نجوى بركات كائن منهمك دائماً. على عجلة وكأن أعمالها ومواعيدها لا تنتهي. وكنت أحسدها كلما قابلتها على السرعة التي تتحدث بها والأفكار التي لا تنقطع. لديها طاقة غير محدودة على الحديث والكتابة، مسلحة بخيال نشيط يسعفها دائماً كي لا تكرر الإجابة على السؤال نفسه الذي تلقته في لقاء سابق. عندها جديد في كل لقاء. تشبه في ذلك الحي الذي سكنته في باريس، حيّ “مفتار”، والذي يغير أحواله في صورة متواصلة، كي يحافظ على البهجة التي يولدها الهارموني العام للساكنة داخل الفضاء الباريسي في الثابت والمتحول. ورغم أنها عادت لتعيش في شارع أرمينيا ببيروت منذ حوالى 10 أعوام، فإنها لم تتمكن من التخلي عن بيتها الصغير في الدائرة الخامسة، القريب من جامع باريس وحديقة النبات، حيث انتقلت العام 2005، فللبيوت حق علينا ألا ندير ظهورنا لها، فهي تسكن فينا ولا تغادر حتى لو رحلنا عنها.
وفي اللقاء الأخير مع نجوى في باريس، قبل أكثر من عام، غير بعيد عن بيتها، حدثتني بحب شديد عن ذلك المنزل، كأنها تتكلم عن كائن حي يسكنها. وحين حصل انفجار مرفأ بيروت في آب الماضي أحسست في نبرة صوتها، حاجة لمغادرة مدينتها الأولى والعودة إلى باريس التي صارت نصفها الآخر منذ أن سكنتها العام 1985، وكتبت فيها روايتها “المحول” التي كانت بمثابة تمرين على الغربة وعلى تملك المكان الجديد الذي انتقلت اليه، وكان إحساسها كمن ترك بلداً مريضاً وراءه، وليس من السهل عليه الانخراط في المكان الجديد. دائماً هناك احساس بأنه يحمل على كتفيه حملاً ثقيلاً، هو نوع من الخوف على الأهل والأصدقاء والتفاصيل الخاصة التي تبقى ولا تسافر مع الكائن حين يرحل، وتبقى مثل حبل السرة الخفي الذي لم ينقطع.
تعرفت على نجوى في بيروت، العام 1982، برفقة أصدقاء على صلة بالثقافة، وخاصة المسرح، أغلبهم طلبة جامعيون في بيروت الشرقية، يقتنصون الوقت للمجيء إلى بيروت الغربية التي يتنفسون فيها هواء آخر، وكانت نجوى تدرس المسرح وتحلم في عالم من خيال مسرحي يحلق عالياً في زمن يعقوب شدراوي، ريمون جبارة، عصام محفوظ، جلال جوري، وروجيه عساف، لكن السينما أخذتها إلى باريس الثمانينات التي كانت تحفظ في كل زاوية منها عبقاً من ثورة الطلاب العام 1968، وشعارات “عش دون وقت ميت”، “الجمال في الشارع”. وهنا ذهبت نجوى نحو الرواية فكانت تجربتها الأولى مع “المحول”، ثم توغلت أبعد في السنوات اللاحقة نحو مشروع روائي متكامل. وكتبت روايات عديدة يمكن قراءة كل منها بمعزل عن أخواتها، أو مع الجميع، وهذا الأمر يعبر إلى حد ما عن علاقة نجوى بالرواية. هي روائية نعم، وصاحبة محترف لتعليم كتابة الرواية، ومن المفروض هنا من الناحية العملية أنها هي التي تعرف كيف تحل عقدة كتابة رواية ناجحة، ما يستدعي قراءة مختلفة لكل عمل من أعمالها التي حازت على احتفاء نقدي ملحوظ، وعلى نحو خاص روايتها الأخيرة “مستر نون” التي استقبلها النقاد باهتمام، وجرى عرضها في الصحف بوصفها أحد الأعمال الروائية المتميزة التي صدرت في العامين الأخيرين.
وهذا التمييز للعمل غير بعيد من نظرة الكاتبة له، والذي بدا واضحاً أنها تضعه في مكانة خاصة بين أعمالها، سواء من خلال الأحاديث الصحافية أو مشاركته في مسابقتي الرواية الشهيرتين: بوكر وكتارا. وفي المسابقتين لم يحز العمل على أي جائزة، ولا يعني ذلك أنه عمل عادي بقدر ما أن معايير التحكيم في المسابقتين ابتعدت عن تقدير أهمية العمل الروائي الفريد، بشهادة كافة النقاد الذين قرأوه، على أنه يبقى أحد أفضل الأعمال التي خرجت من دوامة المأساة اللبنانية بكل تداعياتها وخرابها وانكساراتها، حيث نجحت الكاتبة في بناء شخصيات ترسم لوحة بانورامية عن بيروت. وجاءت رواية “مستر نون” بعد توقف نجوى عن الكتابة الروائية قرابة 15 عاماً، ورأى البعض في بطل الرواية دونكيشوت معاصراً، شرق أوسطي لبناني عربي (فضيلة الفاروق في حوار تلفزيوني مع الكاتبة)، واعتبرت بركات أن هذا التوصيف مصيب. وقالت أن هذا العمل مختلف عن أعمالها السابقة. “مستر نون” كاتب من الاشرفية، ينزل إلى بؤرة الفقراء والمهاجرين. يعاني من الوقع الذي يسبقنا بسرعة مخيفة، وينقل رؤية عن قاع المدينة.
وفي رواياتها التي كتبتها في الخارج، لم تكتب نجوى حصراً عن لبنان. رواية واحدة، تتطرق للحرب في لبنان من دون تسمية المكان، ومن باريس كتبت عن جغرافيا سردية عربية، وجاءت ثيمة العنف والقسوة والتوحش متجسدة في ثلاث روايات: باص الأوادم 1996، يا سلام 1999، ولغة السر 2004، وإذا عاد المرء إلى قراءة هذه الثلاثية بمفعول رجعي على ضوء واقعنا اليوم، وما شهده العالم العربي من أحداث في العقد الأخير، يقف على قوة الحدس لدى الكاتبة التي شهدت الحرب الأهلية اللبنانية، وكانت السبب في مسار غربتها وحياتها بين لغتين وثقافتين، ويتجلى في هذه الثلاثية أن المجتمعات العربية تعيش في كنف عنف مستتر يظهر لدى أول تماس، وتتولد شرارة كما لو في تماس كهربائي، وهنا يتحقق الشرط الصعب في الكتابة وهو تحويل النص الواقعي، حين يتم نقله إلى الأدب، ليصبح فضاء سردياً.
ويبقى عالم الرواية بالنسبة لها أكثر حقيقية من العالم الواقعي. وعندما تكتب نجوى لا تخصص كثيرا، ولا تحكي عن منطقة بعينها. وتعترف أنها تكتب عن الشارع العربي الذي يشبه بعضه، على أساس أن شارع تونس لا يختلف عن شارع دمشق أو مصر، وهنا يمكن أن يلعب الكاتب بالزمن والمكان، وليس من الضروري أن يكتب من معيشه الخاص، وبوسعه أن يضع نفسه في جلد شخصية أخرى. وهنا تتحدد هوية المبدع من منطقة الابداع، وكل الأسئلة التي تطرحها الكتابة، اللغة، والجغرافيا، ويمكن للكاتب أن يطوعها إلى جغرافية سردية. وبالتالي لا يستطيع أحد أن يقبض على الكاتبة متلبسة بالانتماء إلى هذا المكان بعينه. وحين يسافر الكاتب الى ثقافات أخرى، يطرح سؤال الهوية. الآخر هو المرآة العاكسة. سؤال النهضة الأساسي هو من أنا بالنسبة للآخر؟ وفي رأي نجوى فإن الكتابة لعنة وهِبة، هي نار تشتعل في داخل الكاتب وعليه أن يعرف كيف يهدّئ من سعيرها كي لا تأكله من الداخل. هي الخيط الرفيع الذي يسير عليه الكاتب بين الوعي واللاوعي. وفي كل الكتابات هناك نوع من المسافة التي تبقي على قدر من الحرية تجاه النص.
والخلاصة أن الكتابة في العالم العربي مهنة شاقة، يمارسها البعض بسهولة، ولذا كثر الكتّاب وقلّ الانتاج المتميز. الكاتب المتميز هو الذي يشكّك في ما يكتب، ويشتغل على نفسه، ويحسّ دائماً أن ما أنجزه ناقص.
ويلعب المسرح دوراً أساسياً في بناء شخصيات نجوى بركات، كونها أتت إلى الكتابة من خلفية مسرحية سينمائية. درست في بيروت المسرح وحازت على شهادة جامعية، وفي باريس درست السينما، لكنها بقيت مصرة على الكتابة الروائية. وأثرت باريس ودراسة السينما، في تفتح وعيها على عالم آخر تشكله صور مختلفة عن المسرح المهدم الذي تركته وراءها. ورغم أن بعض أعمالها ترجمت إلى الفرنسية والإيطالية والإنكليزية، ولقيت اهتماماً، ومع أنها هي نفسها ترجَمت لكتّاب كبار مثل البير كامو، فإنها قررت أن ترجع إلى بيروت، ومن بيروت نحو العالم العربي. بقي لها بيت في باريس ترجع إليه حين تجد أنها بحاجة أن تتنفس هواء آخر بلا شروط ومن دون حسابات. وأكثر ما شغلها في بيروت والمنطقة العربية هو محترف الرواية الذي بنته من الصفر، ونجح في تخريج 23 كاتبة وكاتباً، كتبوا روايات وطبعتها دور نشر مرموقة، مثل الآداب والساقي والفارابي في بيروت، والعين في مصر..إلخ.
وعلى هذا، يبقى محترف الرواية، تجربة فريدة من نوعها في العالم العربي وماركة مسجلة لها، رغم أن غيرها جرب أن يقوم بهذا النشاط مثل الروائي جبور الدويهي، إلا أنه لم يحقق منجزاً يقارن بما راكمته نجوى خلال عقدين من الزمن. ويعبر تبني نجوى للمحترف أو الورشة الروائية أن ما قامت به ليس نزوة كاتب مترف أو صفاً مدرسياً، بل هو مشروع ذو طبيعة مختلفة عن بقية المشاريع الثقافية، ومحك يظهر فيه صاحب التجربة أنه كاتب أم لا. ومن أهم مصاعب النهوض بالمحترف وتطويره واستمراره أنه يحتاج إلى تمويل كي يعيش ويستمر ويحقق التراكم الكافي. وتقول هنا إن الرواية لا يمكن تعليمها، ومن يدخل هذا الميدان يجب ان يكون ملماً بهذا العالم ويحبه، والكاتب هو الذي يكتب النص، وتدخلها هي يبدأ من الصفر أي اختيار الموضوع. “لا أشكل كاتباً، وإنما أكتشف كاتباً، أطوّر كاتباً. هناك مطبخ مشترك، لكن في نهاية الأمر، فإن الطبخة طبخة الطباخ. وعلى الكاتب نفسه أن يقرر هل يتوقف أم يستمر”. وبدأت التجربة العام 2009 في بيروت، وأنجزت معدل 7-8 روايات في العام، وبذلت بذلك جهوداً جبارة خلال ما يزيد عن عشرة أعوام، كي تحصل على روايات مقروءة وناجحة، ولم يكن أن يتم ذلك لو لم تتعب كثيراً، ولم تيأس أمام الصعوبات، وذلك إلى جانب التفكير الدائم بمشروعها الشخصي كروائية أو كاتبة عمود أسبوعي في الصحافة.
عاشت نجوى بعد عودتها من باريس العام 2011، في شارع أرمينيا في منطقة برج حمود: أكراد، أرمن، سوريون، لبنانيون، عمالة أجنبية، غرباء.. المدينة أين يوجد البشر.. النبض الحقيقي في الشارع. لا تشم رائحة المكان إذا لم تعرف أين يعيش البشر، هذا ما تقوله حين تستعيد حكايتها من الألف إلى الياء. بعدما اتخذّت قرارها بالسفر، اليوم، تتردّد نجوى في العودة إلى باريس، مع تردادها أن الوضع بات لا يُحتمل في لبنان. “الصراع الذاتي هو نفسه من جديد، أبقى؟ أرحل؟”. وهو الآن بات أكثر صعوبة مع وجود ابنتها البالغة من العمر 9 سنوات. لقد أصبح العالم مكاناً كريهاً للعيش، واختراع مكان عبر الكتابة، أصبح هو الآخر مصدر عذاب، أو أنه ما عاد كافياً حيث يزداد اللغط وسوء الفهم، فيما يعيش الأدب والثقافة بشكل عام، لحظة من أسوأ اللحظات. بيروت في حال يرثى لها، “أرى هذا كلّ يوم. الناس كلّها وكأنها فقدت شيئاً عزيزاً لا تجيد تسميته. هناك كآبة خافتة، أنين صامت، وجع وإحساس بالعجز لم يسبق للّبنانيين أن عرفوه حتى في أكثر الأوقات حلكة. الأفق مفقود تماماً، والموات غمر الناس كموجة هائلة لم يفيقوا منها بعد. بيروت محزونة وحزينة، ومع ذلك، فما زال فيها بعض نبض، ومضات هنا وهناك، بريق خاطف، بعض الأصوات. المدن تتحلّل كالجثث تماماً، تقول نجوى، ومدننا كلها تفوح منها رائحة الموت والبؤس والشقاء، دمشق، بغداد، بيروت، صنعاء، إلخ. “أشعر بعد كل ما جرى ويجري، هنا ومن حولي، أني قد عشتُ ألف قرن. وإذ أنظر في المرآة، أراني ما زلت على حالي، الزمن ثقيل ثقيل”. كانت نجوى تحضّر لرواية مقبلة، لكنّ انفجار 4 آب دمّر ما تبقّى من معانٍ وقلب كل شيء. “كيف سننهض من زلزال بهذا الحجم، وأي الأشياء مازالت قادرة أن تساعدنا بعدُ على المضيّ نحو مصائرنا التي لا تبشّر بخير؟ ذلك هو السؤال”.
*المدن