بيض الوقواق في عش الثورة السورية

0

مصطفى الولي

قاص وكاتب فلسطيني سوري

مجلة أوراق العدد 12

الملف

عشر سنوات مضت على انطلاق الثورة السورية، لم يكن سهلا خلالها قبول فكرة أن لا تنتصر الثورة، أو تفشل في تحقيق هدف الإطاحة بسلطة الاستبداد، كما لم تكن المخيلة العامة الجمعية، ومثلها مخيلة النخب المنحازة للثورة، وتلك المنخرطة فيها، تملك تصورا نظريا ناضجا ومتبلورا للمسار الذي يمكن ان تتجه نحوه قوى الشعب السوري المنادية بالحرية والخلاص من الاستبداد.

وذات الأمر في تشوش توقعاتها لما ستقدم عليه السلطة من أساليب للدفاع عن بقائها، ولإلحاق الهزيمة بثورة الحرية، وإن كان الجميع قد اعتقدوا، وكان اعتقادهم صائباً، بأن العنف والقمع سيكونان السبيل الأساسي الذي ستسلكه السلطة لحماية نفسها وإلحاق الهزيمة بالقوى الثائرة، غير أنهم لم يكونوا ليتوقعوا أن يصل القمع الدموي الى مبتغاه بإلحاق الهزيمة بالثورة.

لعل مصطلح الهزيمة، عندما يستخدم لوصف المآل الذي يقف فيه الشعب السوري اليوم، يجرح ويصدم الأمل الكبير الذي ملأ النفوس خلال السنتين الأول من عمر الثورة. واذا بحثنا عن مصدر “صدمة الأمل” يمكن التوصل الى مقاربة لخلفيات ما أصفه بالصدمة.

أوهام كثيرة ملأت الوعي العام، ورسخت “الثقة” باستحالة نجاح السلطة في إبقاء سيطرتها على مقاليد الحكم في سوريا.

أولها: أن شجاعة الشعب في ميادين التظاهر والمواجهة، جعلت الاطمئنان لإلحاق الهزيمة بالسلطة أمرا شبه مؤكد، وكذلك كان مشهد شمول الثورة للمدن السورية كافة، ولو بدرجات متفاوتة بين مدينة وأخرى، إلى جانب درجة قصوى من الاستعداد للتضحية، يرسخ القناعة بحتمية الانتصار على سلطة الاستبداد والطغيان.

وثانيها: أن النجاح الجزئي لثورتي مصر وتونس، ثم سقوط سلطة القذافي في ليبيا، زاد من الأمل الكبير بحدوث نسخة مشابهة في سوريا، وبشكل عام، بعيدا عن تفاصيل كل واحدة من تلك التجارب.

ثالث تلك الآمال- الأوهام، قامت على تصديق الادعاءات الإقليمية والدولية بنصرة الشعب السوري، بحمايته والدفاع عنه، بما في ذلك من إشاعة مواقف تقول باستعداد تلك الدول للتدخل العسكري لمنع سلطة الاستبداد من الفتك بالشعب السوري وثورته.

أما الوهم الرابع، وهو الأخطر، ذلك التقدير الساذج والخاطئ لقدرة السلطة على البقاء، واستحالة نجاحها في الحاق الهزيمة بالثورة. فالجهل ببنيتها، والغموض في فهم أساليبها التي يمكن استخدامها للدفاع عن بقائها، وبأي ثمن، مضافا إلى ذلك أن الجهل بتحالفاتها الإقليمية والدولية كان سمة للوعي العام، ومعه وعي “النخب” المشاركة في الثورة وتلك المنحازة إليها، وهنا كانت الصدمة المتدحرجة خلال تداعيات الصراع المحتدم في الميادين، فلم يكن أحد ليتصور، أو يتوقع، أن تستخدم سلطة الأسد، وبتأييد ودعم من حلفائها،(موسكو وطهران) سلاح الطيران في قصف المدن الثائرة، واستخدام الصواريخ الباليستية، التي انطلقت من القطيفة في ريف دمشق لتصل إلى مدينتي الرقة وحلب، وصولا إلى القصف بالبراميل العمياء، والسلاح الكيماوي الرهيب والمحرم دولياً.

تلك المعطيات، مصدر الأوهام، جعلت القوى الحية في الشعب السوري، تلازم التخبط والارتباك والعشوائية، كعوامل منعت قوى الثورة من تعديل اتجاه عملها، وإعادة النظر بأساليبها، والعمل على تطوير بنيتها التنظيمية، وأدوات المواجهة في مراحل احتدام الصراع واتساعه ليشمل الأراضي السورية كافة.

في غضون ذلك، كان من المفترض نظريا، أن تسعى قوى الثورة لتطوير ذاتها بما يتناسب مع شروط المواجهة ضمن معطيات الصراع، وبما يتناسب مع ضرورة الانتقال من العفوية العشوائية التي كانت سمة رئيسية للثورة منذ لحظة انطلاقها، إلى انتاج ذاتها بشكل مختلف، أكثر وعيا وأرقى تنظيما، وأنضج أدوات، لوقف التدهور الذاتي، ولدرء أخطار السحق وإبعاد احتمالات الهزيمة على يد قوات السلطة وحلفائها.

بيد أن ماحصل، واعتبارا من نهايات العام الثاني للثورة، كان مغايرا لشروط إنقاذ الثورة، بتجاوزها لمعضلاتها المتفاقمة، من خلال انعدام القدرة “على تغيير الأحصنة خلال عبور النهر”،

إذ تكَفَل “طائر الوقواق”، بإجهاض الثورة من الداخل، حين راح يضع بيضه في عش الثورة، ليحول دون نجاح محاولة “تغيير أحصنة الثورة خلال عبور النهر”.

طائر الوقواق هذا، معروف في دورة حياته الطبيعية، حيث يقوم بوضع بيضه في أعشاش طيور أخرى، بعد أن يكسر بيوض الطائر الأساسي صاحب العش، الذي بناه ليتكاثر وتتطور حياته بعد تفقيس بيض أنثاه. وحين تتسلل أنثى الوقواق إلى العش، تكسر بيضة، وتضع مكانها بيضتها، ودورة تفقيس بيضة الوقواق أسرع من تفقيس بيضة الطائر الأساسي الذي بنى العش بعمله وجهده، وإذا تصادف أن فقست بيضة للطائر الأساسي يقوم فرخ الوقواق الأكبر حجما والأقوى جسدا، بإلقاء الفراخ الأساسية خارج العش لتموت ولتكتمل دورة نموه وصولا إلى الطيران. وحسب خبرات علماء حياة الطيور، فلا ينجح طائر الوقواق بالتسلل إلى الأعشاش إلا عندما تكون الطيور المستهدفة أعشاشها، “غشيمة” لم يسبق لها أن تزاوجت، فتمر عليها بسهولة خدعة بيضة الوقواق، وتظنها بيضة من بيوضها، ولتنجح الطيور التي يستهدف الوقواق أعشاشها، لحماية بيضها، تحتاج لموسم تكاثر جديد، بعد أن تكون قد تعلمت كيف تحرس بيضها في العش، بمراقبة دائمة لأي طائر غريب يتسلل إلى العش، وإن صدف أن تسلل وباض بغفلة من انثى الطير صاحب العش، تكتشف الأنثى بخبرتها أن هذه البيضة غريبة ولا تعود لها، فتلقي بها خارجاً، أو تكسرها قبل أن تفقس وتبني عشا جديدا لها يمكنها من التكاثر دون انتظار موسم آخر قادم.

في إحالتنا خدعة الوقواق تلك، ومكره وذكائه، إلى تجربة الثورة السورية، سنقف حيال القوى السلفية الأصولية، التي دخلت عش الثورة في غفلة من وعي أصحاب “العش- الثورة”، وشرعت بانتاج كائنات غريبة عن طبيعة الثورة، ثم بدأت بقتل الثورة بتكسير “بيضها” وإن تأخرت عن التكسير، تقوم بقتل من فقستهم بيوض الطائر الذي بنى عش- أعشاش الثورة.

أكثر من وقواق تسلل إلى أعشاش الثورة السورية، وفي المدن السورية كافة، لقد كبرت فراخه، وحلقت، وراحت تتكاثر بأسماء مختلفة، وأخطرها ثلاثة أنواع من الوقاويق: جبهة النصرة، وداعش، وأحرار الشام، ومسميات أخرى لقوى اتخذت من الفكر الديني سلاحاً لمد نفوذها في الوعي الشعبي، وهي تتمايز عن بعضها ،لكنها تتكامل في مهماتها بتدمير أعشاش الثورة وقتل مواليدها الجدد، أو إجهاض مخاض اكتمالها.

ومن المفيد أن نشير إلى اختلاف ألوان وأحجام “طيور الوقواق”، لكنها تشترك بصفة أساسية، وهي تدمير أعشاش سواها من الطيور وقتل فراخها وتكسير بيوضها. ذلك هو حال الثورة السورية، فكل الوحوش المفترسة التي انقضت عليها، وبما تملكه من امكانات وأدوات وخبرات، يمكن المغامرة بالقول: إنها لم تكن قادرة على سحق الثورة، والإجهاز عليها، بتلك السهولة، دون الوظيفة البشعة التي قامت بها طيور الوقواق، قبل أن تنمو أجنجة الثوار لتحلق في الفضاء المناسب لتحقيق أهدافها.

على أية حال، من الضروري التأكيد، على أن طائر الوقواق المخادع والقاتل، خرجت أصنافه الأخطر، من مخابئ سلطة الاستبداد في اللحظة المناسبة لخطة قادتها وحلفائهم. ومن لم يخرج من تلك المستودعات، وجاء من مواقع وفضاءات أخرى، مالبث أن حلَق في الفضاء ذاته الذي يخدم أعداء الثورة وحلفائهم.

وطالما التناقضات المتجذرة في سوريا، والآخذة في تهديد شروط البقاء قيد الحياة بحدها الأدنى المطلوب إنسانيا، على الصعد كافة، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، طال مايدعى القاعدة الاجتماعية للسلطة، فأن مايلوح في الأفق هو معاودة الشعب حراكه المتصادم مع السلطة الهمجية، وعليه فإن الدرس الواجب تمثله في تداعيات الصراع، متنوع الأشكال ومتباين المستويات، هو أن لا تتكرر تجربة الصراع الذي تفجر عفويا في آذار 2011، حتى لا تخربها “وقاويق” أخرى من أنواع جديدة، ويقتضي ذلك درجة من الوعي والتنظيم تمكن الفئات الشعبية من خوض المواجهة موحدة ومتكاملة، في تجاوز للتباينات المتنوعة في واقعها شديد التعقيد، وبما يكفل سلامة تطور النضال، وحمايته من الانحراف والاختراق واحتمالات الإجهاض وصولا إلى تكرار الهزيمة.

وتقول التجربة التاريخية للثورات:

إن أكثر من بروفا تسبق نجاح الثورات، وثمنها يكون باهظاً، لكن النصرسيكون حليفها، ولقد دفع السوريون أكبر الأثمان في تجربتهم الفريدة منذ آذار 2011، على طريق التخلص من الاستبداد.

ولابأس أن نستعير، من تاريخ أعظم الثورات، شعار:

“ماتت الثورة.. عاشت الثورة”.