يشعر مَن يشاهد مقابلة الصحافي علي الظفيري، في قناة “الجزيرة”، مع السينمائي الروسي نيكيتا ميخالكوف، كأنه في رحلة سينمائية، يسافر فيها داخل قطار التاريخ الروسي، الذي يعبر محطات عديدة من القيصرية في القرن السادس عشر، حتى الزمن الراهن. وفي كل محطة، هناك وقفة للحديث في السياسة والثقافة والفن بعَين هذا الفنان الكبير، الذي يشكل ظاهرة لا مثيل لها، يرى فيها نفسه وبلاده والعالم. وتشكل المقابلة شهادة معبّرة عن الموقف من الثقافة في عالم بدأ يقلل من قيمتها، وأهميتها في حياة البشر، وتعكس في الوقت ذاته، نظرة المثقف إلى مكانه في المجتمع. ويتحدث الممثل والمخرج والمنتج من دون تنظير، بل يتكلم على سجيته عن نشأته وترعرعه في بيئة ثقافية ذات تاريخ مديد يعود إلى قرون، كونه سليل أسرة نبيلة قريبة للقياصرة آل رومانوف الذين حكموا روسيا أكثر من أربعة قرون، وكان آخرهم القيصر نيكولا الثاني الذي أطاحته الثورة البلشفية العام 1917، وأعدمته مع عائلته في العام التالي، وأعادت له الكنيسة الأرثوذكسية الروسية الاعتبار مع وصول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الحكم العام 2000.
الرؤية التي يتحدث بها ميخالكوف هي المهمة، وتستحق التوقف أمامها في الزمن الروسي الراهن، الذي يحاول فيه بوتين إعادة تأسيس الامبراطورية على أساس قومي ديني، تشكل الثقافة والرموز الثقافية في الماضي والحاضر حصة كبيرة منه. ومن هنا تأتي أهمية شخصية مثل ميخالكوف في مشروع بوتين العام، فهو سينمائي عالمي حاز جائزة الأوسكار عن فيلمه “المتعبون من الشمس”1994، وجائزة “السعفة الذهب” في مهرجان “كان”1993، و”الأسد الذهب” في مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي1991عن فيلم “أورغا أرض الحب”.
لا يخفي ميخالكوف تأييده لبوتين من منطلق قومي، وحتى حين يتحدث عن الكاتب أنطوان تشيخوف الذي اقتبس من مسرحه فيلمين هما “خمس مقطوعات غير مكتملة لبيانو آلي” و”العيون السود”، فهو يرى فيه درباً بين ماضي روسيا ومستقبلها، بمعنى أن الثقافة هي الدرب الذي يسير عليه أي بلد. ومن يتتبع مسار هذا الفنان يلاحظ حجم المسافة التي قطعها سياسياً، بين تأييده مشروع الرئيس الأسبق ميخائيل غورباتشيف “البيروسترويكا” الذي ساهم في تفكيك الاتحاد السوفياتي، وبين مشروع بوتين الذي يطمح لاستعادة الأمجاد الإمبراطورية، ولا فارق أن كانت سوفياتية أم روسية. ومع أن ميخالكوف مدين للأول بغالبية ما حققه من أفلام عادت عليه بالشهرة، فإنه انحاز للخط الذي مثله الثاني مع ما يشكله من انغلاق، ولذا جر عليه الكراهية في أوساط المثقفين الروس، لا سيما أنه بالغ في تأييد بوتين من خلال برنامجه التلفزيوني في شاشة قناة روسيا الإخبارية الرسمية24، والذي اختار له اسم “بيسوغون” (طارد الأرواح الشريرة) وتتواصل حلقاته منذ العام 2014 حتى اليوم، بما يعني عملياً اقترابه من الموقف الرسمي للدولة، لا سيما أنه يردّ ويساجل الأوساط المعارضة لسياسات بوتين، وفي ذلك يتكئ على التاريخ الذي يفسره وفق رؤاه القومية المحافظة.
ميخالكوف ليس شخصية متناقضة تحاول أن تجمع الماضي السوفياتي والقيصري فحسب، بل هو تركيب ثقافي معقد يعبّر عن أزمة روسيا التي تبدو بلا حل في الظرف الراهن، بعدما أضاعت الفرصة التي وفرها لها الظرف الذي جاء به غورباتشوف، ثم انتهى بسرعة لتصل الكرة إلى المكان الخطأ والرجل غير المناسب بوريس يلتسين، الذي مهد الطريق لوصول بوتين، بما يشكله من انقلاب سياسي ثقافي محافظ، يحاول أن يختصر أزمات روسيا بالهوية، ويبني حول ذلك مشروعاً على أساس الدفاع عن القيم الأوروبية، اختار له أحزاب وتنظيمات اليمين العنصري المتطرف، الذي تعبّر عنه بصورة واضحة مارين لوبن رئيسة حزب “التجمع الوطني” الفرنسي، والتي كانت كثيرة التردد على موسكو قبل الحرب الأوكرانية.
ميخالكوف حائز على عشرات الجوائز المحلية والعالمية.. ممثل، مخرج، منتج، سليل نبلاء، وابن الشاعر سيرغي ميخالكوف كاتب النشيد الوطني السوفياتي بأمر من ستالين. فنان ونقابي وسياسي، سبق له أن ترشح للرئاسة في التسعينيات من القرن الماضي، لكنه بات أحد مندوبي بوتين في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وأصبح على رأس هيئات وصناديق اجتماعية يقف خلفها الكرملين، وهذا دليل على ثقة بوتين به الذي قربه منه على نحو كبير. وهنا يمكن التوقف عند نقطتين مهمتين. الأولى هي أن ميخالكوف هو من ضمن قرابة 500 شخصية من أبرز ممثلي الأوساط السياسية والاجتماعية والثقافية، بما في ذلك نجوم السينما والمسرح، ممن بعثوا العام 2014 برسالة إلى بوتين، أعربوا فيها عن تأييدهم ودعمهم لما اتخذه من قرارات وخطوات لضم “شبه جزيرة القرم”، ودعم الفصائل الانفصالية في جنوب شرقي أوكرانيا. والثانية هي حرص بوتين على الاتصال بميخالكوف لتهنئته وإبلاغه بمنحه وسام “بطل العمل” أحد أرفع أوسمة الدولة، بمناسبة بلوغه عامه الـ75، وذلك في أكتوبر 2020 في أوج الموجة الثانية من كورونا، التي خلفت عدداً كبيراً من الضحايا.
وجّه الظفيري سؤالاً حول التدخل الروسي في سوريا ضد الشعب ومع النظام، وكانت إجابة ميخالكوف جاهزة، وهي أن بوتين تدخل ليمنع حصول أفغانستان جديدة. وهذا مراوغ، لأنه نفسه انتقد التدخل السوفياتي في أفغانستان، وما يتعلق بتزايد تعداد الضحايا من الجنود والضباط آنذاك، وركز على الأمر في فيلمه “رودينا” (الأقارب) الذي منعته الرقابة رسمياً في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، وتدخل حينذاك الرئيس السوفياتي يوري اندروبوف، وسمح بإجازته مع بعض التعديلات.
على العموم، يعتبر الوسط الثقافي الروسي ميخالكوف رجل كل العصور، وهو توصيف كان يُطلق على والده الذي كان وضعه جيداً في عهود ستالين، خروتشوف، وبريجنيف. ويأخذ منتقدو ميخالكوف عليه أنه ركب الموجة على الدوام، حتى في أسوا الفترات، وهي التي شهدت تفكك الاتحاد السوفياتي على يد يلتسين، وهذا لا يمنع أن هناك إجماعاً على موهبته السينمائية كممثل ومخرج وكاتب سيناريو، فهو صاحب الأدوار الصعبة، والقدرة غير المحدودة على إدارة الممثلين. وسار في طريق مختلف عن شقيقه أندريه كونتشالوفسكي، الذي لا يقل عنه أهمية في فن السينما كمخرج مبدع هو الآخر، لكنه تميز عنه بانشقاقه عن الحكم السوفياتي وفراره إلى الغرب حيث صار “هوليوودياً” بامتياز، وهو ما لامه عليه نيكيتا، مرة لانشقاقه ومرة لهوليووديته. ورغم أن ميخالكوف حاز الأوسكار، ويحب السينما الأميركية القديمة، فإنه غير معجب بالنموذج الأميركي، وهذا أمر يجد تفسيره في صراع الحضارات.
*المدن