عبد الناصر حسو
ناقد مسرحي سوري، مقيم في ألمانيا، أستاذ سابق في المعهد العالي للفنون المسرحية، أمين تحرير مجلة الحياة المسرحية.
مجلة أوراق- العدد16
أوراق المسرح
إن ثورة الاتصالات الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي وإدارة المعلومات والبيانات السريعة التي وصلت إلى العالم العربي دفعة واحدة، دفعت مجموعة من الشبان العرب للتظاهر مطالبين أنظمتهم بإجراء إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية، حاملين شعار مظاهرات باريس الطلابية (اهرب يارفيقي.. إن الماضي يلاحقك)، الذي ولّد تيار ما بعد الحداثة الذي خرج من رحم حداثة فكرية أتت نتيجة انهيار أنماط معينة من الأيديولوجيات السائدة والمقولات الكبرى وبروز هيمنة التكنولوجيا على الحياة التي سعت إلى تغيير ما هو كائن إلى ما هو ممكن، فتسارعت التغييرات في مجال المسرح لنقل الصور الذهنية المتخيلة من اللغة الأدبية إلى اللغة البصرية التي تنسج بين الأداء التمثيلي والفنون التشكيلية والغنائية والحكائية والسردية لطرح مواضيع تمس أسئلة متفرج اليوم من خلال المعادلة الابداعية (أنا/ الآن/ هنا) والبحث في حركية الزمن وتأثيراته مع تصورات جديدة حول اختزال العالم وإعادة تركيبه وفق معادلة جديدة في طور التشكيل. رافق هذا الحدث، حدث بالأهمية نفسها، هو الانتقال من حالة الإشباع المادي إلى حالة الإشباع الروحي الأمر الذي دفع ببعض المسرحيين إلى تبني مقولة رولان بارت، الاعلان عن موت المؤلف/ النص الذي كان يعتبر أصل الحكاية في المسرح العربي، واعتباره مجرد اقتراح للعرض، يتطلب قراءاته وتفكيكه والانتقال إلى تعددية معانيه، وتالياً انحازت التجارب الجديدة إلى مشهديات العالم وفنونها الشفهية، لاقتراح فكرة التشاركية الدرامية بين الممثل والمتفرج، بهدف تحفيز الأخير وخلق جيل قادر على المشاركة المبدعة في تغيير شروط الحياة.
الحديث عن كشف جدلية العلاقة بين الفن والمجتمع عبر قوانين علمية ديناميكية تساير حركة تقدمها في تفاعلاتها، حديث يشير إلى إمكانية تبديل منظومة الواقع وتغيير القواعد والاعراف السائدة عبر ثنائية الائتلاف والاختلاف دون المساس بجوهر الجدلية التي تجعل الآخر متحكماً في انتاج نظرياته في مجالات المعرفة والثقافة والسياسة، وما لم يستطع السياسي تسليط الضوء عليه، يتكفل المسرح فعل ذلك بجرأة، ومع التحولات التي طرأت على ذهنية المجتمعات، اتخذ المسرح شكلاً جديداً وفقاً لطبيعة المتلقي، كوسيط ثقافي فني لإحداث انزياحات فكرية ومشهديات فنية، واستبدال المواقع بين المرسل والمرسل إليه عبر صياغة المنتج الثقافي الذي له تأثير تراكمي على هذه التحولات والثورات الثقافية، فكان من الضروري وضع المتفرج في مواجهة حقيقية أمامها. بعد أن كان المسرح قائماً لعقود عديدة على المنظومة الفكرية ذاتها التي تتبناها الأنظمة الحاكمة في البلدان العربية ومجتمعاتها التقليدية.
لم يستقر المسرح على حالة محددة، كان متمرداً، متناقضاً بشكل مستمر مع الحاضر ما أوحى للبعض أنه وصل إلى مرحلة العجز، وانتهت صلاحيته في ظل التبادل بين الارسال والاستقبال على منصات التواصل متجاهلاً صيرورة تطور الفنون وقدرتها الذاتية على إنتاج عقلية تساير الواقع وتتجاوزه بالأشكال التي تراها مناسبة للتعبير عن احتياجات المجتمع الذي يعيش بينه، المتفائلون وجدوا أن المسرح بحاجة إلى جرعات إسعافية لاستعادة مكانته، فصفقوا باحتفالية لا توصف وأطلقوا شعار (البقاء للأصلح.. والنصر للأقوى) مع تشارلز داروين. لكن حقيقة الأمر، طرأ تحول مرحلي على كافة مناحي الحياة، الثقافة والفكر والمعرفة، وخضع المسرح بدوره لعملية تحولات طالما يمر بمنعطف حاسم تلبية لشروط موضوعية وتغيير جذري في ذهنية المجتمع وبنيته الفكرية وأشكاله الفنية.
إن عقلية المسرح البراغماتية تعرف كيف تخضع حاجياتها، ومتطلباتها المادية والروحية والثقافية إلى متطلبات مجتمعاتها، وتعرف كيف تهدم لتبني، وتعرف كيف تبني من التناقض أطروحاتها لتتخطاها، بعد أن تقبل ما ينفع، وما يدعم تنامي سرعتها في التغير والتحول، وتلغي ما يقف حجرة عثرة أمام تطورها. كل هذا يدل على أن العقلية المسرحية تستطيع تجاوز تناقضها لتأسيس المؤتلف بين عناصرها المتناقضة، وهو ما يعطي لحيوية التحول في منظومتها المسرحية إمكانية فرز التجارب، والنظريات التي تسمي الأشياء بأسمائها، وتضع التجارب على محك التجريب دون أن تنسى أن الزمن هو الذي يتحكم في الماقبل، والمابعد، على اعتبار أن التجاوز والتخطي، أساسيات ضروريات مفصلية في الحديث عن المسرح، دون التحدث عن العجز والشيخوخة.
للمسرح وسائل عديدة وأساليب مختلفة، يستطيع أن يعبّر بها عن وجهة نظره، وعن أفكاره، فقد ساهم بكل هذه الوسائل التعبيرية في كشف القناع عن الوجوه الفاسدة، وتعرية مواقف أنظمة الحكم والسلطات وحارب الفساد والظلم والجهل وعرّى الديكتاتوريات ونقد سلبيات الحياة اليومية، وحرّض على التغيير، بل ساهم في تشكيل الوعي بضرورة الثورة على هذه الأوضاع وتصديرها، دون القيام بها، يقول أوغستو بوال: ينبغي دعم الثورة ليس من خلال الفعل السياسي وحسب إنما من خلال الفعل الثقافي والتعليمي والاجتماعي أي من خلال ابتكار منظومة تربوية متكاملة تستطيع انتاج ذهنية جديدة للمواطن تضمن المشاركة في الديمقراطية والمساواة والحرية.
ولازالت ارهاصات هذه الثورة التكنولوجية في طور البحث والتكوين رغم النجاحات المحدودة التي توصلت إليها مجموعة التجارب المسرحية الحديثة في العقود الأخيرة وتمظهرت بوعي متمرد رافض للسائد محاولاً التغيير من خلال المضامين والأشكال الجديدة كلما تعرض المجتمع إلى تغيير في الذهنية، فارتدى المسرح ما سهل فهمه وتعددت دلالاته ليطرح أسئلة المرحلة ويواكب التطورات السياسية بهدف تحقيق أبعاد اجتماعية وسياسية وفنية لاستيعاب ذهنية الحشود الثائرة، الطالبة للكرامة والحرية في الشوارع والساحات العربية، ويعمل على تغيير العالم واختزال الزمان والمكان في لحظة مكثفة، بعد أن بدا يفقد مكانته نتيجة مخاض طويل بسبب خضوعه لأنظمة فاسدة وديكتاتوريات غارقة من القتل، والتي سقطت كأوراق التوت تحت ضغط التغييرات الجذرية، فكانت ثورات الربيع العربي.
لذا خلع المسرح أثوابه التي أثقلت كاهله، وغادر العلبة الإيطالية مع متفرجيه باحثاً عن ساحات عامة وأزقة معتمة وأماكن لم يرتادها هذا المتفرج من قبل، لينصب خشبته الافتراضية مردداً مع المتفرجين بصوت عال: (الشعب يريد إسقاط النظام) بتأثير من ثورات الربيع العربي، والتي حققت فيها وسائل التواصل الاجتماعي حضورها الفعال على الحياة بكافة تجلياتها، وحققت وظيفتها عبر الصور المتلاحقة من الواقع المتقدم عنه، واكتسبت ثقافة بصرية، تناسجت مع بنيتها بوصفها ظاهرة جديدة.
هل فعلاً بدا علامات الاحتضار أو علائم المخاض على المسرح ولم يبق إلا الإعلان عن موته أو ولادته رسمياً؟ قد لا يكون الجواب في الحالتين بهذه السهولة، خاصة لاحظنا خلال السنوات الماضية، ربما تحولاً (وليس تغييراً) في الأشكال الفنية والوسائط التكنولوجية من خلال تعامل المسرحيين معها، وتالياً يمكن القول إن دور المسرح كحاجة اجتماعية قد تراجع بسبب جملة من المتغيرات الاجتماعية والثقافية، ولم يعد المسرح مصدراً أساسياً من مصادر الثقافة باعتباره كان حدثاً درامياً يشكل جزءاً من تصرفات الانسان وينجز في كل حركة فعلاً متواصلاً مع استجابة الجمهور، فأصبح أداءً يمثل المؤدي نفسه على الخشبة، ويجلب الانظار إليه، ويخلق حقيقة المؤدي على مستوى المشاهدة، وهكذا يتوسل المسرح بجمالياته لتحقيق أغراض الثورة ويثور على الأعراف والتقاليد المسرحية.
وبذلك، تخلص المسرح من قبضة الأنظمة، وتمرد عليها، فأحدث قطيعة مع الماضي، بل وجّه رصاصة الرحمة إلى الأب الثقافي للتخلص من سلبيته، وراح ينصب خيمته في أزقة معتمة مشاركاً متظاهرين محتجين، يرددون بصوت عال: الشعب يريد إسقاط النظام. قد تكون المرة الأولى يشارك فيها العرض متفرجه بهذا الشكل الصريح، ليس لأنه كان متأخر عن الواقع، بل إنه استنهض صوته المسلوب عبر الذواكر النابضة بالحياة.
المتتبع للتجارب الإبداعية الجديدة للمسرحيين العرب التي واكبت ثورات الربيع العربي، يجد من دون صعوبة أن أغلبها قد تأثر بنبض الشارع والأوضاع المضطربة التي تعيشها المجتمعات بما يسودها من مظاهر الاحتجاج والغضب والتمرد والقتل المجاني، قد تكون معظمها نتيجة لحظة التماهي مع الثورة (كقيمة مرحلية)، وتزول بزوال الظرف التاريخي، وقد تشكل تياراً جديداً يسجل من خلالها المسرحيون العرب لأول مرة منجزاً ثقافياً فكرياً جمالياً على مستوى العالم.
فإذا اتفقنا مع بيتر بروك بأن العرض المسرحي يُبنى على ثلاث أسس أساسية في كتابه (المساحة الفارغة) كما يقول: (أستطيع أن أتخذ أية مساحة فارغة وأدعوها خشبة مسرح عارية. فإذا سار إنسان عبر هذه المساحة الفارغة في حين يرقبه إنسان آخر، فإن هذا كل ما هو ضروري كي يتحقق فعل من أفعال المسرح)، لم تتغير هذه الأسس الثلاثة في جميع نظريات ومدارس العرض المسرحي منذ أو وُجد العرض المسرحي، إلا أنها تعرضت للتحسينات والاضافات وفق الأزمات والمراحل التاريخية، فأي العناصر الثلاث الآنفة الذكر يجب أن تتغير حتى تنتفي صفة المسرح الدرامي عن العرض، ومتى يبدأ المشهد المسرحي الجديد بالتشكل؟.
المكان البديل/ فسحة الحرية:
يعرّف باتريس بافيس المكان المسرحي بأنه، المكان الذي يقدم فيه العرض سواء كان ذلك في مسرح مكشوف (مؤقت أو دائم) أو داخل صالة ما، شُيّد لغرض العروض المسرحية أو حيز مكاني يستخدم في حالة ما لغرض مسرحي، يشتمل على حيز اللعب (الممثل) وحيز المشاهدة (المتفرج). لكن المساحة التي يتحرك عليها الممثل هي الخشبة نفسها من حيث الوظيفة الادائية منذ العروض اليونانية الاولى بقصورها وأعمدتها وجلالتها وجوانبها وحفرة الاوركسترا مروراً ببناء المسرح الاليزابثتي وتنقلاته المكانية وشرفاتها العالية، إلى العلبة الإيطالية وتزيّناتها وستائرها وليس انتهاءً بالمسرح الدائري والمستطيل ومنصات عروض العبث والطليعة والمساحة الفارغة بغض النظر عن الستائر الخلفية والامامية والديكورات والاضاءة والممرات الجانبية للخشبة وامتدادها بين الجمهور، رغم التغييرات والإضافات التي جرت عليها وفق كل المدارس والتيارات والرؤى والتجارب المسرحية.
قد تصغر مساحة الخشبة ليكون العرض في الغرف المغلقة في تجارب محددة، أو يكون العرض في مشفى الامراض العقلية أو في بهو فندق، أو في غرفة صغيرة تسع لعدد محدد من المتفرجين (مسرح الغرفة، ومسرح الستين كرسي في العراق، وبعض العروض التي قُدمت في القبو كعرض المهاجران)، وقد تكبر مساحة الخشبة وتتغير صفاتها وأشكالها، وتستخدم عليها رافعات ومصاعد وحفر كهربائية (أماكن مفتوحة وخالية، ليست لها خصوصية محددة، تمارس عليها العديد من النشاطات ويكون العرض طارئاً عليها، بينما الاماكن الثابتة المخصصة للعرض، هي الأماكن الأكثر صرامة والتزاماً بقوانين العرض والمكان والجمهور، وبالتالي تمرد المسرحيون عليه، وهذا بحد ذاته يحد من جمالية العرض) في الهواء الطلق كما في العديد من العروض، واستخدام شرفات الابنية ومداخلها وباحاتها كفضاء، يتطلب لهذا العرض ممثلاً جديداً ربما يكون لاعب سيرك، أو صالة رياضية أو قلاع قديمة لإعادة إحيائها وتنميتها الثقافية، أو ساحة عامة أو بين الحقول أو فضاء المدينة (مسرح الشارع)، النواصي والمقاهي أو عربات متجولة في المدن والقرى أو فضاء العالم من خلال وسائل التواصل على شكل بث مباشر، أو فسحة تحت البحر أو فوق سطح السفينة أو على متن طائرة، وهذا المكان هو فضاء العالم يطال الفضائيات والصحف وأحاديث الناس والمؤتمرات، فشكل المكان ومساحته تتغير مع كل تيار مسرحي، لكن المساحة تبقى مساحة، لا يمكن إلغاؤها لأن ثمة ممثل يشغل حيزاً منها ولا يتجاوز خطوطها الوهمية.
يؤكد بروك على أنه مثّل في كل مكان إلا في المباني المخصصة للمسرح، مثّل في المقاهي، في الصالات التي يجتمع فيها الجمهور أثناء الاستراحة، في الشوارع، في الاماكن المتهدمة، في القرى والمدن الافريقية، في الساحات العمومية في أمريكا، في البارات، لأنه ينظر إلى المسرح لا بمفهوم البناية بل بمفهوم العلاقة مع المكان. لذلك يكتسب العرض معاني جديدة فيما لو عرض في القبو أو ساحة عامة أو.. هل يمكن أن نشاهد عرضاً مسرحياً في ساحة التحرير أو في شوارع صنعاء أو أزقة دمشق الضيقة، أو أمام المساجد حيث يجتمع الجمهور سلفاً، واستحضار طقوس الرمزية والاحتجاجات الشعبية في لحظة تفاعل الجمهور مع الممثل، ذات يوم؟ المكان الذي يندمج فيه الجمهور والممثل كتلة واحدة متماسكة والانطلاق نحو الساحات العامة باعتبار أن اللحظة كانت لحظة طقس شعبي؟.
الممثل اللاعب/ البهلوان
لا يمكن الاستغناء عن الممثل إن كان راوياً أو بهلواناً أو مؤدياً في العروض المسرحية منذ تضخيم حجمه وتطويل أطرافه ووضع أقنعة على الوجه في تراجيديات الاغريق، إلى اندماجه في الدور والمعاناة مع ستانسلافسكي، إلى الممثل الراوي في المسرح الملحمي والحكواتي، إلى السوبرمان واللاعب البهلوان والروبوت طالما أنه ركن/ مكون أساسي في وجود انجاز العروض، لذلك فهو يتعرض لمجموعة من التغييرات الاجتماعية والتحولات الفكرية، ما يسبب في جمالية ادائه المتغير، وانتاج إشارات ثم بثها إلى شريكه في المشهد أمام جمهور حي يتابعه ويتفاعل معه ويشاركه، فمشاركة الاثنين في العرض حالة شعورية وجسدية بحيث يستدعى كل منهما حضور الآخر لإنجاز عرض مسرحي.
ولا قيام لعرض مسرحي بدون فنانين يحملون هذه الكلمة أو هذا الموقف ويجسدونها ويوصلونها لفظاً ومنطوقاً ومضموناً للجمهور، يعد الممثل عنصراً له أهمية بالغة، ما دام نجاح العرض يتوقف على أدائه. الممثل لا يحاول بناء شخصية أو محاكاتها، بل يتموقع عند الجمهور ويستعيد مشاعره الحقيقة، على غرار الرياضي والمغني الموسيقي والمرتل/ المنشد، والتقني الذي لا يكون في خدمة محاكاة إنسانية أو إيهام مسرحي بل في خدمة متلفظه.
وطالما أن الممثل يقدم فرجة مسرحية، فهو يتعرض أيضاً للتغيرات والتحولات الفكرية والفيزيولوجية وفق التيارات الفنية، لكن لا يمكن الاستغناء عنه أو اقصاؤه جانباً، هذا يعني انتفاء العرض. قد تطرأ تغييرات بنيوية على دوره ومكانته ووظيفته رغم الوظائف المسندة إليه في الدراسات المسرحية التي كانت تهتم بدراسة الممثل من حيث اندماجه أو عدمه، ومن حيث تأثيره في الجمهور ومن حيث الدور والشخصية، سيبقى الممثل شخصاً مؤدياً يتحرك فوق مساحة حددها له المخرج، إن كان ممثلاً أو مغنياً أو عازفاً أو راقصاً أو رياضياً أو بهلواناً استعراضياً أو شاعراً أو حكواتياً، فهو يقف أمام الجمهور، أو أن جمهوراً يتابعه ويؤدي دوراً ما ربما يؤدي دوره هو، وينتج أفعالاً لها معنى، أو لامعنى لها، ويعقد شبكة من العلاقات مع الفضاء الدرامي أو فضاء الأداء، وفي فنون الاداء يركز المسرح على الظاهرة أكثر من اهتمامه بالعمل الفني المتكامل، في هذه الحالة، لا يلعب الممثل دوراً إنما هو مؤد يركز على حيوية المشاهدة وأثرها على الجمهور.
قد يُستبدل الممثل بدمية (مسرح العرائس)، وإن كان على نطاق ضيق في مسرح الكبار مسرحية (أوبو ملكاً)، مثلما استخدم الممثلون دمى في ساحة التحرير بمصر كرموز لشخصيات فاسدة وتم شنقها رمزياً أيضاً، وقد يستبدل بتقنيات الشخصيات الافتراضية، والإضاءة الرقمية التي تظهر على شكل أشباح يتحكم فيها مصمم الإضاءة، أو على شكل خيال (خيال الظل)، وقد يتطور الممثل ويؤدي عدة أدوار في عروض المونودراما (ممثل متعدد الوجوه) أو غيرها، وربما يتغير اسمه من ممثل إلى مؤدِ كما يتغير اسم المسرح كمفردة تنتمي إلى عصر ما وتستبدل بفن الشو أو فن الأداء أو فن الفرجة أو فنون الحكواتي مع التطور التكنولوجي الذي أزال الفوارق بين الفنون، وسيبقى الممثل عنصراً رئيسياً في العرض.
لكن هذا الممثل الذي هرب بجمهوره من العلبة المغلقة وتخلص من القيود الاجتماعية والدينية والسياسية راح يمارس جنونه الإبداعي بحرية مطلقة في ساحات مدججة بالسلاح، متجاوزاً قيود الفن وقوانينه في نطاقه الواسع بعد أن تبنى نظريات الأداء والسرديات وها هو يحطمها في الساحات والشوارع، وقد يؤسس لأداء جديد ومسرح جديد متجاوزاً الأحداث التي تجري على الخشبة الارسطية التقليدية.
المكان فسحة من الحرية يلتقي عليها الممثل والجمهور معاً لممارسة الجنون عن طريق استفزاز الجمهور، أو السخرية منه، فجنونه يستدعي جنون الجمهور إزاء ما يجري من أحداث، مثلاً في عرض (المسخ) للفنان نمر سلمون يقول الممثل للجمهور «إذا قلتم لي مساء الخير، فلن أرد عليكم». ويكتب في البروشور تحت عنوان ثرثرة المخرج: «أكرهكم حتى إشعار آخر»، يريد أن يشارك المتفرج في العرض، أن يخرجه عن سلبيته. لقد انتهج هذا النهج في جميع عروضه فمثلاً في عرضه (درس درامي)، يوجه حديثه إلى جمهور الصالة: «أنا لا أحتمل سلبيتك تجاه ما يحدث في العالم.. ستصبح يوماً ما شاهداً على دمار نفسك ودمار الآخرين، فأنت تنفعل دون أن تفعل». يدعو المتفرج إلى أن يواجه نفسه بشجاعة ويعبر عنها بحرية، يدرك أن الخشبة هي المكان الأكثر أماناً لممارسة الحرية. كما أنه يدعو الجمهور إلى المشاركة في التمثيل ليمارس حريته وهويته، وبالتالي يحاول إزالة الفراغ الفاصل بين الصالة والخشبة ويحرضه للخروج من سلبيته ومن ورطته على الخشبة ليعبر عن رأيه ويحدد موقفه من أحداث الربيع العربي ومن الحياة.
الجمهور الخلاق
كان ولازال الجمهور يشغل تفكير المخرج والممثل والتيارات المسرحية والمدارس الفنية معاً، بل تبوأ مركز الصدارة كقيمة مهيمنة في فنون الاداء لأنه المكون الإبداعي الثالث في عملية إنتاج العرض وبدونه لا يمكن أن يحقق المسرح وجوده وشرطه الإبداعي، لكن الجمهور الخلاق هجر الصالة، وعزف عن الحضور، وراح يبحث عن مكان يجد فيه أسئلته الغائية ويعبّر فيه عن حريته (لا يقل إبداعه عن إبداع الممثل، هو الذي يمنح العرض معاني لامتناهية في العروض الحديثة)، قد يكون هذا الجمهور فرداً واحداً أو مجموعة تجاوزت الألف، وقد يتفاعل بما يجري أمامه أو يقف جامداً غير مبال، في الحالتين هو جمهور يحضر العرض ويتابعه، في الصالة أو في أماكن تواجد الاداء أو في البيت أمام جهاز التلفاز أو على مواقع شبكات التواصل الاجتماعي، قد يجلس في الصالة، أو يقف أمام شاشة عملاقة، أو يمشي مع مشاهد عربة العرض التي تتجول المدينة أو يأكل، لكنه يتابع الاداء، وقد تتغير وظيفته ومشاركته وأهميته واندماجه وشعوره وحالته النفسية وتواصله مع الممثل، ومع الشخص الذي بجانبه، يسمع أنفاسه كتركيبة اجتماعية وطقس حضور نشاط ثقافي، فالجمهور يبقى جمهوراً في المسرح وإن تعددت مهامه.
الجمهور يشارك الممثل لعبته المسرحية ليشكّلا معاً فضاءً مسرحياً، (مشاركة الممثل والجمهور في العرض كحالة شعورية وجسدية بحيث يستدعى كل منهما حضور الآخر كما ترى الباحثة أريكا فيشر ليشته)، يتحول هذا النموذج الجديد إلى نوع فني درامي تحفيزي، استفزازي، يسمح بمشاركة المتفرج فيه، أو نفي ثنائية الإرسال والاستقبال أو تبادل مواقع المرسل والمرسل إليه كشكل تقليدي للعملية الإبداعية مع بداية الألفية الثالثة لإنتاج فنون الأداء والدراما التفاعلية أو الفرجات المسرحية بعد تراجع الكتابة المسرحية، ودور الكلمة في النص، لم يعد أحد يهتم بالبنية الكبرى والبينة الصغرى للنص في الدراسات النظرية، ورغم أن المخاض استمر فترة طويلة إلا أن هذه المرة كان التحول خارج سيطرة الدوائر المسرحية الغربية، بل تفاجأت تلك الدوائر من جرأة الشباب المسرحي في البلدان العربية من التغيير عندما أعلنت صراحة ثورتهم، ليست على العروض المسرحية التقليدية فحسب بل على كافة الأشكال السلطات القديمة والتقليدية والأبوية والدينية والسياسية مع ثورات الربيع العربي، يصرّ هذا النوع من المسرح العربي أن يكون منتجاً ومصدِّراً إنتاجه المسرحي إلى خشبات العواصم المسرحية في العالم.
التحولات في المسرح تشمل المكونات الثلاثة الأساسية (المكان، الممثل، الجمهور) ولا يمكن الغاؤها، إنها ثابتة لا تتغير، وإن انتفى أي مكون، فلا وجود لعرض مسرحي، لكن قبل التحولات التي تجري على المكونات الثلاثة كان هناك تحول أساسي على مستوى الكتابة المسرحية كمقترح فني وجمالي وعلى مستوى المضمون وعلى مستوى الشكل تحرّض الممثل والمخرج بهذا الاتجاه، وفي هذا السياق شاهدنا خلال السنوات الماضية العديد من العروض التي حققت هذه الشروط من بعيد أو قريب وتجاوزت تقليدية المسرح.
فقُدمت عروض في فندق وساحة عامة ومحطات القطارات وفي الحدائق العامة وخان أسعد باشا، وفي شوارع دمشق، وعلى شبكة التواصل الاجتماعي منذ سنوات (فيس بوك)، وكذلك شاهدنا جمهوراً غفيرا أمام صالات العروض خارج أوقات المهرجانات يشاهد عرضاً مسرحياً أو احتفالاً بمناسبة مسرحية عبر شاشة كبيرة منصوبة في بهو الصالة أو في الشوارع، وتغير شكل التلقي في الصالات مثلاً المسرح الدائري في المعهد العالي للفنون المسرحية حيث يكون الجمهور في الأعلى (الصالة) العرض في الأسفل (الخشبة)، ومسرح الهواء الطلق خلف المعهد، فلا تنتمي إلى الصالة التقليدية على الرغم من أنها صالة مفتوحة لأن المشاهدة مختلفة وتالياً يُحدث تأثيراً في الجمهور.
امتازت الأشكال المسرحية التي قدمت خلال ثورات الربيع العربي بالخشونة والقسوة والعنف البصري خارج المألوف، ذلك من أجل خلق معادل موضوعي بين واقعية الحياة وقسوتها وبين الحدث الدرامي الذي يقدم على خشبة المسرح، فتعمقت الدلالة السياسية لفكرة المسرح المغاير بعد 2011 بشكل أكثر وضوحاً، الفترة التي اكتشفت فيها الحاجة السياسية لولادة أسئلة المعرفة والغاية منها لاستهداف ما يقدم على الخشبة للجمهور وتوجهه ضمن اطار التحولات، كما أن العلاقة بين المسرح كمفهوم والسياسة كممارسة، تغيرت على نوع من المفارقة المتمثلة في كونه لم تكن محاولاته لتتحقق من دون صرخات الرفض والاستنكار والاندماج في المرحلة الجديدة التي سعت إلى إلغائها.
أخيراً، هل سيشهد المسرح العربي تحولاً على المدى المنظور في إعادة النظر بالمسرح المأمول وبتفكيره وعاداته وتصديره مع العلم أن الفن بشكل عام في خدمة الإنسان المحدد وتكوينه في الزمان والمكان..؟