بكر صدقي: السياسة الكردية على جانبي الحدود

0

يعقد حزب الشعوب الديمقراطي في تركيا اجتماعاً مصيرياً (الأربعاء 20/11) في العاصمة أنقرة، لاتخاذ قرارات تخص مستقبل مشاركته في الحياة السياسية في تركيا. ويعتبر الحزب نوعاً من واجهة سياسية لحزب العمال الكردستاني الذي تعتبره تركيا ودول غربية عديدة منظمة إرهابية. لكن وقائع السنوات الماضية تشير إلى تناقضات مكتومة بين الجناحين العسكري والسياسي، بسبب انفتاح الأخير على بيئات اجتماعية أوسع من قاعدة نفوذ «الكردستاني» بما في ذلك وجود رمزي لشخصيات ديمقراطية تركية في قيادة الحزب كالنائب سري ثريا أوندر، وسياسة الانفتاح التي أتاحت للحزب نفوذاً خارج القاعدة الاجتماعية الكردية. بالمقابل تسعى قيادة «الكردستاني» المتمركزة في جبال قنديل إلى مواصلة هيمنتها على الجناح السياسي، بل إنها لم تتوان عن نصب أفخاخ له لإعادته إلى بيت الطاعة كلما أحست بنزوعه نحو الاستقلالية. أبرز مثال على ذلك هو حين حقق «الشعوب الديمقراطي» فوزاً انتخابياً كبيراً في انتخابات حزيران/يونيو 2015، مكّنه من دخول البرلمان بأكثر من ثمانين نائباً، وأدى إلى فقدان حزب العدالة والتنمية الغالبية المطلقة في البرلمان. فما كان من حزب العمال الكردستاني إلا أن قام بتبني عملية إرهابية قتل فيها شرطيان، في بلدة سروج، وهما نائمان في فراشهما، الأمر الذي منح الحكومة التركية ذريعة مثالية لشن حرب واسعة على المدن والبلدات الكردية في جنوب شرق الأناضول، دمرت ست مدن وأدت إلى نزوح مئات آلاف المدنيين إلى مناطق أخرى. وسياسياً أدى ذلك إلى إعادة الانتخابات في الأول من شهر تشرين الثاني من العام نفسه حيث تراجع عدد نواب حزب الشعوب في البرلمان واستعاد الحزب الحاكم الغالبية المطلقة.
وفي الانتخابات البلدية التي جرت هذا العام، في 31 آذار/مارس، و23 حزيران/يونيو في إسطنبول، ظهر الخلاف واضحاً بين «الشعوب الديمقراطي» وعبد الله أوجالان هذه المرة، إذ قرر الحزب دعم مرشحي ائتلاف المعارضة حيثما كانت حظوظ مرشحيه الخاصين في الفوز غير مضمونة، في حين دعا أوجالان الناخبين الكرد، من سجنه، إلى الامتناع عن التصويت (في إسطنبول) وهو ما يعني دعماً غير مباشر لمرشح «العدالة والتنمية» بن علي يلدرم.
اجتماع الأربعاء سيناقش تقريراً أعده الحزب حول استمرار السلطة في عمليات عزل رؤساء البلديات من حزب الشعوب الذين فازوا في الانتخابات، واعتقال بعضهم بتهم تتراوح بين «دعم منظمة إرهابية» و«الترويج» لها، فيما يعتبر استخداماً سياسياً للمؤسسة القضائية لضرب إنجازات الحزب في الانتخابات البلدية، إضافة إلى سجن بعض نوابه في البرلمان كالرئيس السابق للحزب صلاح الدين دمرتاش المسجون منذ ثلاث سنوات.

هناك اقتراح ملموس ستتم مناقشته في اجتماع أنقرة هو «العودة إلى الشعب» وهو تعبير سياسي تركي يعني الخروج من المؤسسات السياسية، وفي حالة حزب الشعوب يعني استقالة نواب البرلمان ورؤساء البلديات وأعضاء المجالس البلدية جميعاً، كموقف احتجاجي ضد عمليات العزل والاعتقال التي شملت عدداً كبيراً من كوادر الحزب السياسية (69 عزل، 18 اعتقال). هو ليس تسجيل موقف فقط، بل استراتيجية سياسية للمرحلة المقبلة يأمل الداعون لها أن تؤدي إلى أزمة سياسية وطنية ترغم الحكومة على إجراء انتخابات بلدية جزئية وربما انتخابات عامة للمجلس النيابي بعد أن ينسحب أكثر من ستين نائباً للحزب. حين تنشر هذه المقالة سيكون الحزب قد خرج بقرار سلبي أو إيجابي بهذا الخصوص. بموازاة ذلك، يتلقى الجناح العسكري (العمال الكردستاني) ضربات موجعة سواء داخل الأراضي التركية أو في جبال قنديل التي يستمر الطيران التركي في الهجوم عليها منذ أشهر، بعيداً عن اهتمام وسائل الإعلام. أما على الجانب الآخر من الحدود، أي في شمال سوريا، فقد سيطرت القوات التركية والفصائل السورية التابعة لها على الشريط الحدودي الممتد بين تل أبيض ورأس العين، بعمق 32 كلم وصولاً إلى الطريق الدولي (إم 4)، وانسحبت «قوات سوريا الديمقراطية» التي تشكل وحدات حماية الشعب عمودها الفقري أمام الهجوم التركي، بعد اتفاق الأمريكيين والأتراك على ذلك. و«الوحدات» المذكورة هي الجناح العسكري لـ«حزب الاتحاد الديمقراطي» الذي ينتمي إيديولوجياً إلى منظومة الأحزاب الأوجالانية، ويعتبر الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني الذي تتدخل قيادته في رسم سياسات الفرع السوري واتخاذ قراراته. ويطلق قادة «الكردستاني» تصريحات إعلامية بشأن ما يحدث في شمال سوريا كما لو كانوا فاعلين مباشرين على الأرض السورية. وفي رسائل عبد الله أوجالان من سجنه كرر أكثر من مرة رغبته في لعب دور سياسي بشأن سوريا، مطالباً الفرع السوري، صراحةً، بأخذ الهواجس الأمنية للدولة التركية بنظر الاعتبار. كان ذلك قبل حدوث الاجتياح التركي الأخير، في شهري أيار وحزيران بمناسبة الانتخابات البلدية التي أدلى بدلوه فيها لمصلحة الحكومة التركية.
بعد سنوات من دعم عسكري وسياسي حظيت به قوات «قسد» من الأمريكيين، جاء الضوء الأخضر من الرئيس ترامب للاجتياح التركي، فوجد الفرع السوري للحزب نفسه على مفترق طرق، دفعه فوراً باتجاه النظام الكيماوي وحليفه الروسي، فكانت مفاوضات قاعدة حميميم التي أدت إلى اتفاق أولي حول تسليم الشريط الحدودي، خارج المنطقة التركية، لقوات النظام، مع بقاء مصير المناطق الداخلية رهن المجهول. ثم جاء القرار الأمريكي المعاكس بالإبقاء على 500 ـ 600 جندي، حسب وزير الدفاع إسبر، لـ«حماية آبار النفط»! مع استمرار التعاون مع «قسد» في تلك المناطق.
الآن الوضع الميداني في منطقة الجزيرة ودير الزور يشهد تداخلات خطرة بين قوات متعددة: النظام وروسيا، تركيا والفصائل التابعة، قوات أمريكية محدودة، وقسد، إضافة إلى بقايا داعش التي تظهر في بعض العمليات النوعية.
يمكن الحديث عن أزمة موضوعية تمر بها «الحركة الأوجالانية» عموماً، تتمثل في خسارة قسد لمنطقة الإدارة الذاتية، واستبعاد جناحها السياسي (مجلس سوريا الديمقراطية) من العملية السياسية التي تقودها روسيا، مع غموض المصير المستقبلي «لقسد» و«مسد» وضمناً «حزب الاتحاد الديمقراطي»، مع تدهور شعبيته بين كرد سوريا بسبب سياسات الحزب التي أدت، في النتيجة، إلى وصول الحروب إلى مناطقهم ونزوح عشرات الآلاف منهم. وخسائر عسكرية للـ»كردستاني» في تركيا وجبال قنديل، وخسائر سياسية لجناحه السياسي في تركيا. لم نسمع أي مراجعة لسياسات الحزب أمام هذه الأزمة العامة. بل استمرار في المكابرة.

المصدر: القدس العربي

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here