصالة عابرة للأزمنة، هي اعتبارات النفط والثروات والمواقع الاستراتيجي والسياسي.
مابين “أنفال حلبجة” و”زيتون عفرين”، تتكرر المجازر باسم الإله، كأن الكرد لم تكفيهم وحشية “داعش”، مثلهم مثل كل شعوب المنطقة وإثنياتها المختلفة… يبدو الإله في الشرق داعشي، متخصص بإبادة الشعوب، على مر التاريخ. هو إله الجنرالات المتوحشين، ورجال القبائل البدائيين، ورجال الدين الممسوسين، لا يرتضي طقوسهم إلا بدم الأضحيات البشرية.
تقول أفين في روايتها “في بلاد أغلب الشبان يحاربون في المعسكرات، والبعض الآخر لاذ بالفرار خارج البلاد، والعدد الأكبر تحت التراب”، هي تتحدث عن العرب أم عن الكرد، أم عن الإنسان في هذا الشرق المتشظّي الممزّق؟ من بقي للحلم الكردي لو تحقق في غفلة من الزمن والدول، كما هو السؤال من بقي للحلم الديمقراطي إن تحقق في الغفلة نفسها؟ … قلما أشاهد كردياً في المنافي يضحك، إنه حزين دائماً، وإذا ابتسم، فهو يبتسم بمرارة. هو حزن قديم قدم الحياة، بقدر حلمه الغارق في التاريخ، ويبحث به عن وردة أمل للمستقبل. يعرّف بنفسه أنه كردي، لكن إلى أي وطن ينتمي؟
كم السخرية عالية في الرواية عندما تتساءل معلمة عربية، لماذا يقاتل الكرد من أجل قضية ميتة، وأطفالهم هم أول الضحايا، وما الفائدة التي سيجنونها من لغة، لا دولة لها ولا هوية… لا تفهم المعلمة لماذا على أطفال الكرد أن يتحدثوا الكردية في بيوتهم، في السر، لا تعرف أن اللغة وعاء الحياة، وسر ارتباط الإنسان بأرضه وميراثه المادي والروحي.
هي لعنة اللغة، التي تلاحق الكرد حتى في منفاهم، الذين تعلموا بلغات البلاد التي تخيم بالشوفينية العنصرية على قلوبهم، فيكتبون بها. أن تكون كردياً وتكتب بالعربية لتعبر عن نفسك، هي المأساة. لكنهم يبدعون بالعربية، وأحياناً كثيرة بطلاقة ومهارة، يحسدها عليهم أهلها، لكن قلب النص ينبض بالكردية، بميراثهم الروحي، بتفاصيل حياتهم اليومية. يكتب الكرد بالعربية ويبدعون؛ سليم بركات، جان دوست، هوشنك أوسي، جان بابير، خالد الحسين، وأفضل مترجمي الألمانية إلى العربية كاميران حوج، وفي جعبته أكثر من عشرين كتاباً مترجماً. يتلمس جيل جديد طريقه نحو الإبداع أكثر فأكثر؛ هيفي قجو، وإدريس سالم، وتتفجر محاولات لشبان وشابات في عملهم الأول، يسعون لنشره؛ أفين اوسو، سلمى جمو، أراس حمي، وفي زمن الانترنيت تتفجر محاولات أولى لإبداع مستقبلي قادم؛ فاضل متين، محمد كنعان، ناريمان حسن، عبير بيرو، وهناك باحثين رائعين يرسمون مستقبلاً عالميا بإبداعاته … هي بعض أسماء من فيض كبير، تكتب إبداعاتها بـ “لعنة العربية”، لكنها تتحدى بروح الكردية المبثوثة في النصوص؛ هي روح تغرق في تاريخ قديم من الأصالة، وتتمسك بأمل المستقبل.
لكن هل رواية أفين اوسو كردية؟ … والد جيان هو حسن، ووالدتها ملك، والمرأة التي كاد أن يتزوجها ذات زمن أسمها سرور، الأسماء عربية، أو بالأحرى مشتركة بين العرب والكرد، ويحيى والد أفيستا ضابط في “النظام السوري” وأحد أدواته القمعية في مدينة حلب، يمارس التشبيح والمتاجرة بالمعتقلين والمخطوفين مقابل المال. والأحداث تجري في قرى الشمال الكردي، وفي حلب، وفي حمص، البيوت المدمرة بالقصف، والتي نالها “التعفيش” هي قرى وبلدات كردية، لكنها بتغيير الأسماء تصبح ببساطة قرى في غوطة دمشق، على سبيل المثال. الهاربون من وحشية النظام الديكتاتوري، ويبتلعهم البحر، أو يتوهون في الغابات هم عرب وكرد معاً.
إذاً، هل هي رواية سورية بامتياز عن البسطاء في سوريا، والهاربين من الموت إلى أمل ما. ولماذا رواية سورية، لما هي ليست رواية إنسانية، تخترق الأزمنة والأمكنة. هي ليست فقط رواية التهجير، وإنما أيضاً رواية التغيير الديموغرافي القسري، للعرب وللكرد سواء، بتواطؤ دولي. هي حكاية تتكرر على مدى القرون، هي حكاية الإنسان المعذب في المشرق، حيث لا قيمة لإنسانيته، ولكرامته، ولذكرياته… هي حكاية القتلى والمفقودين؛ أرقام تتكدس في أقبية السجون، في ركام البيوت المقصوفة بالبراميل المتفجرة، الغارقين في البحار، الذين يعيشون في ذلّ مخيمات التهجير في دول جوار… للجميع الذين عاشوا على أمل التغيير الديمقراطي، الديكتاتوريات العسكرية والشوفينيات العنصرية، والخلافات الإسلامية المتوحشة هي نصيب هذا الشرق.
التناقض هو رمزية النزاع بين شخصيات الرواية، لكنه أيضاً النزاع المتفجر داخل الذات أيضاً. أن تكون شجاعاً وتشارك انتفاضة شعب بأكمله، أم يعتريك الخوف، وتصمت لاستمرار على إهانتك، أم تغدو شبيحاً، وتمارس الظلم بمتعة سادية الشرق هو موقف ليس من السهل اتخاذه.
تتنازع أفيستا، إحدى الأبطال الرئيسيين، مشاعر متناقضة، بين حب والدها الضابط يحيى، المناهض للثورة، والغارق في لعبة الفساد والمتاجرة بدماء الناس، فهي ابنته الوحيدة، ومشاعر حبها لشفان، المتمرد المؤيد للثورة، وحلم مستقبلها. ثم يحدث انفجار في جامعتها، في مدينة حلب، تتناثر أشلاء عشرات الضحايا، تنجو بأعجوبة من الموت، لكنها ستصاب بجراح تكاد تكون قاتلة، والأخطر أن ذاكرتها ستذهب إلى الدمار. وللسخرية فإن الانتحاري الذي قام بتفجير نفسه فيّ هو معتقل سابق لدى النظام، أفرج عنه والدها بصفقاته الفاسدة.
لكن رمزية الانفجار تتعدى الحادثة الفردية في موقع محدد، لتطال البلاد كلها، هو انفجار الأوضاع العامة كلها، التي أدت إلى الانتفاضة، وهي التي ستجعلنا جميعاً نقطع الصلة مع الماضي. لكنه هو انفجار “أسلمة الثورة” التي ستخرب الانتفاضة السلمية، وتحول الصراع بين متوحشين بالبوط العسكري، ومتوحشين بالسيف الإسلامي
بالنسبة لأفيستا، ليس فقدان ذاكرة، بقدر ما هو إعادة تلمس لها، بواسطة حبها المؤيد للانتفاضة، بعيداً عن والدها الفاسد. هي فرصة لأفيستا ولنا، كي نتلمس الحياة، ومواجهة ماضينا المكبل بالخراب والفساد.
لكن عندما يتم اختطاف أفيستا من قبل مجموعات إسلامية، تمارس لعبة والدها القذرة أيضاً، ستتعرض لانفجار آخر صغير، سيعيد لها ذاكرتها ووعيها. تكتشف أنها رهينة إسلاميين متعصبين، يعاملونها، كما يعامل والدها رهائنه في الضفة الأخرى. ينقذها شفان، وتستعيد ذاكرتها بطريقة أخرى معاكسة مع انفجار أخر. تتكشف الحقائق، وتتخذ موقفاً سلبياً من والدها الفاسد، الذي كاد يودي بحياتها مرتين، ومن نظامه، وتقرر الانضمام إلى شفان للهروب معه من الجحيم حرب مجنونة. هي الانتفاضة ـ بغض النظر عن نتائجها السلبية في الأفق المنظور الضيق ـ التي حررت ذواتنا من الخوف، وكشفت الحقائق. وإن كانت الهجرة ليست هي الحل لإنقاذ البلاد، لكن المواجهة مع النظام القمعي في الظروف الإقليمية والدولية ليست هي الحل، وخاصة بعد انحسار دور الطبقة الوسطى في قيادة الحراك السلمي، وأسلمة الانتفاضة بدعم عربي خليجي… مما جعلنا نقف بين قمعية البوط العسكري، ووحشية السيف الإسلامي.
الثورة ليست انتفاضة على الأوضاع السياسية والفساد والقمع فقط، بل والأهم على الأوضاع الاجتماعية التي يرزح تحت تأثيراتها العقل الذكوري الشرقي أيضاً. ترفض أفيستا الزواج من ابن خالتها، الذي يعيش في بريطانيا، ويحتاج إلى عذرية جارية لم يمسسها رجل من قبل، فيما تحول جسده إلى خريطة لأثر مخالب الفتيات الأوروبيات، حسب وصف الكاتبة. بالمقابل تعلي الرواية من شأن العلاقات الإنسانية، من حب صاف بين أفيستا وشافان، الذي خاطر بحياته لأجلها لكي تكون معه.
وإذا كانت الانتفاضة قد جمعت بين أفيستا وشفان بقرار حب صافٍ، إلا أنها هي نفسها ستفرق بين جيان وزنار. يذهب زنار شبه الأمي إلى الخدمة العسكرية الإلزامية لدى النظام الديكتاتوري طائعاً، تجعله ثقافته المتخلفة ومشاعره الباردة سلبياً ليس فقط مع الانتفاضة، بل ومع جيان نفسها أيضاً. فالتردد الذي يميزه سيجعله خادماً لأداة القمع بغباء، وهو الذي سيجعله يفقد جيان.
تهاجر جيان مع أهلها، وتترك البلاد، فيما يصرّ صديقها زنار على القتال في وضع يائس وبائس. ينتظر موته العبثي. ستكتب جيان له الرسالة الأخيرة على هاتفها المحمول، عندما يقترب القارب المطاطي الذي يقلها مع هاربين من الغرق. ينجو القارب في لحظات أخيرة، لكن يفقد الجميع هواتفهم المحمولة، تتعطل نهائياً بالمياه المالحة. وتكون الرسالة الأخيرة لزنار بمثابة انفصال عنه، وعن نظامه، وعن البلاد.
تبث الروائية أفين بعضاً من روحها في شخصية جيان. أفين هي التي تغامر بحياتها في رحلة حقيقية في البحر، وتتعرض لمخاطره. وستسكب بعضاً من ألامها في شخصية جيان. وعندما تصل إلى منفاها، ستكتب جيان بكلمات روائيتها آلام الفقد ومخاطر الطريق. ستغدو أيفين شجرة جذورها الذكريات، وتورق حنينا. تتلبس شخصية جيان وتروي حكايتها.
لكن أفين ستمنح بعضاً من روحها لشخصية أفيستا أيضاً. أفين هي التي تكتشف الحقائق وتعاني، فتكتب روايتها بذكرياتها وحنينها.
جيان وأفيستا هما وجها العملة الواحدة، تبحث كل واحدة منهما عن الحب والخلاص بطريقتها الخاصة، لكنهما ستلتقيان في المنفى.
تبرع أفين في القبض على أحداث روايتها في إطار شكلها الكلاسيكي؛ الأحداث تسير من بداية نحو ذروة تأزم، وتنتهي بانفكاكها. لكنها تُبقي النهاية مفتوحة، لاستمرارية الحياة بمصاعبها. الحياة ليست فيلماً هوليودياً وردياً، فهناك البلاد المرمية خلفنا في الخراب والفوضى، فهل نعود إليها؟ وإذا عدنا ماذا سنجد من ذكرياتنا وحكايتنا، لا شيء، حتى مقابر الأهل مدمرة والأحباء الذين فقدناهم مرميين في قبور جماعية غير معروفة، أو ذابت جثثهم بالأسيد. وهنا المنفى أمامنا، بكل القلق الذي يحمله المستقبل لنا، وقد قطعنا دروباً صعبة للوصول إليه، فماذا سيحدث لنا ونحن لا نمتلك حكاية لنا فيه؟
لا تفلت الأمور من يدي أفين، تقبض عليها بقوة وتماسك، تتلاعب بنوع من المونتاج السينمائي، بين سرديتين متقابلتين، متناوبتي الفصول، لكنهما متشابكتين، تضعنا أمام خطين متوازيين لما يحدث في البلاد، خط من بقي فيها، ويحاول الصمود، وخط من غادر هاـ ولو مؤقتاًـ وسينتهي الخطان ليس فقط بالهرب من متاهة الحرب، وإنما أيضاً من البلاد التي لم تعد بلاد، وقد تربع عليها بوط عسكري وسيف إسلامي، وكلاهما متوحشين.
وفي أثناء ذلك، تبني أفين بحرفية مذهلة لكاتبة في باكورة أعمالها قدرة ملموسة على بناء الشخصيات، بعوالمها الداخلية الغنية، والعلاقات بين بعضها البعض، بطريقة لا تنفصل عن الأحداث في الرواية، بل تدفعها نحو المزيد من الغوص في خفايا الروح الإنسانية المعذبة. ويضاف إلى ذلك قدرة مذهلة على نقل تفاصيل الأشياء الصغيرة، وتفاصيل الحياة اليومية إلى صفحاتها، وبلغة قوية متماسكة، وبطريقة تندمج فيها مع أحداث الرواية.
“أرواح تحت الصفر” هي الرواية الأولى، رواية الدهشة واكتشاف الذات لدى شابة في الثامنة والعشرين من العمر، تريد أن تبني عوالمها، وإن بتجارب صغيرة في الحياة، لكنها قاسية وصعبة… هي تجربة التهجير بكل مخاطر الطريق التي تحملها، وخطر التعامل مع المهربين والسماسرة، هي رواية موقف من الحياة، من هذا الشرق اللعين الذي يلاحقنا بديكتاتورياته، وتعصبه الإثني والديني، بذكوريته البدوية. ولأنها روايتها الأولى، فهي تحمل وعداً بمستقبل مبدع، على أن تتجاوز فجوات فيها، يغفر لها أنها مغامرتها الأولى، من مثل إدخال أفكارها الخاصة على لسان شخصياتها، ونمطية الشخصيات في تقارب صفاتها وتكرارها. في حين تبدو ملامستها لعوالم الدين والجسد مبهمة غامضة، تحتاج إلى جرأة في كتاباتها القادمة.
تنضم أفين أوسو بروايتها إلى كتاب المنفى الرائعين، رواية الدهشة وكسر الزمان والمكان، لتصبح منفتحة على رفض عوالم الظلم والوحشية أينما كانت. أفين هي كاتبة كردية، لكن قلبها وروحها وكلماتها منفتحة نحو بعد إنساني لا محدود.