لا المناسبة كانت مناسبة، ولا الكلام كان قابلاً للهضم. هذا ما يمكن أن يخطر في البال حين يواجه المرء كلام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن الروائي أورهان باموك.
فقد كان أردوغان يتحدث في جامعة «بلكنت» الخاصة في إسطنبول بمناسبة اليوم العالمي لحقوق الإنسان. رداً على سؤال من أحد الطلاب الحاضرين بخصوص رأيه في منح جائزة نوبل للآداب، لهذا العام، للروائي النمساوي بيتر هاندكة، انتقد مؤسسة نوبل بحدة، ولم يتمالك نفسه فواصل الكلام قائلاً إن الأمر لا يقتصر على جائزة العام الحالي، فإذا عدنا إلى الوراء سنرى أنهم منحوا الجائزة لمن صور الإرهابيين في روايته… لقد منحوا الجائزة لإرهابي من تركيا!
في الساعات اللاحقة حاول أحد الناطقين باسم الرئاسة أن يخفف من وقع هذا الكلام في الرأي العام، فقال إن الرئيس لم يقصد بكلامه أورهان باموك. لكن واقع الحال هو أن باموك هو الروائي الوحيد من تركيا الذي حصل على جائزة نوبل. أما التركي الآخر الحاصل على نوبل في الكيمياء، عزيز سنجر، فهو لا يكتب الروايات، وقد حصل على الجائزة بوصفه عالم كيمياء أمريكياً من أصل تركي، والأهم من هذا وذاك أن أردوغان امتدح سنجر بوضوح في الكلمة ذاتها، فلا يمكن أن يكون المقصود بصفة «الإرهابي» إلا باموك بالذات.
من المفارقات العجيبة أن أردوغان نفسه كان قد هنأ باموك بحصوله على الجائزة، في العام 2006، حين كان وقتها رئيساً للوزراء، في حين امتنع رئيس الجمهورية أحمد نجدت سزر عن تهنئته ونال نصيبه من الانتقادات بسبب ذلك الامتناع. مع العلم أن الرواية التي يشير إليها بخصوص تصوير شخصية إرهابي هي رواية «ثلج» التي كانت منشورة حين حصل كاتبها على الجائزة وحين هنأه رئيس الوزراء عليها. إلا إذا كان الرجل قد قرأ الرواية المذكورة في وقت متأخر، فندم على تهنئته المتسرعة. وهذا على فرض أن تصوير شخصية إرهابي في عمل أدبي يسوغ إطلاق صفة الإرهابي على كاتبه من وجهة نظر قارئ ما. وكل هذا على فرض أن الرئيس التركي يجد وقتاً لقراءة الروايات أصلاً في زحمة انشغالاته السياسية.
الواقع أن رأي أردوغان في باموك لا يعود إلى أي «اقتراف» روائي مهما بلغ به الشطط، بقدر ما يعود، كما يمكننا الافتراض، إلى بعض تصريحاته السياسية التي يطلقها عبر الصحافة العالمية من حين إلى آخر. صحيح أن باموك ليس سياسياً، لكنه يواجه كثيراً أسئلة تتعلق ببلده في المقابلات الإعلامية كحال أي أديب أو فنان آخر. وغالباً ما تثير أجوبته ردود فعل سلبية في الرأي العام التركي من قبل الصحف المقربة من الحكومة أو في الأوساط القومية. فهو يعبر عن آراء ليبرالية بخصوص مسائل حقوق الإنسان والمسألة الكردية والأرمنية وغيرها، بما ينسجم مع مثقف لا يعمل كبوق لتبرير إجراءات الحكومة أو سياساتها في الميادين المذكورة.
ولا تقتصر ردود الفعل السلبية على باموك على الإعلام الموالي، كما يسمى هنا، أو على تصريحاته التي تمس مجال السياسة، بل هناك موقف سلبي حتى من إبداعه الأدبي، في أوساط يسارية وقومية، تعتبر أنه يكتب للقارئ الغربي لا التركي، فيخاطب الحساسيات الغربية ويضع لعمله معايير الذائقة الأدبية الغربية. يبقى هذا النوع من الانتقادات مفهوماً أو مقبولاً بمعنى أنها لا تتجاوز النقد إلى الاتهام الجنائي. يشكل يالجن كوجوك حالة متطرفة من «نقد» أورهان باموك، فهو يعتبره بلا موهبة أدبية، و«بيضة أفعى» زرعتها الإمبريالية في الثقافة التركية، ففقست عن روائي يعمل على تدمير القيم التركية لمصلحة الامبريالية الأمريكية! كوجوك هذا مفكر ماركسي في نحو الثمانين من عمره، يعرفه موقع ويكيبيديا كما يلي: «كاتب وباحث تركي، مفكر، اقتصادي، عالم في علم الأسماء، ناقد إعلامي وأدبي، عالم في «الكرديات» و«السوفييتيات»، منظّر سياسي، وقائد شبابي»! في كتابه الذي حمل عنوان «الشبكة» قام بتصنيف عدد من الكتاب الأتراك المشهورين، ومنهم باموك، على أنهم عملاء ثقافيون يعملون على تدمير الثقافة الوطنية التركية وقيمها لمصلحة العولمة الامبريالية.
يذكر أن باموك تعرض للضرب أمام مبنى إحدى المحاكم في إسطنبول، قبل سنوات، من قبل مجموعة من الأشخاص، وقرر مغادرة تركيا بعد هذه الحادثة بصورة نهائية، على رغم أن المحكمة قد برأته من التهم الموجهة إليه، في ذلك الوقت، بسبب تصريحات له تحدث فيها عن الإبادة الأرمنية.
لكلام أردوغان عن بيتر هاندكة ما يبرره في سيرة الرجل الذي امتدح مجازر الصرب في البوسنة ـ الهرسك أثناء الحرب الأهلية هناك، وذرف الدموع على مجرم الحرب سلوبودان ميلوسيفيتش. ومع ذلك لم يقل أحد، ولا أردوغان نفسه، عنه إنه إرهابي. بل انصب النقد على مؤسسة نوبل التي منحته الجائزة بدعوى أنه لا يستحقها. وكان يمكن للرئيس التركي أن يعبر عن رأيه في باموك بالقول إنه لا يستحق الجائزة من غير أن يصفه بالإرهابي، وخاصةً أن الدليل الذي قدمه لإعلان «إرهابيته» هو مما لا يمكن اعتماده لا في المحاكم ولا في نقد الأدب.
الواقع أن مأخذ أردوغان على أورهان باموك يتعلق بصورة مباشرة بموضوع حرية التعبير. ذلك أن اقترافات باموك تدخل في هذا الباب تحديداً، أي في باب التعبير عن الرأي الذي قد لا يعجب كثيرين. والحال أنه لو كان الناس سيعبرون دائماً عن آراء توافقية إجماعية لما كانت هناك حاجة لحرية التعبير، فهذه الحرية أقرت في المواثيق الدولية من أجل حماية أصحاب الآراء التي لا تلقى إجماعاً، بل قد لا يتشارك فيها أحد غير المعبر عنها. حين نرى تصريحات من نوع كلام أردوغان بحق أورهان باموك، لا بد أن نقول إن حرية التعبير عن الرأي تتضمن أيضاً عدم التعبير عن الرأي. ليته استخدم هذا الحق.
المصدر: القدس العربي