كنت أحب شعر نزار قباني سرا ولكني لا أبوح بذلك. كيف لكاتب قصيدة نثر أن يحب شاعراً كلاسيكياً؟ هذا أمر يشبه ارتكاب خيانة في السر، وفي العلن كنتُ أصرح بحبي وإعجابي بشعراء تفعيلة من دون أي حرج، إلا أن ذلك اقتصر على كبار شعراء التفعيلة، محمود درويش، سعدي يوسف، وأمل دنقل.
لم يكن الإعجاب بشعر نزار بالأمر السهل لكاتب قصيدة نثر يعتبر أنه اقام قطيعة مع القصيدة التقليدية وكتابها، وذهب بعيداً في الثورة الحداثية نحو تبني الدعوة إلى القطيعة مع هذا الشكل الفني في الكتابة. ولذلك كانت العداوة علنية مع جيل الشعراء الكلاسيكيين الثاني وليس الأول. كنا متسامحين مع جيل عمر ابوريشة وبدوي الجبل والياس ابو شبكة واحمد رامي وحتى محمد مهدي الجواهري، ولم يكن الأمر ذاته مع قباني ومجايليه الذين كنا نتصل به بهم مباشرة ولا تفصلنا عنهم مسافة زمانية وجمالية بعيدة، ولذلك بقي هنالك ما يشبه الحب غير المعلن، والقائم على شكل من أشكال الاعجاب. وفوق ذلك يستحق قباني مكانه خاصة، وهذا أمر تعلمته من محمود درويش الذي جعلني موقفه من نزار قباني أن اراجع نفسي، وصرتُ أعيد فحص حججي الفنية من القصيدة الكلاسيكية الحديثة، واختبر ذائقتي وامتحن قدرتها على التهاون تجاه هذا النمط من الجمال الذي يحفل به شعر نزار، ويكاد يكون المبرر الأساسي لجيل مثل جيلنا تربى على قيم جمالية مختلفة تتعامل مع العالم من منظور قيمي واخلاقي مختلفين.
تشكل الموقف الحاد تجاه شعر نزار قباني عندي وعند الغالبية العظمى من نظرته تجاه المرأة، وهي نظرة ذات مستويات مختلفة، وتحتاج إلى دراسات كثيرة للاحاطة بها، ولكن الذي سجله الرأي العام الدارج على نزار هو انه حبس المرأة في قفص وحولها إلى دمية ذات مواصفات جمالية ولم يتعامل معها ككائن، وهذا أمر فيه الكثير من التحامل على نزار الذي تطور موقفه الفكري والانساني من المرأة مثلما تطور بناء قصيدته وصورها ومفرداتها مع تبدل الزمان والمكان. ومن الجائر أن نعامل شعر البدايات، كما نقرأ ونحاكم شعر السنوات الأخيرة من حياة نزار الذي تطور لديه الغزل بالمرأة في صورة كاملة.
ساعدني درويش على اعادة النظر في موقفي من نزار قباني، وحين وجدت أنه يحبه وعجب به إلى حد كبير ظننت، في البداية، إن سر ذلك الحب يعود إلى أنه صاهر ذات يوم عائلة قباني وتزوج الكاتبة رنا قباني ابنة شقيق نزار. وقلت ربما يعود الأمر إلى المودة التي نشأت بينه وبين هذه العائلة، وهي مودة لمست انها استمرت لديه رغم الطلاق بينه وبين السيدة رنا، وظل درويش على صلة وتواصل مع نزار، وحين مرض قباني في لندن ودخل مشفى كرومويل زاره عدة مرات، وتحدث عن تلك الزيارات، وعبر عن تقدير كبير لنزار الشاعر الكبير “أنا لم أختلف معه، ففي القمة هناك متسع لأكثر من واحد، أما في القاع فالصراع على أشده بين الأقزام”، وبذلك فتح بابا ليس لي فقط وانما لأجيال مختلفة من الشعراء والكتاب والنقاد لمراجعة الموقف من شعر نزار قباني وموقعه داخل القصيدة العربية، وهو موقع أساسي بين شعراء الكلاسيكية الجدد مثل الجواهري وبدوي الجبل. ولا اخجل اليوم أن اعترف بأني مدين لمحمود درويش بتغيير موقفي وذائقتي من نزار قباني، وكان موقفه الايجابي منه بمثابة صدمة اعادتني انا وشعراء قصيدة نثر كثيرين لإجراء هذه المراجعة التي تأسست على فهم مختلف عن الموقف المتطرف من الكلاسيكي الذي رفضناه كاملا في فترة ما وتعاملنا معه بقسوة. لم نقم بقطيعة معرفية، وإنما بمقاطعة قائمة على ردة فعل ونزق الشباب.
وإذ أعود اليوم إلى نزار قباني كظاهرة في الشعر العربي، فإني أجد أنها لم تأخذ حقها من الاهتمام والنقد والاعتراف. وهذا لا يقتصر على نزار وحده وإنما ينسحب على جميع القامات الابداعية الكبيرة، ولكن نزار تعرض إلى اقصاء وتهميش من طرف السلطة السورية بعد مقتل زوجته بلقيس الراوي في السفارة العراقية في بيروت. ولا أحد يستطيع أن ينكر ان الموقف من نزار طائفي بامتياز، ولا يعني ذلك ان الحكم في دمشق قرأ قباني جيدا واصدر عليه حكما طائفيا، وإنما تعامل معه بالاقصاء بسبب قراءة طائفية مغلوطة نابعة من موقف سياسي تجاه دمشق وتاريخها، وكل ما يمت لها من معاوية بن أبي سفيان حتى نزار قباني.
(المدن)