*أحمد اسماعيل اسماعيل، كاتب ومخرج مسرحي
مجلة أوراق- العدد 14
المسرح
بداية لا بدّ من الاعتراف بأن الضحك يفقد الروح التي تميزه، وهي قدرته على الإضحاك، حين يتحول إلى مادة تخضع للشرح والتشريح، لأن هذه الروح بالذات هي التي تجعل من الفكاهة أو الطرفة أو ما شابههما، شيئاً مضحكاً.
وهذه الروح غير ثابتة، وعدم ثباتها يرجع إلى عدم ثبات إيقاع العصر الذي تنتمي إليه، وإلى مستوى وعي وذوق المتلقي، وطبيعة بيئته على المستويات كافة.
هذه التنويه يستدعي منا تنويهاً آخر، وهو عدم اجماع المفكرين والباحثين في هذا المجال على أسباب ومسببات
واحدة للضحك، ليظل الضحك، كشيء مضحك، بهذا القدر أو ذاك، يتوافق وينسجم مع نظرتنا إليه، بالبعدين الفردي والجماعي لهذه النظرة، لأنه لا يوجد شيء مضحك في ذاته ولذاته خارجاً عن ذواتنا وطبيعتنا البشرية، بهذا المعنى تتحدد لنا طبيعة الضحك الإنسانية التي تخص الانسان وحده دون سائر المخلوقات، ولقد أكد دارون على وجود الضحك لدى بعض القردة العليا الشبيهة بالإنسان، وبأن هذه الظاهرة مقترنة بالكثير من الملابسات، مثل تناول الطعام والدغدغة أو المداعبة الجنسية، التي تُعد رد فعل فيزيولوجي على بعض المنبهات العضوية، وأرجع ديكارت، الضحك إلى أساس عضوي، وقد عدَّه انفعالاً جسمياً لا يحرك إلا جانباً فقط من النفس، ولكنه عاد فأقر بأن الإنسان إذا كان أسيراً للضحك في المجال الفيزيولوجي، فقد يستطيع أن يسيطر عليه ويتحكم فيه حين ينتقل إلى المجال السيكولوجي”1″ المجال الذي اعتبر فيه فرويد النكات التي يطلقها الناس في أساسها (نوعاً من التطهير أو التنفس للمكبوت عن العواطف، وليست النكات على هذا النحو مجرد تسلية او إثارة )”2″ وفي المجال السيكولوجي أيضاً يرجع هوبز الأصل في الضحك إلى شعورنا بالتفوق والاستعلاء والامتياز.
وإذا كان الضحك الصاف يتوافق مع النفس الصافية، الخالية من الانفعالات من ألم وخوف وحقد، فإن ذلك لا يعني نفي دور هذه الانفعالات في تلوين الضحك الذي يتولد عنها بما يناسبها، “فانفعال الغضب والخصام مثلاً يولد فكاهات العدوانية والنوادر التهكمية والدعابات الساخرة، والشعور بالنقص يُولد بعض الفكاهات الخفيفة التي تتسم بطابع الحياء والخجل، والميول الجنسية تعمل على إظهار النكات الماجنة المقترنة بالتعبيرات الفاضحة والتلميحات الرمزية”3”
ولأن البيئة الاجتماعية هي مصدر هذه العواطف، وبالتالي مصدر للضحك الناتج عنها، فإن فهم الضحك يستلزم منا أن نرده إلى بيئته الطبيعية: المجتمع.
لا شك في أن للضحك خاصيته الإنسانية، إذ لا يضحكنا في الطبيعة والحياة إلا ما هو إنساني، حتى لو صدر عن حيوان، وما ضحكنا على تصرفات الحيوانات في السيرك إلا ضحك من الصورة أو الهيئة الإنسانية التي تبدو هذه الكائنات عليها، ويزداد الضحك في هذه الحالة حين تتوافق الهيئة المثيرة للضحك مع زمان ومكان الضاحك، وثقافة مجتمعه من معارف وتقاليد وعادات، والتي ساهمت في صياغة مزاجه وطبيعته، لذا نجد أن ما يثير استهجانا أو نفوراً لدى مجتمع ما؛ قد لا يلقى الاهتمام ذاته في مجتمع آخر، وما يبعث على الضحك في مجتمع ما، قد لا يثير حتى الابتسام لدى مجتمع آخر غيره، فإذا كان الضحك عامة يأتي بعد معرفة السبب، فإن الاحساس به، والتجاوب معه، ينشأ من ثقافة المجتمع الذي ينتمي إليه الملتقي، بوساطة التوريات اللفظية والمفردات التي لها دلالاتها ومراميها في وعي متلقيها. وينطبق هذا، أكثر ما ينطبق، على اللهجة العصية على الترجمة والتفصيح في المجتمع الواحد، وليس فقط على اختلاف اللغات، كالتجاوب مع نكات محلية أكثر من نكات وطرائف من بيئة أخرى، في البلد الواحد، ومن الملة نفسها، إذ لكل مجتمع
(طريقته في الدعابة وأسلوبه في التفكه وأنماطه الخاصة في إطلاق النكة والضحك لها، وهذا ما حدا ببعض الباحثين إلى دراسة أخلاق الشعوب من خلال نكاتهم، فإن من المؤكد أن الفكاهة هي خير مرآة تنعكس عليها أحوال كل مجتمع وما مر به من أحداث، وما كسب من مقومات، وما اندمج في خلقه من سمات)4″
غير أن ذلك كله لا ينفي عن الطرفة ما هو إنساني عام، أو حصرها في ما هو قومي أو محلي صرف، لأن ما هو إنساني عام يجعلنا نضحك لطرائف الآخرين من أجناس وأوطان أخرى بعيدة عنا، وإذا كان ذلك نادراً في زمن مضى، فإنه لم يعد كذلك في زمننا هذا، فالفن ووسائل التواصل الحديثة من تلفزيون وفيديو وسينما إلخ، قد ضاعفت من القواسم المشتركة بين البشر، حتى كاد العالم يصبح قرية واحدة بالفعل.
من الملاحظ أن للجماعة دورها في تفعيل الضحك، إذ يساهم وجودها في جعل الضحك أكثر يسراً، وفاعلية، ولعل حضور مسرحية كوميدية وسط الجمهور، كفيل بأن يثير ضحكنا أكثر مما لو كنا نتابع المسرحية ذاتها بمفردنا.
الأمر الذي مارسه بعض الظرفاء الكرد أمثال: حليمو ولطو ويونس وشفيق. الذين عرفوا بنكاتهم الشعبية واشتهروا بطرائقهم الظريفة في الإلقاء وسط جمهور من المستمعين، لأن الضحك كاللعب، حالة تحتاج إلى الجماعة المتفاعلة كي يبدأ ويستمر.
وبناء على الخاصية الاجتماعية للضحك، نجد أن الضحك ينتج عن الخروج عن أعراف المجتمع وتقاليديه. بل ومحاربة الخارجين عنه، وهو ضحك لا يقتصر على الفرد المتمرد عليه، بل يتعداه إلى الضحك من الجماعة الخارجة عن هذه الأعراف، وحتى المجتمع المخالف له، وفي المقابل يلجأ الفرد الخارج عن أعراف وتقاليد مجتمعه إلى الضحك من هذا المجتمع، وهو ضحك غير عفوي، بل ناقد، ولا ينسب ضحك أحدهم في مجلس عزاء مثلاً، أو جلسة يسود فيها جو من الصرامة والجدية البالغة، إلى هذا النوع من الضحك، بل، وحسب العلامة ألارديس نيكول، ينسب إلى روح التحرر الذي يشتمل عليه الضحك ذاته.
ولكن أين يكمن سر الضحك؟
لقد كان سر الضحك وما يزال، مصدر خلاف بين الباحثين الذين تناولوه بالبحث والدرس، فأرسطو مثلاً يؤكد أن مبعث الضحك هو الحط من مقام المضحكوك منه، فنحن لا نضحك إلا على من هم أقل منا شأناً: وعياً أو مقاماً أو حتى خُلقاً. ويؤكد كانط، على أن سر الضحك يكمن في عدم التناسب الذي يقوم بين طبقتين أو بين فكرتين أو بين كلمتين، أو بين مجموعة من الأفكار. فيما يؤكد مارسيل بانويل في كتابه على هامش الضحك بأن ليس في الطبيعة مصادر ينجم عنها الضحك، لأن مصدر الضحك كامن في الشخص المضحك ذاته، إذ لا شيء مضحك في ذاته، إنما هي الظروف التي تحيط بالحدث والشخصية التي يمران بها، وبقسم بانويل الضحك إلى نوعين بعد أن اعتبره” صيحة النصر وتعبير التفوق للضاحك على المضحك منه”. وهما:
1-ضحك إيجابي: وهو الضحك السليم القوي وقاعدته. إنني أضحك لأنني أشعر بتفوقي.
2-ضحك سلبي: وهو قاس وشرير، ويكاد أن يكون كئيباً وقاعدته: إنني أضحك منك لأنك دوني وأقل مني، إنني أضحك من عجزك ومن ضعفك” 6
قد يأخذنا البحث عن مصادر الضحك إلى باحثين آخرين ومصادر شتى، غير أن اقتصارنا على ما سبق ذكره كان بهدف الدخول إلى عوالم الضحك لدى الكرد. وذلك بما يشبه جولة سريعة وليس دراسة عميقة. فالموضوع بقدر ما هو شائق، فإنه شائك أيضاً.
الضحك والفكاهة لدى الكرد:
إذا كان للضحك ما يميزه عن غيره من مجالات، من بنية وإيقاع، فإنه يستمد حيويته واستمراريته بالتفاعل مع المجتمع في الزمان والمكان المعينين. وعياً وهماً وطموحات ومستوى معيشة وأنماط تفكير.
ولعل تناولنا للضحك في بعض مجالات التراث الشعبي يشكل مقدمة لتناول الضحك كدراسة في الزمن المعاصر. الطرائف السياسية بالدرجة الأساس، لفاعلية العامل السياسي في حياة الكرد، وكذلك الطرائف الاجتماعية.
الضحك في الحكايات:
الحكايات في التراث الكردي غنية إلى حدّ الإدهاش، ولا يفوقها غنى وحضوراً في الذاكرة والخيال أو المخيال الشعبي إلا الغناء الذي استوعب أكثر الحكايات ليقدمها في قالب مشوق، والعلاقة بين الغناء والحكاية كانت دائماً علاقة تفاعل إيجابي حتى أمد قريب.
لقد حوت الحكايات الكردية الكثير من أحوال وأخبار الكرد في ماضيهم القريب والبعيد، منها الواقع الحقيقي، ومنها الخيالي الوهمي، وفي كثير منها، الحقيقي والوهمي، الواقعي والخيالي، وكل ذلك ممزوجاً بفنية عالية صاغها الخيال الشعبي الذي لم يقتصر على رواية وصياغة أحداث الحياة المؤسية، كالحرب والغزوات والقتل والحب المعذب. بل حافل أيضاً بحكايات مشبعة بروح المرح والفكاهة التي تعبر عن روح الكردي المرحة والخفيفة.
حكايات متنوعة غير جامدة على شكل واحد في الصياغة من ناحية الموقف أو الشخصية محط السخرية أو الحوار. وفي أمثال بعض نماذجها المتعددة ما يقابلها في الملاهي الهزلية في أوربا إبان صعود البرجوازية. ومن نموذج هذه الحكايات لدى الكرد، حكاية الرجل المغفل الذي تاه عن بيته وزوجه ونفسه أيضاً، وذلك نتيجة تدبير خبيث من الزوجة والعشيق الذي تشبَّه بالزوج في كل تصرفاته وأحاديثه وما يميزه كشخصية مستقلة، إلى أن التبس الأمر على الزوج، فخلط بين شخصيته وشخصية العشيق، وفي كل موقف وحدث يقترب العشيق من الزوجة أكثر، يبتعد عنها الزوج أكثر فأكثر، ويبتعد عن بيته ونفسه أيضاً، وهو يطرح على نفسه سؤال بشكل متكرر:
- إذا كان هذا” يقصد العاشق” هو أنا، فأنا من أنا؟!
وفي حكاية أخرى مختلفة، في الموضوع والمضمون، والتي تكشف معدن المرأة الأصيل، هي حكاية الرجل الذي غادر قريته ذات صباح متوجهاً إلى المدينة ليبيع بقرته، وفي الطريق إلى السوق تجري معه أحداث ساخرة تثير ضحكنا على سلوكه الساذج وشخصيته البسيطة، إذ أنه، وفي البداية، يصادف رجلاً يقود خروفاً، فيقترح الأخير عليه مبادلة الخروف بالبقرة، وذلك بعد أن زين له الخروف وكثرة فوائده مقارنة بالبقرة، وبعد حديث قصير، تتم عملية المبادلة، ليتابع القروي طريقه ويصادف بعدها عابراً آخر ومعه ديكاً، والذي يمارس بدوره هو الآخر عملية الاحتيال على القروي، بعد أن يضفي على الديك صفات كثيرة ونادرة لا تتوفر في الخروف، لتتم عملية المبادلة بسرعة، وليتكرر الموقف ذاته مع رجل آخر يعتمر كوفية، الذي يقنع صاحبنا بأهمية الكوفية وجمالها، بما يثيره الديك الضجيج في الفجر، فيقلق راحته والجيران، وكل ذلك في حوار مرن وشائق في حكاية درامية، لا اسفاف في الضحك الذي يثيره، ولا حظ من مقام.
وفي نهاية الطريق الطويل، وفي ذروة الحكاية، يصادف القروي بئراً، وكان قد أستبد به العطش، وحين يحاول سحب الماء منه لإرواء عطشه، تسقط الكوفية عن رأسه إلى أعماق البئر، فيحزن لذلك ويبدأ بالبكاء، وفي الأثناء يصادفه تاجر وهو يبكي، وحين يسأله عن السبب، ويقول له القروي أن يبكي بقرته التي سقطت في البئر، يندهش التاجر حين يجد البئر صغيراً وليس فيه أثر لبقرة. وحين يعلم من القروي تفاصيل ما جرى له، تحدثه نفسه أن يستغل هذا القروي البسيط، فيقترح عليه أن يدفع له ثمن البقرة، ولكن بشرط واحد، أن يروي تفاصيل ما حدث معه لزوجته، فإذا غضبت المرأة منه أخذها التاجر، وإن لم تغضب، عوضه عن البقرة بالمال.
وهنا يحدث ما يشبه الانقلاب في مسار الحكاية، وهدف الضحك فيها، من ضحك على غفلة القروي إلى تعاطف معه وضحك على جشع ولا أخلاقية التاجر، والذي يصبح ضحية لضحكنا الذي كان ينطلق عن إحساس بالتفوق على القروي إلى تعاطف معه، ويعلو ضحكنا أكثر في بيت القروي حين تقابل المرأة خيبات زوجها بالتسويغ والتبرير عن رضا وطيبة. وتكون الخاتمة مفاجئة لنا وللتاجر في المقطع الذي يخص الكوفية حين تصمت المرأة ويلتقط الجميع أنفاسه في ترقب بين فرح التاجر وخوفنا، لتطلق المرأة بعدها زغرودة مهنئة زوجها بالسلامة وأن الساقط في البئر هي الكوفية وليس هو. لينطلق ضحك المتلقي مجلجلاً في فرح وانفراج.
ولعل هذه الحكاية واحدة من الحكايات التي لا تحتاج إلى كثير عناء من أجل مسرحتها، وقد فعلت ذلك في نص مسرحي موجه للأطفال وأسيمته الرهان الخاسر.
ظاهرة أخرى لافتة في التراث الشعبي الكردي هو الضحك على شخصية الملا. رجل الدين في القرى، من خلال نقد الدور الذي كانت هذه الشخصية تمارسه، دون أن يغفل الكرد، في التراث والتاريخ، عن الدور القومي المشرف لبعض رجالات الدين الذين كانوا يحملون هذه الصفة، وفي السخرية من رجل دين مثل الملا، ما يدل على روح التحرر لدى هذا الشعب، ويذكرنا بدور الآلهة في المسرح الإغريقي، لتصبح هذه الشخصية، وشخصية الثعلب الواردة بكثرة في حكايا التراث أشبه بالتوءم،
الضحك في الألعاب:
ثمة ألعاب في التراث الكردي هدفها الضحك وليس التسلية وحسب، غير أن ما تحتويه هذه الألعاب من عناصر الفرجة: الشخصيات والحدث والحبكة وحوار درامي وفعل.. إلخ يجعل منها ظاهرة، أو شكل جنيني مسرحي لم يجد من يخرجه إلى النور.
ففي ليالي السمر، وحين يحل غريب ما ضيفاً على قرية، يقترح رجال في مضافة الأغا أو المختار، لعبة التجارة. ويتم توزيع الأدوار على الحضور: (التاجر. القصاب. الدلال. صاحب الغنم، والغنم. وهم مجموعة من الشباب يتم فيها أسناد دور خروف إلى الضيف، والغاية مقصودة) تبدأ اللعبة بإعلان الدلال عن عملية البيع. ليسارع التاجر بشراء الخراف، وبعد حوار مرتجل لا يخلو من سخرية مبطنة، يتصاعد مع الحدث الجاري، يقوم القصاب بمعاينة الخراف، لاختيار واحد منها لذبحه، ويقع الاختيار على الضيف، وهو اختيار مقصود، ومن أساسيات اللعبة. يعرف به الجميع ويجهله الضيف، تتم رفع ساق الضيف بقصد ذبح الخروف وسلخه، ولكن القصاب يسكب فيها الماء البارد من خلال فتحة البنطال. لينفجر الجميع على ما يصيب الغريب من جفلة.
وفي لعبة أخرى تسمى لعبة سرقة التاجر، يكون الضيف هنا أيضاً الضحية، تبدأ اللعبة بإعلان أحد الرجال عن قدوم تاجر إلى القرية مع ذكر بيت العائلة التي استضافته، وعلى الفور يقترح أحدهم سرقته، ويوافق الجميع ويستأذنون الأغا المتواطئ معهم بتنفيذ العملية. فيكلف الأغا مجموعة من الشباب بتنفيذ عملية السرقة، ويتم إقناع الضيف بالانضمام للمجموعة، التي تخرج قاصدة الهدف، حيث لا تاجر ولا مال ولا ذهب، بل أكياس محشوة بالحجارة والعصي، وعندما يعود الجميع بها، ويخفونها في مكان ما من المضافة، سرعان ما يتبعهم صاحب البيت وهو يرغد ويزبد متوعداً السارق، ليؤكد الحضور أن السارق لا بد وأن يكون غريباً، إذ لم يحدث أن قام أحد منهم قبل ذلك بعمل مشين كهذا.
وهنا تبدأ اللعبة الدرامية بالتأزم، فيصاب الضيف بحالة من التوتر، وينكمش على نفسه بخوف، وقد يتم تضييق الخناق عليه هو الغريب الوحيد في القرية، ويستمر المشهد بمبادرة أحدهم الكشف عن مكان المسروقات التي وضعت في غرفة الضيف، والتي يتعرف عليها صاحب البيت المضيف للتاجر، ويتم افراغها أمام الجميع لتفقد المسروقات والنواقص، وحين تنكشف المحتويات أمامهم، والغريب نهب لحالات توتر شديد من حيرة وخجل ودهشة، تنتهي اللعبة ويتم الكشف عن حقيقتها بالضحك.
ولهذه الألعاب، وما يماثلها، لعبة صيد القنافذ مثلاً، غاية ترفيهية لا تحط من مقام المضحوك عليه، لأنها لا تسيء لكرامته بأي شكل من الأشكال، بالقصد والوسيلة.
الضحك في الغناء:
وللغناء أيضاً نصيب وافر في تناول ومعالجة هذا الجانب من حياة الناس، فالغناء يعد بحق، دون باقي الفنون الأخرى، ديوان الكرد، والسجل الهام الذي أودعوا فيه أخبارهم وأحوالهم الحياتية، لأنه الفن الأثير لديهم منذ آماد بعيدة، ولقد حفظت بعض الأغاني “شه ر” وأغنت تواريخ وأحداث ووقائع لم يضمها كتاب تاريخي، وكذلك الأمر بالنسبة لحكايات العشاق “لاوك” التي أخذت تبهت مع مرور الزمن في ذاكرة الناس.
برزت في فترة السبعينيات من القرن العشرين ظاهرة مثيرة للانتباه في الغناء الكردي، تمثلت في الأغاني الساخرة لبعض المغنين الشعبيين أمثال: خضركي أومري ومحمد امين كيكي ومحمدي كني وعزالدين رمو..إلخ. والتي تميزت بالتصوير الكاريكاتيري للحدث والمبالغة في تقديم الشخصية المضحوك منها، وخاصة في ما قدمه محمد كني من اسكتشات اجتماعية ناقدة، مثل الاسكتش الذي يتناول فيه شخصية الحماة والزوجة مبرزاً الصفات الجسدية الشوهاء التي تعكس ما في داخل كل احدة منهما على حدة وفق طبيعة الشخصية من خيرة أو شريرة، مدعماً بالأداء التمثيلي ذي الصبغة الكوميدية المبالغة، بالصوت والحركة الجسدية، الأمر الذي كان المغني خضركي أومري يلجأ إليه في سخرياته من الأفراد والقرى والعشائر.
لم تدم هذه الظاهرة طويلاً، إذ سرعان ما طغت عليها أغان ذات طابع قومي ملتزم، وأغاني الرقصات الخفيفة التي تخللتها بعض العبارات والأوصاف الحسية المباشرة للمرأة، ولعل ذلك يعود إلى ما بدأ من تغيير في بنية مجتمع انفتح على هموم وقضايا كبيرة بفعل الاضطهاد المباشر عليه واضطراره إلى مغادرة طفولته، والانفتاح على الآخر،
واقتحام الآخر لخصوصيته وتخريبها، ليتم اختفاء هذا الأسلوب الساخر ومبدعيه أمثال: حليمي حسو ولطو ويونس وغيرهم.
ثمة أغان حكائية كثيرة في هذا المجال، وقد تكون حكاية “شيخ بهروز” واحدة منها، والتي تروي قصة رجل تمت سرقة حماره مع البردعة، وبعد بحث طويل، يعثر على حماره دون البردعة التي كان قد خبأ فيها ما لديه من مال، وفي روايته لما حدث معه، وبمفردات لا تخلو من بذاءة وحنق، يفضح هذا الرجل سوءات المجتمع، ومن اللافت أن المغني الراوي يتقمص دور هذه الشخصية ويؤدي أدوار باقي شخصيات الحكاية، وذلك بما يشبه عمل الفنان في عرض مونودرامي، ولكن، وبأسلوب مختلف عن المونودراما التي تظهر أزمة الفرد ومأساته إزاء قسوة الآخرين، فإن الفنان هنا يمارس النقد والسخرية لإثارة الضحك، لا الحزن.
الضحك والفكاهة في الأفعال والوقائع اليومية”النكت”:
لقد مارس بعض من ذكرت أمثال حليمي حسو ويونس وجاجان ولطو هذه الفكاهة دون استخدام الغناء أيضاً، وقد استقوا أغلب مواد الطرائف من الواقع المحلي: شخصيات من الريف، وأخرى قادمة من المدينة إلى الريف، شخصيات بسيطة أو ذاهلة عن نفسها، وعما يجري حولها، ومتركزة على ذاتها، لا تحسن قراءة الآخرين، مما يجعل منها فرائس تقع بسهولة في الفخاخ المنصوبة لها، يقدمها الراوي أو المهرج من خلال تصوير ساخر مستخدماً لغتي الكلام والجسد: تنغيما وتلويناً وإيماء، وبما يناسب ذوق المتلقين.
وإذا كانت غالبية الطرائف قروية، لا تلميح سياسي أو مضامين فكرية، فقد كانت الضحية فيها من جميع شرائح المجتمع، بل حتى من جميع أطياف المجتمع الجزراوي من: الكرد والعرب والسريان واليهود.
وثمة شخصيات فكاهية في حياة الكرد صدرت عنها طرائف ومواقف ساخرة، لم تكن هذه الشخصيات سوية عقلياً، أمثال حيدرو ونوافو وجحا الكرد إسماعيل المجنون. الشخصية التي لبعض نكاته من بعد فكري وترميزات ما يجعل منها قريبة الشبه بشخصية حفار القبور في مسرحية هاملت والبهلول في الملك لير لشكسبير.
الضحك في الشعر:
إذا كان الغناء هو ديوان الكرد والفن الأكثر رواجا وانتشاراً في الساحة الكردية، فإن الشعر كفن قولي هو الذي يتصدر فنون الكتابة بالكردية، ليس لحداثة باقي الفنون وحسب، من قصة ورواية وحتى مسرح، بل لأسباب تتعلق بطبيعة هذا الفن لدى جميع الشعوب وأسبقيته في الظهور من جهة، ولسياسة القهر الممارسة بحق اللغة الكردية، والكتابة بها خاصة من جهة ثانية، فكان لا بد من الاقبال عليه أكثر من باقي الفنون الكتابية لما يمتلكه من خاصية التداول شفاهياً.
ولا غرابة، والحال هذه، من غلبة الطابع السياسي على الشعر الكردي، وهيمنة نغمة الحزن والتأسي حتى على الفكاهة في الشعر.
ويتصدر الثعلب ورجل الدين: الملا، قائمة الشخصيات المضحكوك عليها في القصائد الساخرة، إضافة إلى المنافق والجبان والخائن.. إلخ. ويبرز اسم الشاعر المعروف جكرخوين، كواحد من اكثر الساخرين في مجال الشعر، ففي قصيدته “فاتي والملا” الديوان الرابع ص 92 ، سخرية من الملا المتصابي في حوارية بين الملا والفتاة الجميلة فاتي، وكذلك في قصيدة أخرى من الديوان السادس، والتي تحمل عنوان “جرتو وفرتو” يذهب الشاعر بعيداً في سخريته، ليطال البلد والمجتمع كله، والذي أمسى الرجل الأصيل فيه، والمشبه بالأسد، أضحوكة الجبناء والسفهاء، ممثلين في شخصيتي الثعلب والفأر، حيث يربط الثعلب جرتو الأسد بحبل، ولا يجد من يفك هذا الوثاق سوى الفأر فرتو، ولعل عدم التجانس والتناسب بين شخصيتين أو حدثين في هذه القصيدة الترميزية، إضافة إلى المبالغة والتصوير الكاريكاتوري، هو مبعث الضحك المر عند مجتمع تسوده الأمية والجهل والفقر، والذي لا يجد كبير عناء في كشف مرامي الشاعر في فضح ما آل إليه حال المجتمع، وفهم مقاصده التي لخصها في رد الفأر على سؤال الأسد عن المكافأة التي يريدها مقابل مساعدته على التخلص من المأزق الذي وضعه فيه الثعلب:
” أنا فأر هذه الديار
لا أهوى جمع المال
أريد أيها الشاه الكبير
أن تضع التاج على رأسي
وتسميني، أنا أيضاً، الأسد
الشاه والرأس الذهبي
قال الأسد: ما اسمك؟
يبدو أنك مهرج.
-يسمونني فرتو، قال الفأر
واسم أبي زرتو. 6
والتسميتان هنا تطلق لدى الكرد على الشخصيات التافهة.
وفي قصيدة للشاعر تيريز والتي تحمل عنوان الذئب والثعلب والمصاغة بالأساس من حكاية شعبية، والقريبة الشبه من أجواء كليلة ودمنة، ينصح الثعلب الذئب بعدم زيارة السادة الأقوياء، وخاصة الأسد، الذي ينوي الذئب عيادته لأنه مريض، فيشي الذئب بالثعلب لدى الأسد، وحين يتم احضار الثعلب ليمثل أمام ملك الغابة، وبدل محاكمته، يقلب الثعلب السحر على الذئب ويقنع الأسد بأن تناول قدم الذئب هو الدواء الشافي له، لينقلب الضحك على الذئب رغم مكر الثعلب وكذبه، لأن القصد هو ضحك على فعل مدان اجتماعيا وسياسياً وهو: التملق.
من الملاحظ أن بعض أنواع الضحك لدى الكرد في هذا المجال، التراث، ومثل شعوب المنطقة، تكثر فيه الكلمات البذيئة والحوار الفاحش، ومرد ذلك لا يمثل طبيعة الكرد أو أذواقهم، بل يفضح قسوة الواقع المعاش، إضافة إلى البيئة القروية التي تكثر فيها عادة التعابير الفاحشة، ومن يعود إلى السخرية لدى الإغريق، بل إلى بدايات الكوميديا، سيجد هذا اللون من الضحك واضحاً وجلياً، وفي مسرحيات أرستوفانيس وغيره، ومنها مسرحيته السحب التي سخر فيها من الفيلسوف سقراط، الذي تقبلها بروح المرح، وكذلك فعل جمهور أثينا.
ومن هذا النوع من الضحك والسخريات انطلقت المسرحية الكوميدية، وارتقت تزامناً مع تطور المجتمع وارتقاء الكاتب بأدواته ومواضيعه.
ليس كل ما سبق الإشارة إليه هو كل ما في التراث الكردي عن الضحك، بل مجرد إطلالة سريعة، ولعل الأمر يحتاج من الدارس إلى بحث عميق لدارسة طبيعة وظروف الكرد من خلال هذا المجال، إضافة إلى استثماره في مجالات فنية كثيرة مثل المسرح والسينما.
المراجع والهوامش:
1 – إبراهيم، د. زكريا، سيكولوجية الفكاهة والضحك، مكتبة مصر، ص 30.
2- يذكر الباحث المسرحي أريك بنتلي: بأن فرويد يميز بين نوعين من النكات: نوع حسن النية لايؤذي، ونوع له هدف واتجاه وغاية يبتغي الوصول إليها، ثم أنه يفرق بين غايتين للنكات: الهدم والتعريض، والتهشيم والفرية..ويميز كذلك بين نكات هادفة وأخرى فاضحة.. للمزيد راجع: ميرشت مولوين، وكليفورد ليتش: الكوميديا والتراجيديا. ترجمة د. علي أحمد محمود. سلسلة عالم المعرفة، الكويت، ص 25 .
3- إبراهيم، زكريا، مرجع مذكور، ص 144.
4- المرجع السابق، ص 92.
5- فام، د. لطفي، المسرح الفرنسي المعاصر، الدار القومية للطباعة والنشر، ص.30-31.
6- جكرخوين، الديوان السادس، ستوكهولم 1982ص 63-68.
* قاص وكاتب مسرحي من مواليد قامشلي- سوريا، مقيم حاليا في ألمانيا. له 17 كتاباً. 6 كتب منهم بين المسرح والقصة والدراسات، و10 كتب للأطفال بين مسرح وقصة ومقال، ولديه مجموعة قصصية قيد الطبع.