د.جمال الشوفي، كاتب وباحث سوري
مجلة أوراق – العدد 14
الملف
أولاً: توطئة:
لم يستقر الواقع السوري سياسياً ومادياً وحتى ثقافياً، ولم يتكشف بعد عن كل إيجابياته وسلبياته. لكن دلائل هذه وتلك باتت أكثر حضوراً في معطيات الواقع اليومي والمعاش. فإذا كانت أهم اللحظات الإيجابية فيه هو تحرر الطاقات المكنونة للمبدعين الجدد، ممن يحملون القدرة والإمكانية على تجاوز محنتهم والانتصار لذواتهم الإنسانية الفردية والجماعية بمختلف صنوف الحياة أدبياً وفنياً وفكرياً وثقافياً. غير أن وطئ ثقل السلبيات المعاشة اليوم، سياسياً ومادياً وأيديولوجياً، وأحمال وطن تكاثرت وتراكمت كالجبال، تجعل إمكانية وضوح هذه الإيجابيات واتخاذها موقعها المناسب لها في الحياة مؤخرة زمنياً ريثما تأخذ الحياة دورتها وتستوي على شكل قابل للفهم والتعبير عنه جلياً.
حدث الربيع العربي بكثافته ومتغيراته الجسام أظهر جملًا مفاهيمية تحاول التشكل والتكون المعرفي. هي لم تتخذ شكل صراع طبقي معين ولا صراع قطري أو قومي، بل مطلب للكرامة الشخصية وصونها قانونياّ ودستورياً، للحياة الحرة والكريمة وفتح الإمكانات أمام جيل الشباب وكافة أفراد المجتمع للتعبير عن قدراته العلمية والثقافية دون واسطة أولياء الأمر والمتنفذين. للحرية والانعتاق من ربقة الديكتاتورية والدولة التسلطية وليس فقط، بل من كل الأطر المغلقة التي بقيت تهيمن على الإمكانيات الفردية من أن تتخذ طريقها والانطلاق من موقعها الخاص إلى عمومية المشهد ومقدمة حدثه. هنا من الممكن إفراد صفحات عديدة ودراسات كمية ووصفية، نوعية ونقدية، في سياق نقد ومحاكاة التجربة السورية بعامّها الثقافي والفكري والسياسي، أو بخصوصيتها المفردة كل في حيزه. ومنها تسليط الضوء على طبيعة البنية المعرفية والنقدية التي صاغت الحدث السوري.
- الغرض البحثي:
نقد البنية الممكن ليس ذا صبغة سياسية توصيفية أو محابية، بل ضرورة منهجية يمكن العمل عليها موسعاً بأبحاث ودراسات متعددة، تبدأ من الأطر الحزبوية والأيديولوجية التي شكلت مسيرة حياة السوريين سياسياً وثقافياً، الماركسية والقومية والدينية بصنوفها، والأهلية والمدنية المحدثة، والتي ترفض لليوم الاعتراف ببعضها البعض كمكونات عمل مختلفة على الساحة السورية، وتكيل التهم لبعضها البعض وكل طرف يُحمّل فيها الآخرين مسؤولية ما جرى ويحدث. وليس فقط، بل تُصر على صواب قناعاتها المطلقة، لا يأتيها العيب لا من فوق ولا من تحت.
وإن كنت لست بصدد نقاش إحداها منفردة، حيث تحتاج لعمل وجهد مستقل يبدأ بنقد الذات وإعادة قراءة المشهد بعامّه مقارنةً وتدقيقاً، فلا حق مطلق ولا باطل مطلق، وما يمكن اليوم أن يكون نتيجة سيصبح الغد سبباً.
عليه، فإن موضوع هذه الورقة هو بنية النقد بما هو نقد يأتي على البنية المعرفية والتأسيس لمضمونها المختلف عن السائد والرائج لليوم، وإن كان سيغرق بالإطار النظري فلغرضه المتوخى في جانبين: تجاوز المماحكات التفصيلية المُغرقة الحالة السورية بمزيد من التشظي، ومن ثم محاولة للتأسيس لبنية نقدية تمثل منهج معرفي وسلوك عام يعاند تيار الانحدار العام هذا.
ثانياً: النقد معرفياً:
النقدCriticism) ) في معجم :Cambridge English Dictionary ((The act of giving your opinion or judgment about the good
or bad qualities of something or someone, especially books, films, etc.
هو فعل الرأي أو الحكم سلباً أو إيجاباً في القضايا التي يتعامل معها الإنسان))[i]. والنقد بهذا المعنى لا ينحصر بقضية معينة فكرية أو أدبية فقط، بل بكل الأشياء والأشخاص والسلوكيات والأفكار.
النقد وفق اللغة الانكليزية مصدره الفعل (Criticize) ومنه الصفة الَحرِج(Critical) ، ونقول (Critical point or step or state) أي النقطة أو اللحظة أو المرحلة الحرجة، وهي لحظة تحقق الفرق بين حالين أو طورين مختلفين، وإظهار الاختلاف بينهما. فهذا الفيلم جيد لأنه حقق معايير ذوقية أو فنية أو فكرية أو تصويرية أو… مختلفة عن غيره حسب الناقد، وحسب كل ناقد وحدوده المعرفية. ومنها التفكير النقدي (Critical Thinking)، والذي يحيل النقد إلى فروع متعددة: كالنقد الأدبي والنقد المسرحي والنقد الفكري والنقد العقلي الفلسفي، وكل منها له مدارسه ومناهجه …. وأيا كانت هذه المدارس فهي تتفق بالجذر على تقديم الرأي بقضية ما سلباً أو إيجاباً، وتعين لحظة الفرق بين هذه وتلك، وهذه ليست مطلقة ونهائية بقدر ما هي تمييز وفرق وحدّ.
بينما عرف معجم (لسان العرب): “النقْدُ بأنه مصدر من نَقَدْته دراهمه. ونَقَدته الدراهم ونقَدْت له الدراهم أي أعطيته فانتقدها، أي قبضها. ونقد الدراهم إخراج الزائف منها”[ii]. في معظم المعاجم العربية هناك اتفاق على هذا المعنى المتعلق بإعطاء المال مقابل فعل أو عمل أو هبة، لكنه أيضاً وحسب لسان العرب والقاموس المحيط أن: “النقد خلاف النسيئة، وهو تميز الدراهم وغيرها، والنسيئة هي الزجر”[iii]، فالنقد ليس الزجر والتعنيف، بل الجدال والنقاش “فنقدت فلاناً أي ناقشته في الأمر جدالاً”.
النقد، سواء في اللغة العربية أو الانكليزية، هو المعادل الموضوعي المقدم إزاء قضية ما، وإن كان الفرق بينهما في صيغة المعادل الموضوعي مالاً أو رأياً، لكنها بالحالين تحيل إلى صيغة تقييم للفعل أو الحدث. وتتفق اللغات وفق هذا على أن النقد شيء مختلف عن التعنيف والتهكم والازدراء، فهو الجدل والنقاش وإبداء الرأي في قضية معينة سلباً أو إيجاباً. وهذا ما يحيل بالضرورة لطريقة المعرفة والعقل في الحكم والتحكيم.
النقد وفقاً لمصادره مدارس ومناهج متعددة، ويستند لرؤية الناقد أو رغبته أو فكره أو محاولته إنتاج بديل عن الموضوعة أمامه. عليه فالنقد قد يكون اعتيادياً وحياتياً في القضايا العامة والشخصية، وغالباً في هذه الحالة هو محاولة تقديم رؤية الناقد السلبية، كانتقاد سلوك لم يعجبنا، أو تصرف ما. وانتقاد طعم الأكل الذي نأكله، وحتى انتقاد ألوان الثياب أو ترتيبها مثلاً. فهذا لا يعجبني وهذا لا يروق لي…إلخ. وكل هذا يعتبر في الحيز العام الثقافي في المجتمعات على تنوعها وتعددها، مرده للاختلاف والتعدد والتمايز بين الأذواق والأفكار والأهواء وليس فقط، بل وحق الفرد تقديم رؤيته فيها، والطرف الآخر ليس مُلزماً بها. والمثل الشعبي القائل “البس ما يليق بالناس وكل ما تشتهي وتحب” يدلل على قيم عامة تتعامل بها البشرية في مجتمعاتها تفرق بين الخاص والعام، وهو الدارج بالعالم والمسمى بالنقد التقليدي أو لنسميه بالمعنى العام طرق تبادل البشر أفكارهم وأرائهم وأهوائهم وأذواقهم … فيما بينهم ضمن حيّزات الحياة ببساطتها المتداولة.
الاختلاف أساس النقد، والاختلاف بإحالته الحياتية مصدر من مصادر الوجود الإنساني، وهو حق طبيعي تتنازعه البشرية وفق منظومات عيشها وحياتها وطرق حكمها المختلفة. ما يجعل النقد موجود في الحياة أصلاً بحكم طبيعة البشر والحياة ومعارفهم قبل أن تتشكل له مدارس ومناهج خاصة، عندما ابتدأت نظريات المعرفة بالاتساع والجدال والحوار فيما بينها.
في هذا الجانب يصبح النقد ذو سياقات وطرق عقلية ومعرفية غرضها تبيان الموقف العقلي والمعرفي من قضية معرفية ما، تخص الوجود الإنساني بعامه في الفلسفة والفكر، أو تلك المتعلقة بالجوانب الثقافية المختلفة الأدبية والفنية والمنتج الإنساني بتنويعاته، بغية تشكيل فوارق عامة بينها تمس الوجود الإنساني من إحدى جوانبه وزواياه أيضاً.
النقد المعرفي أو ما نجيز الإطلاق عليه النقد الثقافي، بني على تعدد مناهج المعرفة الإنسانية، فحسب كانط في انطولوجيا الوجود “إذا كان النقد يُعد بمثابة الخطوة الأولى نحو بناء النسق الفلسفي، فمن الممكن أن يعد الخطوة الأولى والأخيرة، ولا ينتقص ذلك من مكانة الناقد”[iv] (كانط، ص 11)، فحسبه ليس بالضرورة للفعل النقدي أن يؤسس البديل أو ينتجه، بل هو تقديم مكامن الخطأ وإظهارها للعموم، والبدء بتأسيس نسق معرفي مختلف عن السائد والعام والدارج. هو فعل في الثقافة العامة واستاتيكها وسكونها وطرح البدائل التي يراها الناقد أكثر حرية أو سعادة أو عقلانية للإنسان، ومن ثم ستجيز الحياة بصيرورتها إثبات هذه القضية أو خلافها.
في شتى مناهج المعرفة والعلوم، يمكن لأي نظرية أن تصبح واقعاً، ولكنها تفقد وجودها المعرفي حين تكتمل لا كمنظومة سياسية واجتماعية وفقط، بل معرفية وسلوكية، حينها ستحمل أدوات هدمها من تناقضاتها الداخلية أولاً، إن لم تحمل عوامل انحلالها وتغيرها بفعل نمو وتطور منهجية مختلفة ثانياً. فالنظام المعرفي المتكامل كنظام سياسي اجتماعي ليس قانوناً علمياً أبدياً، فحتى هذا قابل للنقض والنفي وفعل النقد. لا وبل مشروط بزمن وشروط تحققه وتكون بدائله الواقعية أيضاً.
ثالثاً: بنية وحدود النقد:
المفاهيم المعرفية الإنسانية ليست نظريات محكمة بذاتها، بل هي فرضيات يمكن البرهان عليها أو نفيها وبالضرورة نقدها في سياق حركة الواقع بأبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية وخلاصتها الفكرية والثقافية، فـ”ليس هناك بشرية وحيدة، أو عالم وحيد بل تعدد عوالم، أي أعياد وانفجارات فريدة، إن العالم لم يخلق مرة واحدة بل في كل مرة ظهر فجأة فنان أصيل”(ماركيه، ص 269)[v]. فالكثير ممن فردوا مساحة للعمل في النقد والنفي بغية الوصول إلى تعيين وتحديد هوية وثقافة عامة، عملوا في أدوات النقد والمعرفة ومفاهيمها لإنتاج بدائل مختلفة معرفياً، هي ليست يقينية بالمطلق بل نسبية قابلة للقياس والاحتمال فـ”ما هو محتمل، وما هو ممكن، وما هو صحيح، هنا والآن، واعتقد أنه يجب على الفيلسوف، والناس جميعاً، أن يكون واعياً بالتوتر بين تحقيقه والواقع الذي يجد نفسه فيه”(غادمير ص 46)[vi]. وهذا ما يعطي الفعل النقدي قيمة معرفية وثقافية عامة حينما يتناول الناقد أسئلة الوجود الإنساني العامة ومصيره وصيرورته.
من هنا يصبح النقد:
- منهجاً معرفياً أولاً. وذلك بغض النظر عن طريقة المنهج ذاتها بنيوية أو تفكيكية، مادية أو مثالية، واقعية أو تقليدية مقابل الحداثة والتحديث وأطرها المتعددة معرفياً.
- والنقد مسؤولية فكرية وقيمية ثانياً. كونه يحاول بناء عالم جديد، ويعمل أدواته في العالم القديم. الحالة الفكرية لا تختصر في الفكر والثقافة وحسب، بل في شتى صنوف الفعل الإنساني فكراً وتصوراً سواء كان نصاً أدبياً أو فنياً أو مادة ثقافية.. والعالم الجديد هو صورة المنهج عن مصير الإنسان ومستقبله وليست نفياً مطلقاً لما سبقه، بينما العالم القديم فهي ما تحقق له في الماضي القريب والبعيد. فلوحة الموناليزا هي مدرسة فنية قديمة، لكن لا يمكنها اختصار مدارس الفن التي تلتها كالسريالية وغيرها، بل تصبح مؤشر ودلالة نقدية على التحديث والتفتح الإنساني على ما لم يكتشفه سابقاً، لتأتي مدارس الفن التشكيلي متتالية ومتفارقة عن بعضها، وكل مدرسة تقدم رؤيتها النقدية في الأخرى وهذا على سبيل المثال. والمشترك فيما بينها جميعاً أنه تعبير عن لغة الإنسان الفنية بالألوان أو بالموسيقا أو بالرمز أو بالنص الشعري أو الأدبي… وهذه بوابات متعددة للنقد والمعرفة والقيمة الجمالية للإنسان بتعدد أذواقه وأهوائه وفعالياته، ومسؤوليته عن تقدمه القيمي والمعرفي والإنساني.
- والنقد ثالثاً هو القدرة على تمييز الفارق بين لحظتين، حدثين، قضيتين، وهذا التميز يتعين فيه لغة العقل بكليته المعرفية، والعقل تمييز بين الخير والشر، الحق والباطل. هذا التمييز النقدي لا يعني التميّز بالمطلق، ولا التعالي المتناهي لإحدى القضايا، بل هو حوار المعرفة النسبي بتعدد مجالاتها ومناهجها، بقدرتها على إيجاد المُعَادِلات الموضوعية بين قضايا الحوار وتحويلها إلى قضايا إنسانية عامة تميز الفروق الدقيقة بينها. والنقد هنا يجمع طرفي قواميس اللغة فهو معادل قيمي محدد كما المال الذي يحدد السلعة، أو عدد ساعات العمل وفضل القيمة ومعادلها المادي التي بحثها ماركس في رأس المال، ونقده للرأسمالية وقتها وبديلها الممكن والمفترض في الاشتراكية. والنقد أيضاً هو البحث عن حد التميز بين حالين في مفهوم اللغة الانكليزية، أو ما سمي بالحد الحرج، أو عتبة الفرق والحدود سلباً أو إيجاباً، وما تلك الفروق بين النظامين الرأسمالي والاشتراكي، مثلاً، سوى دلالة على موضوع النقد وأدواته.
- والنقد أيضاً هو النموذج التداولي والتبادلي للمعرفة رابعاً، والمعرفة الأصلح للبشرية في لحظتها وزمنها وموقعها، أي بظروفها. فهو، أي النقد، صيغة عقلانية تحيط بمعطيات التجربة البشرية سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً أو ثقافياً وأدبياً وفنياً، واقتراح الممكن الأجدر، أو الأصلح والأكثر توافقية في الفعل الحياتي، هو تثبيت للإيجابي ونفي للسلبي والبحث عن بدائله الممكنة. وهذه النقطة النقدية بالذات عليها أن تتحلى بالمرونة والاتساع وعدم الفعل على تقنين أو تقزيم معارف المختلفين، خاصة في الجوانب الأدبية والفنية والثقافية، وأكثرها أهمية في الحياة السياسية واختيار ممكن من بين ممكنات عدة يستلزم الدراسات بمعطياتها والإلمام بها. فحيث يمكن فتح الحوار العقلاني في نظريات السياسة والاقتصاد والاجتماع البشري، كما في كتاب لينين المادية ونقد العقل التجريبي[vii]، أو كتاب الياس مرقص في نقد العقلانية العربية[viii]، أو حديث الطريقة لديكارت[ix]، فهي موضوعات تحاول البناء على أرضية معرفية تنحو تجاه الأكاديمية والبحث المعرفي النقدي لتجارب سابقة أو التأسيس لتجارب جديدة، لكنها بذات الوقت تعي بعقلانية إمكانية وشروط تحقق هذه خلاف غيرها. بينما الجانب الثقافي والفني والأدبي، فالنقد حتى وإن أخذ صيغه الأكاديمية المتعددة لكنه يبقى ملكة من ملكات جماليات الإنسان وكسره الأسوار المغلقة والأصنام الفكرية، وكل اعتداء على حقوق الإنسان الفكرية والإبداعية يعتبر اعتداء على الروح الإنسانية العامة وحقوقها القيمية.
موقع “الأداليج”، جمع أدلوجة، واشتقاقها هنا من مصطلح الأيديولوجيا، للتعبير عن انغلاقها كما “الأنشوطة” الشمولية غير قابلة بالاختلاف ولا بالتنوع الإنساني، وفوق مستوى النقد وتداول الأفكار والممكنات، ودون مستوى المنهجية المعرفية الأخذة بالأسباب والمعطيات والممكنات. وهذه لا تختلف سوى شكلياً عن موقع سلطات الشرق وفرقه السياسية والدينية وتتفق معه بنية، والتي تؤطر كل ما عداها. ترفض الاختلاف وتكفره، وليس فقط بل تنفيه وتأسره وتعتقله وتقيم محرقة للفكر والنقد وكل صنوف الإنسان. ليجيز لنا القول: النقد كبينة في وادٍ، وأداليج الهيمنة الحاضرة في واقعنا اليوم في واد آخر، ليصبح نقد البنية ذات حضور ضروري اليوم، وعمل شاق ومضني تبدو كلفته المعرفية الممتدة زمنياً واليومية الراهنة كبيرة بحجم مأساتنا الكبرى!
رابعاً: نقد البنية المعرفية:
لا فرق بين النقد العام والنقد الثقافي في الجذر والمعنى، فكل النقد تداول وتبادل وتحقيق معادل موضوعي أو ذاتي. لكن مجالات كل منهما تختلف حسب القضايا التي يتناولها النقد والناقد، أضف إلى المسؤولية التي يحملها الناقد والقضايا التي يتناولها… وهذا ما يحيل للجمل النقدية التي انفتحت من خلال وسائل التواصل الاجتماعي واستسهال تداولها، والتي وإن حققت خطوة واسعة أمام انفتاح القدرات التعبيرية أمام البشر باختلاف أصنافهم، لكنها بذات الوقت تُمارس على الغالب وفق رؤى ذاتية يفترض صاحبها أنها الأصلح إطلاقاً، ومرد هذا هي البنى المعرفية العامة والسائدة والتي لم تحقق بعد وجودها المعرفي المختلف في أنساق معرفية وأنماط حياتية تتسم بفعل النقد كتداول وتبادل نسبي، هدفه الموضوعية والوصول لبدائل مجتمعية عن حالة الفوضى العامة والسائدة هذه، وهذا جدل عريض معرفياً ونقدياً في تاريخ تشكل الحضارات ومعارفها…
ليبقى السؤال العام في المعرفة مشروع حياة تتكامل أوجهه المادية والمعرفية دون تفان أو تناف أو انهدام.. وهو سؤالنا المفتوح اليوم وغداً، مع إدراكنا النسبي بأن لانهاية للمعرفة الإنسانية إلا بنهاية الإنسان ذاته، وكل ما عداه هو محاولة في أنسنة الإنسانية.. آخذة على عاتقها النقد الصادم وهدم الأصنام السابقة والأحكام الجاهزة فـ “تحطيم الأصنام هي حرفتي، فلن أؤيد أصناما جديدة، ذلك أنه بمجرد أن ابتدعت اكذوبة عالم المثل قد تم تجريد الواقع من قيمته ومن معناه ومن حقيقته”(نيتشه، ص 8)[x]، من هنا يبدأ النقد وكلفته الباهظة أيضاً.
في التجربة السورية اليوم، السوريون باتوا أشبه بأرخبيل من الجزر المتباعدة، جزر ميليشاوية عسكرية متحاربة ومتنافرة، وجزر سياسية أيديولوجية عاجزة، بل غير قادرة، على انجاز أبسط أشكال التحالفات المرحلية والاستراتيجية رغم عديد المحاولات والتجارب التي مرت لليوم. جزر إعلامية وصحافية وجزر ثقافية وفكرية باتت تشكل حلقات تكاد تنغلق على ذاتها ومكنونها، وقلما تحاول الانفتاح على تجارب أخرى، وإن فعلت يكون تحت عنوان التطابق الكلي وإلا فالنبذ المطلق! جزر أهلية ودينية ومشاريع طائفية وما دونها فئوياً أيضاً، ما دون الوطنية ودون مستوى الطموح الأول، تكاد تقف مذهولاً من شدة كثرتها واختلالها، وكأنها دلالة عما حدث وعما يجري…
فإن كان التنوع والاختلاف شرط لاكتمال أعقاد وبراعم الحياة بالمجتمع والدولة المنشودة، فكيفية بناء هذا التنوع والاختلاف وتحقيقه هدفه العام هو ضرورة الوجود والتكامل وبناء لوحة المستقبل السورية. لوحة المستقبل الممكن أو الهوية المتشكلة عقدياً في أولى تعريفاتها بالشخصية العمومية، والتي هي خلاصة الاختلافات الفردية ومثلها الجماعات والكتل الأهلية والسياسية وقد تنازلت لبعضها طوعياً وبإرادتها الحرة لتشكلها دستورياً وقانونياً، مع احتفاظها بحقوق الأفراد في الحرية والإبداع، بحيث “يضع كل واحد منا شخصه وكل قدرته موضع اشتراك تحت الإمرة العليا التي للإرادة العامة، ونحن نتقبل كجسم واحد كل عضو كجزء لا يتجزأ من الكل”(روسو، ص 94)[xi]،حسب جان جاك روسو في العقد الاجتماعي. وإلا تحولت هذه الجزر لأوطان صغيرة ستنفجر بقاطنيها لصغر حجمها، ولبنائها على ذات الإرادة القهرية السلطوية التي كانت السبب الرئيس للحدث السوري وثورته. ما يفسر المزيد والمزيد من الانقسامات الحادثة والتباينات الحادة الحاصلة والمتتالية يومياً في كل صنوف المكونات المذكورة أعلاه إلا ما رحم ربي!
ليست سوداوية ولا تشاؤم! بل محاولة للوقوف على مجريات الواقع السوري أمانةً، وملاصقةً حسية ومادية ومعنوية لكل تمفصلاته أولاً. وثانياً لفتح بوابات النقد من كل جهاتها. وثالثاً عدم الاكتفاء بالوصفات النظرية الجاهزة واليسيرة والاستراحة من بعدها بإتمام ووفاء الذمة! وهذه مخاتلة فكرية وثقافية وسياسية.
إمكانية وضع محددات نقدية للبنية الفكرية والثقافية السورية لا تعني حكماً نهائياً، ولا قيمة عامة تنطبق على الجميع دون استثناء، بقدر الإشارة إلى دلالات التشتت والهدر العام، الذي يستلزم الدراسات المتخصصة اجتماعياً ونفسياً وسلوكياً والتي من المبكر لها أن تصبح دراسات تطبيقية قابلة للتنفيذ ما لم يستقر الوضع العام سياسياً ومجتمعياً. وبالضرورة تصبح الدلالات أدناه والتي نتعايش معها يومياً نحاول حوارها بغية إيجاد جسور التواصل لعكس مسار الانحدار هذا. هذه الدلالات تمثل المكنون البنيوي المساهم في الحدث بمجرياتها ونقده ضرورة اليوم وغداً:
- الاستئثار بالحقيقة سواء كان سياسياً أو معرفياً، هو طريقة المعارضة الأيديولوجية ببناها العمومية الأيديولوجية، والتي مارست النقد تحت عنوان الحذف المطلق للآخر، والاكتفاء بنهجها وأدواتها، تحت عناوين متعددة منها: المثالية الثورية، أحقية القيادة المطلقة ذات المرجعية الماركسية أو القومية أو الدينية.. وتغليب نزعتي التفوق الأيديولوجي والسعي الشهواني نحو الاستئثار بالسلطة، بما يشبه تماماً فعل أدوات البعث الحاكم أيديولوجياً وسياسياً، إنها البيئة العامة المنعكسة في البنية العمومية صاحبة ذات النهج الشمولي المطلق والتي لم تُقر بعد بنسبية حضورها في المشهد العام سواء كانت سلطة أو معارضات من شتى الصنوف “المطلق والنسبي ليسا شيئين، بل مفهومين وحدّين، ومن ليس عنده في روحه وفكره، المطلق، سيحول نسبيه إلى مطلق وذلكم هو الاستبداد”(مرقص، ص 20)[xii].
- استمرارية لذات البنية السلطوية في طريقة النقد والإعلام ورفع الشعارات، والتجيير الشعبي عاطفياً والاستثمار في وجدانهم البسيط وحجم مأساتهم العامة من تهجير وقتل وتنكيل، ما أبدى الكثير من شكلية الشعارات المطروحة دون مضمونها الفعلي والحياتي. بحيث لم تحقق شتى صنوف المعارضة سياسياً ومدنياً وعسكرياً ذلك الفرق المطلوب والميزة الممكنة إيجابياً عن كوارث وسلبيات السلطة القائمة أصل الحدث وجذره، فكانت وكأنها امتداد لطعوم الاستبداد ذاته: شخصانية القيادة، الحزب فوق الوطن والتحالف السياسي، منقطعة عن جذورها الفكرية ونقدها أو مراجعتها الذاتية، ومطلقة الديموقراطية كما درست في دراسة سابقة[xiii].
- الاكتفاء الذاتي بالمتشابهين أو المتطابقين فهؤلاء إعلانيون (نسبة لإعلان دمشق) أو تنسيقيون (نسبة لهيئة التنسيق) ومعارضة داخل وخارج، وذلكم مدنيون (منظمات مدنية) واسلاميون، وديموقراطيون كتل وتيارات شتى، منصات هنا وأخرى هناك … وكل بفلك يسبحون. لدرجة أنها لليوم لم تستطع تشكيل جسم واحد سوى عبر هيئة التفاوض وبدون مبادرتها الذاتية بقدر الدفع الخارجي، والأكثر دهشة الصراع على النسب التمثيلية وبرعاية دولة هنا وأخرى هناك، تجلت بوضوح فيما ولد كفيفاً معطلاً عن الفاعلية والإنتاج لليوم في اللجنة الدستورية.
- استثناء الواقع الاحتمالي وتقديم اطلاقيته بوجهة وحيدة، وإلغاء قسري للممكنات المستقبلية ودراسة تعددها، محمولة على نزعة إرادوية ذاتوية، حولت الأحلام والأهداف لواقع معاش قبل تحققها. ما قاد الجميع لجملة توصيفية تفتقر رؤية الإيجابي والسلبي، وتخلو من شروط الأخذ بالمعطيات ودراستها المنهجية، والتي ساقت الشارع للكثير من الخيبات والخذلان حتى بات يكفر بكل صنوف المعارضة.
- الوقوع في الاختلاط بين السياسي الإجرائي الراهن والفكري النظري الممتد زمناً، هذا الفرق الدقيق بين السياسة كحرفة حسب ماكس فيبر، وبين الفكر المفتوح على مساحات زمنية يتداخل فيها الحلم والتنظير وطرق ومناهج الفكر، ليتحول الفكر لأيديولوجيات تخلط الحدث بالحلم ولا تستطيع الخروج من عقابيله وشراكه “العمل السياسي يمكن أن يمارس باعتباره نشاطاً ثانوياً، ويمكن أن يصبح نشاطاً رئيساً لدى الشخص أو فئة من الناس العاملين في السياسة أو إدارة الشأن العام، وهذا هو معنى الاحتراف”(فيبر، ص 21)[xiv].
- كفاية الاصطدام بالواقع وتحول سورية لعقدة جيوبوليتيكية دولية وساحة صراع محلي ودولي عام، واستعصاؤها السياسي، وندرة قراءة هذا الواقع ومتغيراته، قاد لمحاولات سورية عدة لتلافي النقاط أعلاه، ولكنها ساقت مؤتمراتها ومحاولاتها بذات الأدوات المتمثلة بالبحث عن الدور القيادي والبديل عن الآخرين، بدل البحث عن المشترك العام والإقرار بالاختلاف بين المكونات، ما زاد الصدمة بالواقع حدة وقادت للانكفاء عن الحدث دون تقديم مراجعة نقدية للذات والانغلاق على نماذج من الكنتونات والجزر.
- ومع هذا بدأت الإمكانيات الفردية السورية بالتفتح والإنتاج في مواقعها الفردية، وهذه ملامح إيجابية تحاول في هذا البحر المتلاطم والمتباعد بالجزر، لخروجها من قواقع الأيديولوجيا وصنوفها. هذه المحاولات تتجلى اليوم بجهود الشباب السوري المدني والمنفتح على الحوار مع كل أطياف المجتمع. وهنا يبرز دور الأفراد من السوريين ثقافياً وسياسياً وفكرياً بمقابلة هذه النماذج المتقدمة مع الزمن، والتي من الممكن أن تقوم بما عجزت عنه شتى صنوف المعارضة التي تمتلك مقومات عطالتها في بنيتها الذاتية.
إن تقديم خلاصة نقدية للبنية المعرفية السورية السائدة اليوم، تعني بالضرورة تقشير السلبي منها، والإضاءة على الإيجابي فيها، وفتح حوار منهجي مختلف عن طريقة التكفير والتخوين والازدراء، أو رجم الآخر المختلف كلية. هي محاولة لوضع الأسس الممكنة لاستعادة بناء المشترك القيمي والمادي بينها. حتى وإن لم تتمكن هذه الورقة من طرح بديل مكتمل سياسي وثقافي عام، ولم يكن هدفها بالأصل، كما يرغب الكثيرون في إنتاج الحلول السحرية، وكأنها كوني فكانت، أو مجرد استنهاض واستجماع لنوايا طيبة لم ترتقِ بعد لمستوى المسؤولية والإمكانية على التغيير.
هي خلاصة واضاءة لابد منها، تعتبر حلقة من حلقات النقد والمساهمة في تأسيس بنية مختلفة تواكب طموحات جيل الحرية والكرامة الإنسانية وتسعى لتحقيقها بالحوار والفعل المجتمعي الممكن. مكرراً مرة أخرى ما استحضرته في دراسة سابقة في نقد الثورة والسلطة، حيث “لا يبدو أن الناس يتوقعون الثورة لأنفسهم بل لأطفالهم فالثورة الفعلية مفاجئة دائماً”(برينتن، ص 101)[xv]، مدركاً ضرورة النقد وفعل النقد بالكتابة واللغة كوجه من أوجه التحرر من سلطة اللغة أيديولوجياً ولغة السلطة سياسياً، ففي “اللغة خضوع وسلطة يمتزجان بلا هوادة، فاذا لم تكن الحرية مجرد القدرة على الانفلات من قهر السلطة، فلا مكان للحرية إلا خارج اللغة”(بارت، ص 14)[xvi].
خامساً: المراجع:
[i]– https://dictionary.cambridge.org/dictionary/english/criticism.
[ii]– https://www.lesanarab.com/kalima/%D9%86%D9%82%D8%AF .
[iii]– https://al-maktaba.org/book/7283 .
[iv]– إيمانويل كانط، انطولوجيا الوجود، ترجمة جمال محمد سليمان، (بيروت، دار التنوير، 2009)، ص 11.
[v]– جان فرانسوا ماركيه، مرايا الهوية، ترجمة كميل داغر، (بيروت، دراسات الوحدة العربية، 2005)، ص 269.
[vi]– هانز جورج غادمير، الحقيقة والمنهج، ترجمة حسن ناظم وعلى صالح، (طرابلس، أويا، 2007)، ص 46.
[vii]– لينين، المادية ونقد العقل التجريبي، ترجمة دار التقدم، (موسكو، دار التقدم، 1981).
[viii]– إلياس مرقص، العقلانية والتقدم، (فرنسا، منشورات المجلس القومي للثقافة العربية، 1992).
[ix]– رينيه ديكارت، حديث الطريقة، ترجمة عمر الشارني، (بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2008).
-[x]فريدريك نيتشه، هذا هو الانسان، ترجمة علي مصباح، (كولونيا- ألمانيا، الجمل، 2008)، ص 8.
[xi]– جان جاك روسو، في العقد الاجتماعي، ترجمة عبد العزيز لبيب، (بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2011)، ص 94.
[xii]– الياس مرقص، المذهب الجدلي والمذهب الوضعي، (دمشق، بلا دار نشر، 1991)، ص20.
-[xiii] جمال الشوفي، المعارضة السورية بين بذور الحرية وطعوم الاستبداد، المؤسسة السورية للدراسات وأبحاث الرأي، 9/2016.
[xiv]– ماكس فيبر، العلم والسياسة بوصفهما حرفة، ترجمة جورج كتورة، (بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2011)، ص 21.
-[xv] غرين برينتن، تشريح الثورة، ترجمة سمير الحلبي، (دبي، كلمة للنشر، 2009)، ص 101.
-[xvi] رولان بارت، درس السيميولوجيا، ترجمة بنعبد العالي، (الدار البيضاء، توباقال للنشر، 1993)، ص 14.