أنور بدر
رئيس التحرير
“وبي أملٌ يأتي ويَذهبُ … لَكنْ لَنْ أودعهُ”*
يعيش السوريون في هذه الأيام الذكرى الحادية عشرة لاندلاع الشرارة الأولى لثورتهم، حين خرجوا إلى الشارع لأول مرة رفضاً لسلطة الاستبداد، التي رهنت سوريا والسوريين خلال خمسة عقود ونيف، إلى قانون الطوارئ وفساد العسكر وعائلة الأسد.
نستعيد هذه الذكرى السنوية الـ 11 لحرب النظام السوري ضدّ شعبه الذي انتفض مطالبا بالحرية والكرامة، ونحن نقرأ بيان مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، والذي تعترف فيه بأنّ سوريا “لا تزال تُعتبر حتى الآن أضخم أزمة نزوح في العالم، حيث اضطر أكثر من 13 مليون شخص إما للفرار خارج البلاد أو للنزوح داخل حدودها”. مضيفاً أن “الوضع داخل سوريا مزرٍ بشكل حاد، حيث يحتاج 14.6 مليون شخص إلى أشكال مختلفة من المساعدات”، أي قرابة 90% من سكان سوريا حالياً.
لذلك يستعيد السوريون هذه الذكرى، منذ سنوات، بشيء من الخيبة وطعم المرارة يدمي قلوبنا، حين نقرأ مألات ثورات الربيع العربي في منطقتنا ككل، وصور الضحايا ودمار المدن والخراب الذي يستمر شاهدا في سوريا على جرائم الطغمة الحاكمة وحلفاؤها في إيران وروسيا، وسردية النظام المنتصر على شعبه، فيما تُصرّ نخب المعارضة على تمثيل ذاتها في مونولوج طويل، وكأنّها مسرنمة غير عابئة بمآسي السوريين ومصائر سوريا التي أضحت بفضلهم سوريات متعددة بتعدد سلطات الأمر الواقع، وهي بجميع أطرافها ومنصاتها تُدرك أنها عاجزة عن تمثل السوريين أو الدفاع عن مصالحهم أو حتى عن أحلامهم بالتغيير، ومع ذلك تستمر هذه النخب في خوض صراعاتها البينية بعيداً عن أي رؤية أو مشروع وطني سوري.
في هذه المناسبة نأت كثيراً الأسئلة الأولى حول التوصيف: إن كانت ثورة أم انتفاضة؟ وإن كانت مستمرة أم انتهت؟ وإن كان مسروقة أم فاشلة؟ فحسابات الجدوى ليست ذات معنى في حركة التاريخ، الذي تَعلمنا أنّه لا يسير بخط مستقيم، رغم أنّه يتقدم، وأنّ حركته غير إرادية ولا يمكن التحكم بمسارها واتجاهاتها، وبشكل خاص في سوريا، حيث سيطر حزب البعث على السلطة منذ انقلابه العسكري عام 1963، واحتكر الفضاء العام وسيطر على أي نشاط سياسي أو مدني، ورهن كل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية لصالحه، كما صادر كل الحريات العامة والخاصة إضافة لاحتكاره الاقتصاد ومصادر الدخل والثروات العامة في علاقة ريعيّة باتت عاجزة مع الزمن عن الإيفاء بحاجات الناس الضرورية للحياة.
في هذا الواقع الذي فرضته سلطة الاستبداد، والذي ألغت من خلاله أي إمكانية لتداول السلطة عبر أي وسيلة سلمية، ليصبح الشعار الطبيعي “إلى الأبد يا أسد”، باتت معه كل نضالات أحزاب المعارضة التقليدية في سوريا ومواقف النخب المثقفة، عاجزة عن تحريك حالة الاستنقاع المزمنة في مجتمعاتنا، ما يمنح أهمية رمزية عميقة الدلالة لحادثة إحراق البوعزيزي نفسه في تونس، حيث شكّل شرارةً لاندلاع كل ثورات الربيع العربي في المنطقة، رغم قناعتنا بأنها فشلت في الوصول لأهدافها، وتحقيق طموحات وأحلام شابات الثورة وشبابها بالحرية والكرامة ودولة المواطنة المتساوية في نظام ديمقراطي.
ولكنّ قصة البوعزيزي شكّلت مرآة فاضحة للنظام العربي وعجز سلطاته المستبدة عن إقامة عقد اجتماعي بينها وبين شعوبها، إذ لجأ هذا النظام لإعاقة كل إمكانيات التغيير والتطوير في المجتمع، وكل إمكانية لتبادل السلطة بشكل سلمي، وربما يفسر ذلك أن ثورات الربيع العربي المعاقة بطبيعة الأنظمة المستبدة، جاءت كانفجارات عفوية ويائسة في وجه ذلك الظلم التاريخي، انفجارات حكمتها ضرورات التغيير التي لم تعد تحتمل التأجيل، ومن هذا المنظور تبدو مشروعية تلك الثورات رغم كل ما حملته من مأسي وخيبات وفشل.
كُتبَ أول تعبير عن مشروعية التغيير في وثيقة إعلان الاستقلال الأمريكي، التي صاغها توماس جيفرسون وتبناها الكونغرس الأمريكي في 4 تموز عام 1776، ليصبح يوم الاستقلال عن بريطانيا العظمى، حيثُ نصّت على الحقوق الطبيعية للبشر: “نحن نعتبر هذه الحقائق بديهية، إن جميع البشر خلقوا متساوين، وأنهم وهبوا من خالقهم حقوقاً غير قابلة للتصرف، وأن من بين هذه الحقوق حق الحياة والحرية والسعي وراء السعادة”، مضيفا أنه “كلما أصبح أي شكل من أشكال الحكومة مدمراً لهذه الغايات، يكون من حق الشعب تغييره أو إلغاؤه، وتأسيس حكومة جديدة”. فكانت بذلك أول وثيقة تُقرُّ وتعترف بحق الناس في الثورة ضد الأنظمة التي تنتهك حقوقهم، والتي تطورت لاحقا في كل العهود الدولية ومواثيق حقوق الانسان.
لنكتشف أننا في المنطقة العربية، وبعد ثلاثة قرون ونصف مازلنا كشعوب وأنظمة لم نتعرّف على مفاهيم حقوق الانسان وحقوقنا الطبيعية، حتى أنّ بعضاً من مثقفينا يستنكرون لسبب أو لآخر فكرة الثورة، أو أن ننشد التغيير باعتباره حقاً طبيعياً لنا ولكل البشر! ومع ذلك، ورغم فشل الموجة الأولى من ثورات الربيع العربي أو انفجاراتها العفوية، تستمر شعوب المنطقة في موجات ثانية وثالثة من الثورات والانتفاضات ضد أنظمتها المستبدة والفاسدة، وتعبيراً عن توقها للتغيير والحرية، وضمان حقها في الحياة الكريمة والتقدم والسعادة.
أليس ما يجري في السودان والعراق ولبنان وغيرها إشارة إلى حتمية التغيير الاجتماعي؟ أليس خروج مجموعات سكانية من قوالب هوياتها الصغرى وطوائفها باتجاه البحث عن هوية وطنية تمنحها الحرية وحق العيش بكرامة، يؤكّد أن أي إعاقة لعملية التغيير تلك ستشكل دافعاً إضافياً لقوة الانفجار الحاصل وتسريعاً له، كون فكرة التغيير ليست مجرد خياراً مطروحا ضمن خيارات قابلة للنقاش، بقدر ما هي حتمية الحياة التي تأبى الركود والموت؟
فالثورة فعل مستمر وهي الرد الطبيعي على عقود الاستبداد والفساد البعثي/ الأسدي، وهي إعادة تشكيل لمستقبل السوريين وهويتهم المنشودة. بدءاً من مطلب الحرية والكرامة، ووصولاً إلى دولة المواطنة والمساواة بين كل السوريات والسوريين، بغض النظر عن الانتماءات الإثنية أو الدينية أو الجنسية، فسوريا تكبر بأبنائها، وتزدهي بربيعها القادم لامحالة وهذا ما عبر عنه سعد الله ونوس في كلمته بمناسبة يوم المسرح العالمي وقبل وفاته بعام تقريبا، حين قال: “إننا محكومون بالأمل، وما يحدث لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ”؟
والسؤال المستمر بالمعنى الذاتي والموضوعي أيضاً: هل نحن نمتلك الأمل حقاً؟ وكيف يمكننا أن نعيش الأمل رغم اليقين بأنّ ثورات الربيع العربي أجهضت كلها؟ وهل من أمل في زحمة الانكسارات وحجم الدمار وأعداد الضحايا وقسوة الخيبة الطاغية في حياتنا ووجداننا؟
نعم، إنّها قوة الحياة التي تستمر فينا ومعنا، هو انتصار الحياة على الموت، لأنّ استمرار الحياة يعني استمرار الأمل، والكثير من الأحلام والطموحات، فما زال يُغازلنا توق إلى الحرية والتغيير، ولا زالت تتفتح براعم النرجس من تحت أنقاض الدمار ومخلفات الحرب، وما زلنا نسمع أغاني شيفان وسميح شقير…، وما زلنا نقرأ مع الشاعر الفلسطيني محمود درويش: “وبي أملٌ يأتي ويذهبُ … لكنْ لنْ أودعهُ”.
____________________________
*- “وبي أملٌ يأتي ويذهبُ … لكنْ لنْ أودعهُ”
من ديوان محمود درويش “لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي”.