بلا رحمة

0

حسام عتال

كاتب سوري

مجلة أوراق- العدد 17-18

أوراق القصة

– أريد مقابلة مارك زوكربيرغ. 

سألتها، في صوتي لهجة صارمة، ظهري منتصب، عيوني مسددة للأمام؛ كما تعلمت في إحدى محاضرات التنمية الذاتية “كيف تتصرف بثقة”.

– هل لديك موعد معه؟

– لا.

– آسفة، لا يمكن مقابلته بلا موعد.

– الأمر هام جداً.

– لا يمكن. جدوله مليء.

غرفة السكرتيرة واسعة، مضيئة لدرجة مزعجة، صامتة كقلم الرصاص، سقفها عال، نوافذها عريضة تطل على وسط المدينة بعماراتها الشاهقة. حيطانها بيضاء خالية سوى من شعار FB أزرق كبير نافر من الجدار الخلفي. 

طاولة مكتب السكرتيرة صغيرة تتوسط الغرفة كقارب في بحر. سطحها زجاجي سميك عليه شاشة كمبيوتر عريضة، أمامها كيبورد له لوحة لمسية مربعة.

السكرتيرة منمنمة الجسد، البعض قد يقول “قطعتها صغيرة”. ترتدي فستاناً أصفر بدون أكمام، حافته فوق الركبة. على عنقها النحيل سلسلة فيها خاتم ذهبي. شعرها الأشقر يقارب كتفيها دون أن يلمسهما.

– ماذا لو أخبرتك أنه أمر حياة أو موت؟

لوت شفتيها وقالت: يمكن أن أرسل خلف أحد أفراد قسم الأمن (سكيورتي) إن شئت!

– وحده مارك يستطيع حل المشكلة.

– أي مشكلة؟ ردت وهي تشبك ذراعيها، عيناها كقطعتي جليد. يبدو أنها قد تعلمت من نفس محاضرة التنمية الذاتية.

– هل تدرين، أنتِ تذكرينني بروث.

– روث؟

– من مسلسل أوزارك.

– أوزارك؟

– نعم. مسلسل النتفلكس عن الرجل الذي ينقل عائلته من شيكاغو لولاية ميزوري لكي يغسل أموال مافيا المخدرات —

نظرت للسقف كما تفعل المراهقات عندما يظهرن ضجراً: هل تعتقد أني غبية؟ أعرف تماماً مسلسل أوزارك.

أعادت نظرتها تجاهي: لم شبهتني بروث؟

– الشعر… ربما… قصدتها كإطراء. أنا أحب روث!

استعادت عيناها بعض الدفء: آاااه.

– هل تتابعينه؟

– في القسم الثاني.

– الحلقة؟

– الرابعة.

– أليست روث رائعة؟

– أفضّل مارتي… الهادئ أبداً. 

– هل تدرين ماذا سيحل بعمر ناڤارو.

– إياك أن تقول، وإلا أطلقت عليك النار. 

– تحبين إطلاق النار؟

– أعترف، مذنبة. قالت وقد طأطأت رأسها.

– عندك رخصة حمل سلاح؟

نظرت خلفها، لاح طيف ابتسامة على شفتيها. سحبت شنطة يدها الڤينيتا الحمراء من درج المكتب، فتحتها ببطء بفرجة كافية لكي أرى ما بداخلها، ثم أغلقتها وأودعتها الدرج. ابتسامتها الآن أوسع. 

– سميث واسون، موديل ١٩، ماسورة فضية، ويد من خشب الجوزالمحفور… قطعة فنية حقاً!

– لاحظتَ كل ذلك من نظرة واحدة؟

– أعشق الأسلحة الفردية.

– وأنتَ ماذا تفضّلْ من الاسلحة؟

خَطَوْتُ حول المكتب واقتربت منها، رفعت رجل بنطالي حيث كان سلاحي في حزامه، أسفل الساق.

– غلوك ٢٦. آاه أنتم الرجال… ممليّن.

– قصدك عمليين. نحمل الأفضل، ولو لم يكن الأجمل. 

– الأفضل؟ أنت تراهن على ذلك؟

– سّمي رهانك.

– لاحقاً… أي حقل رماية تستخدم؟

– الواقع في تقاطع جفرسون مع ماديسون.

– عندي اشتراك فيه.

– متى ينتهي عملك؟

– الخامسة.

– نلتقي هناك السادسة.

– السابعة. علي التقاط كتاب من المكتبة قبل أن تغلق. اتفقنا؟… مممم… بشأن مارك، ربما استطعت أنتِ مساعدتي؟

– ظننت أن مارك وحده يستطيع حل “مشكلتك”. 

– حملة السلاح يحلون المشاكل أسرع… روث!

– ها ها ها، من المتكلم… مارتي؟

– بدون تطويل، الموضوع يتعلق بصديقة لي محجوزة في البرزخ.

– البرزخ؟

– نعم. بين النار والجنة.

– …. و —

– هناك من يمنعون عنها الرحمة، أخشى أن تنقلب في النار. 

– … و—

– أنا في سباق مع الوقت.

– لكن… لكن… ما علاقة الأمر بمارك؟

– مانعي الرحمة، يفعلون ذلك على الفيسبوك.

– … الفيسبوك يحتوي على —

– يجب أن تمحى كل بوستات منع الرحمة… يجب حذف كل ناشريها…

– هناك قواعد لمحو البوستات، لا نستطيع —

– أنت لا تدركين مدى خطورة هذه المنشورات… هناك آلاف —

– ما أدراك؟ هل عددتها؟

– يمكنكِ أن تتحققي بنفسك.

– ممنوع. هناك قسم خاص لمراقبة المنشورات المحظورة.

– ولكنها غير محظورة.

– لا أستطيع.

– يمكنك البحث عن عبارة معينة… ببراءة… للتسلية وتمضية الوقت.

نظرت إلي، جبينها المقطب لاح بين اللوم والعتب.

– روث! رجاء.

– مارتي! أوكي… ولكن لا تتوقع مني أي تعليق.

– لن أفعل. ابحثي عن “شيرين – لا يجوز – الترحم”.

ضربت مفاتيح الكيبورد بالبحث. تحولت الشاشة رمادية. بدأت نقاط سوداء ونقاط زرقاء بالظهور، حامت النقاط حول الشاشة ثم بدأت بالتجمع وكأنها أسراب طيور الستارلنغ تتموج في السماء، تعلو، تنخفض، تنقبض، ثم تمتد.  بعد ثوان، استقرت على شكلٍ كقطرة ماء، عاليها ضيق مبوّز رأسه أسود النقاط، وأسفلها محدب واسع كجعبةٍ انتفخت بالنقاط الزرقاء.

– كل البوستات المحتوية على كلمات البحث هنا. 

أشرتُ إلى المنطقة الضيقة المبوّزة: ما هذه؟

– هذه أولى المنشورات. 

ثم أضافت مشيرة إلى المنطقة الواسعة الممتدة: هنا المنشورات المكررة… المنقولة.

– منقولة؟

– نعم، هذا نموذج نَقْلي. 

– نقلي؟.

– منشور رئيس، مكرر ثم مكرر ثم مكرر —

– فهمت. هل يمكنك التركيز على المنشورات الأولى؟

رسمت مربعاً حول المنطقة الضيقة المبوزة، عادت الشاشة رمادية، ظهرت النقاط مرة أخرى مبرغلة، ثم تجمعت بشكل قرص في وسطه نقطة سوداء حولها دائرة من النقاط الأصغر، زرقاء غامقة. أشارت إلى النقطة الكبيرة المركزية السوداء: المنشور الأول.

– والدائرة؟

– أول تكريرات… شير.

– لماذا دائرة؟

– لأنها خرجت بتتابع… كل عشر ثوان.

– المنشور تكرر شير كل عشر ثوان تقريباً؟

– لا.

– أنتِ قلتِ ذلك.

– كل عشر ثوان. بالضبط!

– بالضبط؟

– نعم.

– غريب.

– أبداً.

– ماذا تعنين؟

– بوت.

– بوت؟

– برنامج آلي. 

– وأين تكرر، في أي مكان نُشِرْ؟

– أنت طمّاع فعلاً.

– لم تُسَمِّ رهانكِ بعد.

– سيكون غالياً.

– هذا إن غلبتِني. 

– واثق من نفسك!

– أنا مارتي، دوماً منتصر… رغم الصعاب.

– ها ها ها.

رسمت مربعاً آخر ثم نقرت أحد الأزرار. تراجعت النقاط ثم تحولت لشكل كرة أرضية، دارت مرتين بسرعة ثم أبطأت. بدأت تفاصيل الأرض تكبر وتتضح. انتابني شعورُ من في مركبة فضائية تخرق غلاف الجو، وتسرع في هبوطها للأرض. استقرت في مركز مدينة مينسك في بيلاروسيا. 

نظرتْ خلفها، وضعتْ سبابتها على شفتيها علامة الصمت. 

– ماذا عن الدائرة المحيطة؟

أشارت لنفس المكان الذي خرج منه أول منشور، سبابة يدها ما زالت على شفتيها. 

– وبعد؟

رسمت مربعاً يضم جزءاً أكبر من إحداثيات نقاط البداية. صغُرت الدائرة واصبحت بحجم الخاتم، منها خرجت خطوط مستقيمة وأخرى منحنية، وصَلَت الخطوط الدائرة مع نقاط أخرى، امتدت كشبكة عنكبوت لتشمل الشرق الأوسط وشمال افريقيا. خطوط أقل اتجهت لأوروبا وشمال أمريكا. 

– هذه مجموعات.

– أي مجموعات؟

– لا أستطيع التصريح بأسمائها.

– لا داعي للتصريح… يمكنني، صدفة وبدون قصد، أن أرى ماعلى الشاشة.

رفعت كتفيها كمن يتظاهر بعدم المبالاة. جمعت النقاط وأسقطتها في تطبيق بشكل سلة. انتفخت السلة، ثم انفتحت ليخرج منها فقاعات مختلفة الحجم، عليها  أسماء مجموعات.

– سأعُدْ للعشرة… واحد… اثنان….

قرأتُ أسماء أكبر الفقاعات، الأصغر صعبة القراءة لصغر خطها: “معاً لمحاربة الإرهاب الإسلاموي”، “التطرف الديني في مصر والمشرق”، “علمانيون ضد التعصب الإسلامي”…

–  تسعة… عشرة…

عادت الفقاعات إلى السلة وكأن بداخلها كائناً اسطورياً شفطها بنهم. تداعت خطوط الشبكة العنكبوتية وانصهرت النقاط لتعود بشكل القطرة الأول، تترجرج قليلاً كأنها من الندى على ورقة شجر، يحركها الهواء قبل جفافها.

– كم مرة نُقِل هذا المنشور.

أشارت إلى رقم على الشاشة (٣٤٤،٦٧٠)، الرقم الفردي يدور بسرعة كعداد سرعة سيارة فيراري عند انطلاقها في سباق. الرقم الزوجي يدور بسرعة أقل، ولكن بوتيرة مواظبة.

التقت أعيننا في سكون. حدقتاها رماديتان كأنهما رفضتا الالتزام بلون واضح. هزت رأسها بتساؤل ممزوج بصبغة اعتذار. همست: آسفة! 

قررت أن لا أضيِّع لحظة ضعفها، مهما كانت زهيدة؛ شيء آخر تعلمته من محاضرات التنمية الذاتية.

– بحث آخر؟

– استوفيتَ حظك.

– رجاءً.

– واحد فقط؟

– نعم.

رمشتْ بالموافقة.

– ابحثي عن “شيرين – الله – يرحمها”.

هذه المرة، الشاشة الرمادية ومضت بنقاط مضيئة من مختلف أطياف الألوان. سبحت كأنها في فراغ هلامي، كما تبدو النجوم والكواكب في صور المجرات البعيدة في الناشيونال جيوغرافيك. سحب متراكمة بعضها فوق بعض، تتموج بخفة، تستقر لحظات، ثم تتمايل من جديد.

– أين البداية؟

– لا بداية.

– كيف؟

– كلها بداية.

– ليس من علاقة بينها؟

– لا.

– كل منشور مستقل؟

– نعم.

– ألم يُكرر بعضها؟ ألم يَنْقُل أحدهم عن الآخر.

– ربما مرة أو اثنتين، على الأكثر.

– ألا يمكن تصنيفها بشكل ما؟

– لا. عشوائية بامتياز. 

بدون أن أطلب منها، وكأنها حدست ما بذهني، جرّت نتيجة البحث الأول فاحتل نصف الشاشة الأيمن، صورة القطرة الزرقاء بأطرافها الحادة، ترتعش وكأن بعض نقاطها تُسبِبُ خدشاً مهيِّجاً لجاراتها. في الطرف المقابل صورة الغيمة بأطياف ألوانها، ترقرقت كصفحة ماء يلفحها نسيم الصباح. 

تضخمت حيرتي! من أتى أولاً، القطرات أم الغيم؟ كيف تتكون القطرات؟ هل تتجسد من تكاثف الغيم؟ أم أن جموع القطرات هي التي تخلق الغيم؟ وماذا يحل بالغيم بعد أن تهطل قطراته؟ هل يذهب لمستقر آخر، خِفيَةً، يستجدي قطرات أخرى، يشحدها، يضمها بشوق؟ أم أنه ينعدم ليبقى طيف ذكرى في قلوب من مشوا فيه، أو رقصوا، أو تعانقوا وهو يسربلهم كالحنين القديم. 

 التقت أعيننا مرة أخرى وكأن حبلاً سرياً قد مُدّ بينهما. لم استطع قراءة ايحائها هذه المرة. هل هي راضية، حزينة، متهربة، مذنبة؟ هل هي متعاطفة؟

لاحَظَتْ شرودي، سألتني: هل تحب السوشي؟

لم أجب. صاحت: مارتي!!!

– عفواً، سرحت قليلاً… روث.

– ها ها ها. ها أنت قد عدت.

– نعم.

– سألتك إن كنت تحب السوشي؟

– التونة الصفراء، أتخلى عن إصبع قدمي الصغير لأجلها.

– ها ها ها. أتخلى عن إصبعي لأيل الأوناجي —

لمعت حدقتا عينيها، قالت: اسمع، أعرف مطعماً صغيراً يطل على بحيرة ميتشغان، يقدم سوشي خيالي. الشيف ياباني، يعمل وحيداً. ليس لديه طاولات في المكان، مطعمه أشبه بكوخ. فقط طاولة تحضيرالسوشي، أمامها رف خشبي ومقاعد عالية. يقدم الطعام بيده. العشاء هناك هو ثمن الرهان بيننا، إن أحببت.

– أحببت.  

– السابعة في نادي الرماية، والخاسر يدفع ثمن السوشي.

– الخاسرة.

– ها ها ها.

أثبتت “روث” جدارتها في إطلاق النار. يصعب التركيز على هدف الرماية عندما تقف بجوارك امرأة شعرها الأشقر لا يلمس كتفيها العاريين.  بشرتهما شفافة تظهر أوردتها الزرقاء التي تتفرع بشبكة من العروق، تصغر وتصغر حتى تنتهي بشعيرات دقيقة متعرجة، كنسيج حريري ناعم.

في المطعم راقبْنا سوياً الشيف الياباني بوجهه الخالي من أي تعبير، يُقطّع شرائح السمك النيء بسكينه الوا-بوتشو, يكسو به كتل الرز اللزج، ثم يصفّها بعناية في طبق مستطيل من السيراميك الأسود، يزينه بباقة من مخلل اللفت الوردي يتوسطها عجين الواسابي الأخضر.

راقبْناه و”روث” تخبرني عما لم أشهده على شاشة الكمپيوتر. عن مصادر الريع، عن الدعايات، وعن التسويق. كيف تُشجع خوارزميات الفيسبوك المشتركين على النقل والتكرار. كيف تتمحور الدراسات والبحوث على وسائل توجيه انتباه المشتركين لما هو مربح – الدعايات التي تتعزز بالنقل والتكرار. كيف تتراكم حلقات المال. كيف تتحوّل السحب إلى قطرات. 

يدي على خدي، مذهولاً، أتساءل، يا ترى أيّهم أكثر عجباً: أبحاث الفيسبوك السلوكية، فنُّ صنع السوشي، أم  سنا جيد “روث” حيث يلتقي عنقها النحيل مع ترقوتي كتفيها العاجيتين. بقيت في ترددي حتى وضع الشيف أمامنا طبق السوشي، قائلا: إرشايمازه.

تناولنا القطع، كلاً مع حصتها من هريس الصوي والوسابي. تناولناها بخشوع العابدين. تناولناها بالترتيب الذي اختاره الشيف، هو وحده يعرف التسلسل الأجود. أغمضت “روث” جفنيها كمن يصلي وهي تمضغ الطعام، وكأن رحمة كونية قد غمرتها. رحمة هطلت من غيمة زخّت ماءً مقدساً، غيمةُ يوم عاصف بكت دموعاً رحيمة فوق بحيرة ميشيغان العظيمة.

اسكانابا – ميتشغان – ١١-٥-٢٠٢٢

*****