زوربا هو كائن يعرف ولا يريد أن يفعّل معرفته. يعيش زوربا على هامش العالم الذي كان الناس يعيشون فيه. هذا لا يفترض أنه يجهل ماهية العالم وشؤونه وشجونه. لكنه لا يرى سببًا موجبًا ليبذل كل هذا الجهد ليعيش حياة أقل من حياته. مع ذلك، ليس زوربا مسؤولًا عن عائلة وأطفال، ولو حدث أنه أنجب، فإنه لا يعرض على طفله حياة تختلف عن حياته. الحياة التي تلزمه بالبقاء قريبًا من الظروف الطبيعية.
معنىً آخر، ليس زوربا كائن مديني. إن جاع سيجد شيئًا يسد به رمقه على شجرة، أو سيقتل عصفورًا ويأكله. وإن شعر بالبرد، سيجد كهفًا أو مغارة يتقي منه بها. لو أنه يعيش في نيويورك لما استطاع أن يحقق هذا كله من دون أن يواجَه بأحكام مسبقة، لكنها لا ترد.
كازانتزاكيس كان من جهته يحمل أحكامًا مسبقة على زوربا، وهو في هذا مثل قرائه كلهم. لم يكن يتوقع أي شيء مما أظهره له زوربا. هذا رجل حكيم، مع أنه لا يدعي أنه خريج جامعة. ويمكنه أن يعمل في أي مهنة، ذلك أنه لا يقيم وزنًا للصفات الاجتماعية وطبقاتها. لكنه من دون شك يعرف جيدًا أن يحدس بمشاعر الآخرين، وأن يمتعهم ويرضيهم، وأن يمتعونه ويرضونه في الوقت نفسه.
شخصيات ماريو بارغاس يوسا في “ليتوما في جبال الأنديز” تملك خصائص زوربا أيضًا. المرء في هذه الجبال لا يقيم وزنًا للتعريفات السائدة، التي تحكم علينا نحن المتمدنين المتثقفين أن نسلك مسالك لا يشوبها العيب والحياء. الرجال في رواية يوسا يخونون شريكاتهم، مع رجال ومع نساء. لكنهم في خاتمة المطاف، لا يصنفون أنفسهم بوصفهم خونة أو مثليي الجنس. يفعلون ما يرونه في هذه اللحظة مناسبًا وموافقًا لأمزجتهم.
النساء أيضًا يربين أبنائهن وبناتهن وأبناء وبنات شركائهم في المكان نفسه. وهن أيضا لا يقمن لأمر خيانة شركائهن وزنًا. أولادهن أبناء البيت الذي يعشن فيه مع شركائهم، وليسوا أبناء من جعلهن يحملن بهم. في الخلاصة، لا شيء مما نعرّفه كسلوك مستقيم يمكن انطباقه على هؤلاء. علينا أن نفتش عن الأخلاق التي تحكم مسالك هؤلاء الناس في كتب أخرى سوى تلك التي نقرأها ونعتقد أنها تنير لنا طرقاتنا.
نعجب بزوربا كما نعجب بشخصيات يوسا وماركيز وجورجي أمادو، لكننا نعجز أن نجاري هذه الشخصيات. جل ما نريده أن نشعر أننا قادرون لو تفلتنا من كل القيود التي تكبلنا أن نتصرف مثل تصرفاتهم ونسلك في ما يشبه مسالكهم. لكننا في الأثناء نصبر على حيواتنا الآمنة والباردة، ما دمنا قادرين على الصبر. ونشعر حيال مثل هذه الشخصيات بنسمات الأمل التي في وسعها أن تهب علينا فيما لو أغلقت في وجوهنا كل الأبواب والنوافذ. ثمة رحلة نستطيع الشروع بها ساعة ما نشاء. وما يمنعنا من تنكب مصاعبها ليس أكثر من كون الحياة التي نحياها باردة كثلاجة. وكمثل كل الذين يعيشون في الثلاجات، نحن لا نحسن سوى المراقبة والانتظار.
هل هذه هي وظيفة الرواية الحقيقية؟ أن تشعرنا بأن ثمة في العالم من لا يأبه لقوانيننا وأعرافنا، ويحسن أن يعيش حياته وموته بلا أحكام مسبقة، ومن دون تقييمات طبقية؟ قد تكون هذه الوظيفة إحدى أهم وظائف الرواية. مع ذلك ثمة ما ننساه دائمًا. زوربا يعيش منذ عقود وكاتب زوربا هو الذي مات.
ناس الروايات لا تمرض ولا تفلس ولا تموت جراء الأوبئة. لهذا تبقى أشبه ما تكون بتماثيل في ذاكرتنا. وعلينا أن نرنو إليها من حين إلى حين، كما يرنو المرء إلى انتحاره المحتمل كل صباح. ثم يعدل عنه، لأن ثمة في هذا العالم من يشتاق إليه كل صباح، ويرجو أن يتمكن محبوبه من عيش حياة تشبه حياة زوربا في خفتها اللامتناهية، لكنها تدوم أطول.
*ألترا صوت