تكرر الخلاف مرة ثانية، وسيتكرر في صورة دائمة طالما أن بعضنا سيجد مبرراً لمواقف بعض الكتّاب من النظام والثورة في سوريا. اختلف الكتّاب في المرة الماضية، حول الكاتب السوري وليد معماري، الذي رحل في 17 كانون الأول الماضي، وها هم يعاودون الكرة حول الروائي والقاص والمسرحي وليد إخلاصي، الذي توفي في حلب في 19 شباط الجاري.
لم يقف معماري وإخلاصي مع الثورة السورية، ويمكن القول إنهما وقفا مع النظام من دون مجاهرة أو متاجرة بالموقف، حتى أشكل الأمر على الغالبية العظمى، ولذلك رثاهما الكثير من مؤيدي الثورة، الذين هُجّروا من البلد بسبب عنف النظام. ولولا النبش في سيرة هذين الكاتبين، لما وجدنا في سجلات أي منهما مواقف فاقعة إلى جانب النظام، مثال مديح وتأييد معماري في العام 2014 لترشيح بشار الأسد لولاية رئاسية، هو الذي رأى البعض في زاويته الساخرة في “صحيفة تشرين” الرسمية فسحة لانتقاد النظام. وبالتالي اعتُبر معماري معارضاً من موقع عضويته في الحزب الشيوعي السوري الرسمي-جناح خالد بكاش، الذي لم يضع سقفاً لمعارضة النظام أعلى من ذلك.
ويختلف الأمر في حال إخلاصي الذي لم يكن منتمياً لحزب سياسي، ولا عمل في الصحافة الرسمية ودوائر النظام الثقافية، بل كان موظفاً رفيعاً في المؤسسة العامة لحلج وتسويق القطن منذ العام 1966، ضمن اختصاصه كمهندس زراعي. إلا أنه التقى “الرئيس الأب” خلال إحدى زياراته إلى حلب، ونشر صورة شخصية معه، وشارك من موقعه في عضوية مجلس الشعب (3 دورات) في تعديل الدستور العام 2000 لتوريث بشار الأسد، الذي امتدحه على شاشة الإخبارية السورية في الذكرى السنوية لسقوط حلب بيد النظام “ليس لأنه رئيس فقط، إنما هو إنسان حقيقي وسوري حقيقي، من أسفل القدم إلى أعلى الرأس. لا أكنّ له الاحترام فقط، بل أحمل له محبة لا حدود لها”. ويبدو أن هذا الشريط لم ينتشر على نطاق واسع، ولذلك حظي إخلاصي برثاء في صفحات فايسبوك من قبل معارضين للنظام، وأجمع هؤلاء على كياسته ولطفه وحضوره الدافئ، وعلى تميز منجزه الأدبي، رغم أن البعض اعترف بأنه لم يقرأ له أكثر من عمل واحد.
في حقيقة الأمر لم يكن معماري وإخلاصي من الكتّاب الإشكاليين في سوريا، حتى نقرأ نتاجهم الأدبي من منظور الموقف السياسي، كما لم يكونا من جوقة كتّاب النظام المباشرين المدافعين عن سياسات النظام والمبررين لكل ما قام به قبل الثورة وبعدها. وشكل إعلان كل منهما عن موقف صريح في تأييد بشار الأسد، نقطة الخلاف، وبرر البعض ذلك بأنه لحظة ضعف ومحاولة كي لا يُصنفا بين غير الراضين عن جرائم النظام أو الساكتين عنها على الأقل. وبالتالي هناك مسافة من الحيرة والالتباس وقع فيها البعض في لحظة الموت، وفي ذلك قياس للحسنات بالسيئات، مال فيه الميزان لصالح الحسنات، التي لم يتمكن بعض آخر من السوريين أن يرى فيها أي شفاعة أمام جرائم النظام، ولو من باب الأخلاق لا أكثر.
ليس من حق أحد، بالطبع، أن يفرض على كل الكتّاب السوريين وغير السوريين، أن يعارضوا النظام، ويقفوا ضده بالرأي والموقف، أو يخرجوا عن صمتهم لإدانة الجرائم التي ارتكبها، خصوصاً الذين يعيشون في داخل سوريا، كما لا يمكن لأحد مهما بلغ من الحياد أن يقبل من بعض الكتّاب تأييد رئيس النظام المسؤول عن تلك الجرائم التي ترقى إلى الإبادة، ولو على سبيل احترام أرواح الضحايا التي تتحدر الغالبية العظمى منها من أوساط مدنية، لا صلة لها بها بحمل السلاح ضد النظام.
الموقف في حال الكتّاب يتجاوز السياسة إلى الأخلاق، التي لا يمكن لها أن تحترم من يقف في صف القاتل، أو يصمت على أفعاله تحت أي مبرر كان. وحجة البعض بظهور جماعات متطرفة مثل “داعش” و”القاعدة”، ارتكبت جرائم بحق الأبرياء، لا يمكن أن تبرر بأي حال من الأحوال ممارسات النظام السوري الرهيبة في التصفيات الجسدية والاختفاء القسري واغتصاب النساء واحتجاز الأطفال وتدمير العمران وتهجير مئات الآلاف من بيوتهم.
لا أظن أن معماري وإخلاصي كانا مُجبرين على التبرير للنظام، وكانت أمام كل منهما طرق أخرى غير كيل المديح العلني لرئيس النظام المسؤول المباشر عن جرائم الإبادة. وبالتالي، إن البحث عن تبريرات لمواقفهما هو من قبيل المجاملات، التي لا تريد أن ترى الموقف في صورته العارية، حتى لا نقول أكثر من ذلك.
*المدن