آرام، شاعر سوري من مواليد 1979، صدرت له مجموعتان شعريتان: مدارات المكان والتحول، وهلوسات لموائد العقل.
أوراق 19- 20
شعر
آرام
مشينا في سراب الطريق الأنيق.
لم نكن نحلمُ بأكثرَ من ذلك
أن يصير لصوتنا سماءٌ وذاكرة.
مشينا في وهج البياض الخفيف
خلف كوكب الملائكة وكدنا أن نصل
لولا أن بقعةَ دمٍ نزفت في وجوهنا
ونبت بين خطواتنا شجرٌ أحمر.
على حافة الخراب أبٌ وابنه يجلسان
كلٌ يحدقُ في جهةٍ
على حافة المكان
الذي زلزلته العاصفة.
طفلٌ يغطيٌ وجهه الدم
صراخه يشقُ الغبار الذي في كل مكانٍ
في عينيه تتهدمُ نبوءاتٌ
من يستطيع أن يوقف هذا الألم
يصرخُ ثم يصرخُ
إلى أن يرتجفَ في حنجرته الموتُ
ثم يسقطُ مضرجاً بدمِ الألوهة.
الشهداء أكثر من أن تصورهم الكاميرا
يصرخُ شابٌ مذهولاً:
كيف أصور كل هؤلاء الموتى
في دمي تتكسرُ آلافُ اللقطات.
كيف أوثّق حرارةَ هذا الدم
كيف أثبّتُ جسداً ينتفضُ في صورةٍ
ويطلقُ حشرجته الأخيرة
تدفنُ طفلةٌ وجهها بين ركبتيها
وخلفها بيتٌ تهدم منذ قليل
أمام المنزل الخراب
على حجرٍ نجا مصادفةً من العاصفة.
يجلسُ طفلُ في حالة انتظارٍ
ينتظرُ حضناً يبكي فيه
ويطلق صرخته المؤجلة.
من فجوةٍ في جدار
يطل ملاكان صغيران
ينظران عالياً
إلى وحشٍ معدنيٍ
أحال المدينةَ إلى غبار.
طفلٌ يبكي بين الأنقاض
في عينيه كل تاريخ الشجر.
طفلٌ ممددٌ على سريرٍ بعينين مفتوحتين
تخلى عن جسده الذي أدماهُ الخوفُ
والتحق بالضوء الذي رآه
بعينين مفتوحتين.
الأم المرضعةُ وطفلتها نائمتان
مثل وردتين اقتطفتا للتو
وعلى وجهيهما كل ملامح الحياة.
مثل باقةِ زهرٍ، نامت حفنةُ من الأطفال
العطرُ يملأ المكان.
لم نكن نحلم بأكثر من ذلك
أن يصير لصوتنا سماءٌ وذاكرة.
كما لو أني أموت غداً..
كما لو أني أموت غداً
أستعدُ لملاقاة حتفي
أغرزُ أظافري بأقرب سماءٍ
توشكُ على السقوط
لكي يكون الهباء مدوياً.
عكس حياتي يسيرُ هذا الموت
عكس حياتي البسيطة الهادئة
لولا مرور هذا الزلزال في مجرى تنفسي.
إذن لا بد من صخبٍ
يليقُ بهذا المشهد الصامت.
لا بد من أن أوثّق سيرة تلك المصادفة
التي قتلتني وقتلت غيري.
لا بد أن ألتقط صورةً تذكاريةً لك أيها الموت.
لا بد أن أرتدي أكثر قصائدي أناقةً
لأخرج في موعدي الأخير معك.
لا بد أن أموت وأنا بكامل انتصاري.
كما لو أني أموت غداً
أو اليوم أو بعد ثانيةٍ واحدةٍ.
لا بد أن أكون وفياً لكِ أيتها الأرض
التي احتضنت خطاي
وألا أفقد أخلاق الجاذبية.
لًعلي أجد حفنة تراب
وأصيرُ كما كنتُ أحلمُ دائماً شجرةً عالية.
لَعلي أتركُ شمعةً لمن سيأتون بعدي
ويلعنون الظلام.
لَعلي أجد من يعتني بالورد والقصائد
في غيابي
ويشكر السماء على نعمة المطر.
لَعلي أجد من سيغفُر للطائر جناحيه
وللعشب شغفه الأخضر.
لَعلي أنام وأنا مطمئن القلب
بأن ثمة من سيواصل أحلامه
ويذهب لزيارة البحر.
لَعل هذه البلاد
إذا كان لابد من أن أنزفَ دمي
على معراج ضوئها
أن تصبحَ ملاذاً لكلِ فراشاتِ الكون
وألا تسجن الخيول بعد اليوم.
كما لو أني أموت غداً
أعمل ليومي
وغدي
وأرمي هذه القصيدة.
في الحصار..
في الحصار تآخينا مع الموت، صار مثلنا
يعيشُ بالمصادفة ويموت بالمصادفة.
صار مثلنا يأكلُ من عشب الأرض
ويشربُ من مطر السماء.
في الحصار
سقطت السماءُ أكثر من مرةٍ فوق رؤوسِنا.
في كل مرةٍ كان ثمة بيتٌ يحترق
حياةٌ تتشرد
طفلةٌ تموت
وتفقد عائلةٌ من عصافيرَ أحد أفرادها.
كيف أكتبك أيها الخراب
في دمي الآن بيوتٌ تتهدم
دماءٌ تنزفُ
عائلاتٌ تهربُ تحت الرصاص
سجونٌ خلف أبوابها يموتُ المستحيل.
يدي مبتورةٌ
كيف ألوّح لك أيها الضوء
لم يعد لي ثمة نافذة
أقف الآن على شرفة هذا الخراب.
لا أكتبُ..
لا أكتبُ.. أقصُّ أظافرَ الموت.
لا أكتبُ.. أتدرّبُ على السقوطِ الحر.
لا أكتبُ.. أحاربُ هذا الهباء وأطيلُ حبلَ مشنقتي.
لا أكتبُ.. أتلعثمُ فوق صخرتِكَ السوداء أيها المعنى.
لا أكتبُ.. أرمّمُ أسمائيَ حولَ شجر الكلام.
لا أكتبُ.. أرتّبُ سريرَ الأبجدية.
لا أكتبُ.. أترجمُ ما تدونّهُ الريحُ بين أحشاءِ الفراغ.
لا أكتبُ.. أدعو الملائكةَ لينغرسوا في طين هذه الأرض.
لا أكتبُ.. أرقصُ فوق جمرةِ اللاجدوى.
لا أكتبُ.. أموتُ وأولدُ مع كلِ حرفٍ ولا ينتهي مخاضي.
لا أكتبُ.. أسفِكُ حروفي فوقَ تربةِ الغيبِ المالحة.
لا أكتبُ.. أزرعُ ألغامَ الشك في جسد اليقين.
لا أكتبُ.. أتدحرجُ مع نرد التاريخ.
لا أكتبُ.. أفكُّ رموز العدم.
لا أكتبُ.. أدفنُ جثةَ البرق.
لا أكتبُ.. أرتبُّ سرير الأبجدية.
لا أكتبُ.. أشهقُ وأتنفسُ تحت الأنقاض.
لا أكتبُ.. أؤيدُ ثورة البنفسج.
لا أكتبُ.. أرفضُ رشوة الضباب.
لا أكتبُ.. أتهجى الصمت.
لا أكتبُ.. أفضحُ أسرار الغيب.
لا أكتبُ.. أقبعُ في زنزانة العبث.
لا أكتبُ.. أتخبطُ بدمِ الكون.
في الأفق..
في الأفق، أقصدُ ما تبقى منه
في هذا المدى المسيّج بالخوف والرصاص
يعبرُ القتيلُ في منام القاتل، بتؤدةٍ وصمت
تسقطُ الأحلامُ والكلماتُ، دونما أثرٍ للغبار والضحايا.
-2-
في الأفق، في هذا الفضاء المطرّز بعزلة الكون
يرحلُ الضوءُ من جهةٍ إلى جهةٍ، بلا معنى أو هدف.
لم يعد أحدٌ يبكي أحداً، متنا جميعاً ونحن ننتظرُ الله
أن يخصّنا بوحيٍ منتظر، أو
أن يرسلَ لنا طيوراً تنقذنا من اليباس والعطش.
-3-
في الأفق أقصدُ ما تبقى منه
لم يعد ذلك الخواء الفارغ الممتلئ
تمريناً يومياً لأشياء الحواس.
لم يعد طقساً للتأمل الحر.
ومرآةً نرى فيه هشاشة الحياة
وفكرة عبورنا الزائل، من الحياة إلى ما بعد الحياة
لم يعد كل ذلك.
الأفقُ الآن، أصبح مكتباً يديرُ من خلاله الموت
أعماله الحربية.
-4-
تأتي الرصاصةُ من كل الجهات
وتتكسرُ وردةٌ نبتت على السياج، وفراشةٌ كانت تغني للربيع
تنهارُ سماءٌ، أو تتحطمُ شمسٌ، وتموتُ
عائلةٌ من الزهر اجتمعت على تقشف زادها.
-5-
لم يعد الموتُ شخصاً مهذباً، يطرقُ الباب
ويستأذنُ قبل أن ينزل ضيفاً علينا.
صار يدخلُ من السقف أو النافذة
أو يصطادنا أحياناً، ونحنُ نخبزُ أمالنا الشاحبة
من شدةِ ما أصبح الكلامُ مريضاً، وتصحرت أيامنا.
-6-
في الأفق، في هذا المدى المصابُ بعمى الألوان، فقدنا نعمة البصر
وسرنا كالعميان، في جنازة الوردة.
رحيق عابر..
من حق الأسماكِ أن تنتحرَ على الشواطئ.
من حق الموج أن يغرق.
من حق الخيول أن تُضربَ عن الصهيل.
من حق الفراشةِ أن تختار شمعتها وتحترق.
من حق الشجرةِ أن تفكر بالسفر.
من حق الشمس أن تأخذ قيلولة على سرير الغيم.
من حق القصيدةِ أن تحلمَ بجناحين، وتطير.
من حق الشاعر أن يكتب البرق كما هو
أو أن يكون ساعي بريد الضباب.
حلم..
أريدُ أن أتغير.
أحلمُ أن أتغير.
حتى لو أصبحتُ تمثالاً في حديقةٍ عامة
أو سياجاً يعرّشُ على حديدهِ التوت.
حتى لو صرتُ مظلةً في يد مراهقةٍ عابرة
أو سكةَ حديدٍ تدهسُها قطاراتُ المدينة.
حتى لو صرتُ عش حمامةٍ يطوقهُ الحرُ أو الصقيع
أو حقيبة سفرٍ أو ذيل طائرة.
حتى لو صرتُ فراشةً خذلها الضوء
أو وردة يابسة في كتاب
أو باب حديقة.
أريدُ أن أصبح أي شيءٍ
ينسيني خراب هذه المدينة.
أنا وحيدٌ وبخير..
أنا وحيدٌ وبخير
هادئٌ ومستريح
لي بيتٌ بعيدٌ عني وعنكِ
لي شرفةٌ ينامُ على حافتِها الحمام
لي معطفي ومِظلتي ومواعيديَ
مع السراب.
أسمعُ الموسيقا
وأذهبُ إلى السينما
وأحبُ الغناءَ والبكاءَ أحياناً.
أنا وحيدٌ بصحبةِ نفسي.
لا شيءَ يدلُ عليكِ
لا شيءَ يدلُ على نقصانكِ
لا النبيذُ ولا شموعُ المساء
ولا الذكرياتُ التي تهطلُ كالمطر الخفيف
لا القصائدُ التي تكتبُها بقايا عِطرك ِعلى ثيابي
لا الأغاني التي تضربُني كالبرق
لا نصفُ ضحكتكِ الخجولة
لا ضوء عينيكِ الذي يلمعُ كاللؤلؤِ في الليل.
لا شيءَ يدلُ عليكِ
لا قميصُ نومكِ معلقاً في الخزانة
لا صوتُكِ يتجولُ في الممر
ولا أحدَ يسألُ عنكِ
لا ياسمينةُ الحي
ولا قهوةُ الصباح ولا العصافيرُ التي تنقرُ خبز غيابكِ.