لا يمكن تلخيص مشروع ممدوح عدوان في ثيمات متعددة، أو الإحاطة به من خلال مقال أو حتى كتاب، فهو نموذج للمثقف المتعدد والمتخصص في الوقت ذاته. متعدد في الشعر والرواية والمسرح والمقال الصحافي والترجمة، ومتخصص في الكتابة المسرحية والتنظير لها، لكنه شاعر قبل كل شيء. جاء من الشعر أولاً، وقدم نفسه العام 1967 في مجموعة “الظل الأخضر”، ثم اتبعها بعد عامين بـ”تلويحة الأيدي المتعبة”. وفي المجموعتين طغت النبرة النقدية الاحتجاجية التي طبعت كل ما أنتجه في كافة الأجناس الأدبية، وهو نتاج وفير جداً بالقياس إلى العمر الذي عاشه ولم يتجاوز 63 عاماً، أنتج خلاله ما يفوق الثمانين كتاباً بين الشعر والرواية والمسرح والترجمة، بالإضافة إلى آلاف المقالات الصحافية.
كانت البداية من الشعر، ورغم أن عدوان ذهب بعيداً في الكتابة المسرحية وتدريس مادة الكتابة المسرحية في المعهد العالي للفنون المسرحية بدءاً من العام 1992، إلا أنه لم يهجر الشعر أو يتخلى عن صفة الشاعر، وكان يصر دائماً على تقديم الشاعر على ما سواه من الصفات الأخرى التي حازها عن جدارة وبجهد شخصي، وطبع شعره على الدوام بالاحتجاج. في البداية كانت هزيمة حزيران العام 1967، التي ألقت بثقلها على الكتابة العربية وشكلت موضوعها المحوري، وتراوحت الكتابات بين البكاء على الأطلال، وبين فضح الوضع الذي أنتج الهزيمة واستمراره بعدها في كل من سوريا ومصر، ومن بين الأصوات الشعرية السورية كان ممدوح عدوان الأكثر وضوحاً وتميزاً. وارتفع صوت الاحتجاج عالياً في بقية دواووين عدوان التي حملت أسماء “الدماء تدق النوافذ”، “أمي تطارد قاتلها”، “أقبل الزمن المستحيل”، “يألفونك فانفر”، والتي صدرت جميعها حتى النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي. واتسمت بنبرة غنائية عالية ولغة صدامية تصل حد المباشرة، وكانت متناغمة مع صوت شعر المقاومة الفلسطينية، وبعض الأصوات الأخرى مثل أمل دنقل من مصر.
وكان عدوان حاضراً في الوسط الثقافي المعارض، وفاعلاً أساسياً وصاحب موقف صريح في لحظات صعبة. وأقف أولاً عند تجربة الكراس الثقافي الذي أصدرناه (جميل حتمل، وائل سواح، فاديا لاذقاني، فرج بيرقدار، حسان عزت، رياض الصالح الحسين، خالد درويش، موفق سليمان، يوسف عبدلكي، بشير البكر) أثناء التدخل السوري في لبنان ضد المقاومة الفلسطينية في صيف العام 1976، وشاركنا عدوان ذلك، ونشر قصائد عديدة. وأوقفت السلطات هذا العمل حين أصدرنا العدد العاشر عن مجزرة تل الزعتر، واعتقلت اثنين من زملائنا المشاركين (رياض الصالح الحسين، خالد درويش)، وطاردت البقية. والوقفة الثانية في مؤتمر “اتحاد الكتاب العرب” في دمشق العام 1979، والكلمة التي ألقاها عدوان، وتداولها الناس على نطاق واسع في سوريا بسبب ما تضمّنته من جرأة في وقت كان النظام يشن حملة اعتقالات واسعة، ويحضر لمجزرتي حلب وحماه، ومما قاله الشاعر “النظام يكذب حتى في النشرة الجوية.. لماذا يكذب النظام؟ ولماذا يكذب الحزب؟ ولماذا تكذب فئة ما؟ الكذب ينطلق من الخوف، الخوف من الآخرين. والسلطات التي تكذب، هي سلطات تخاف الشعب، وتخاف أن يراها على حقيقتها […]. كلنا في هذا الاجتماع تجنبنا الحديث عن مسائل معينة. لا أحد تحدّث عن سرايا الدفاع. لا أحد تحدث عن المخابرات. لا أحد تحدث، إنْ لم نقلْ عن الوجه الطائفي للسلطة، فعلى الأقل عن الممارسة الطائفية لبعض العناصر في السلطة”. عبارات بقيت حية ورفعت بعض المقاطع كلافتات في العديد من المظاهرات أثناء الحراك السلمي العام 2011.
وشارك عدوان في ربيع دمشق العام 2000، ورغم أنه رحل قبل قيام الثورة السورية بسنوات (2004)، فإنه كان حاضراً في بعض تفاصيلها، واستعاد الوسط السياسي ومواقع التواصل كتابه المعبّر “حيونة الإنسان”، الذي يقارب القمع على نحو فكري وثقافي، ويسلط الضوء على الدولة القمعية التي تستخدم القانون لتبرر قمعها، بل تكاد تستخدم كل الوسائل المتاحة لتسيطر على الناس، إذ إنها تركن إلى الاغتصاب الفكري والقمع الممنهج لتوهم الناس بأنهم يحبونها، كما أنها تعهد بشكل كبير بتلك المهمة إلى المؤسسات الدينية التي تعمل على تخدير الجماهير المظلومة، فتخلق لهم تعويضات غيبية في الآخرة، وتصرفهم تمامًا عن التفكير بمقاومة الحاكم الظالم باعتباره قدرًا يجب الصبر عليه. والكتاب الذي صدر في العام 2003 حظي بقراءة خاصة من السوريين على ضوء التوحش المفرط الذي أبان عنه النظام “الشبيحة هم الأتباع المتسلطون باسم نفوذ سيدهم (الخال أو المعلم)، وهم يمررون أي شيء لأنهم لا يتعرضون للمساءلة، ولا تتعرض سياراتهم أو بيوتهم أو أشخاصهم للتفتيش أيضاً، ولذا فإن سياراتهم التي لا تفتّش قد تدخل أفيوناً أو سلاحاً أو بضاعة مهربة وربما جواسيس”.
كان واضحاً منذ البداية أن عدوان لن يقف عند حدود الشعر، بل سيشكل الشعر جسره إلى بقية الأجناس الأدبية، وتحديداً إلى المسرح، فكانت من أولى أعماله، المسرحية التي عكست منحاه العام “محاكمة الرجل الذي لم يحارب” و”لماذا تركت السيف”، وهما تدوران من حول هزيمة 1967، ولم يغادر عدوان في هذين العملين أجواء أعماله الشعرية الأولى وخصوصاً “تلويحة الأيدي المتعبة”. ثم تتالت أعماله ذات النَّفَس المعارض، “ليل العبيد” التي منعت في ليلة عرضها، وحتى “الكلاب” التي كانت آخر أعماله، وهي مسرحية صغيرة أنجزها قبل رحيله بوقت قصير. وتعددت مناخات وأساليب عدوان بين المسرح الشعري (المخاض، ليل العبيد) والحكواتي (حكايات الملوك) والملاحم الشعبية (سفر برلك) وصولاً إلى المونودراما كما في “حال الدنيا”، “الزبال”، و”القيامة”. إلا أنه برع ككاتب مسلسلات، وأحدث قفزة نوعية في هذا النوع من الكتابة، التي كانت تعتمد في غالبيتها على التسلية أو تقديم التراث في قالب نمطي جاهز من دون إسقاطات على الحاضر، ويسجل لعدوان أنه أسس لكتابة مسلسل بلغة ورؤية ومعالجة مختلفة وجديدة شكلت قطيعة مع السائد، وبينت تهافت غالبية المسلسلات التي كانت تستجدي تسلية الجمهور. ونجح عدوان في طرح قضايا ثقافية وسياسية من خلال اسقاطات تراثية بإسلوب معاصر، وهنا مصدر تميز مشروعه، ويمكن الوقوف عند مسلسلي “المتنبي” و”الزير سالم”. ولقي الثاني نجاحاً منقطع النظير، حيث توفر له مخرج على قدر عال من الحرفية، هو حاتم علي، الذي رحل نهاية العالم الماضي في القاهرة، بينما كان يعمل على تحويل المسلسل إلى فيلم وهذا دليل على البصمة التي تركها المسلسل حين ظهوره في شهر رمضان العام 2000. والمسلسل هو عبارة عن مقاربة درامية جديدة لحرب البسوس وقصة المهلهل بن ربيعة الملقب بالزير سالم. والقصة تعتبر من المأثورات الشعبية التي يرويها الحكواتيون على امتداد العالم العربي، على شكل خرافات مليئة بالمغالطات والإضافات، وجاء عدوان كي يخلصها من الأسطورة، ويحولها إلى نص قريب من الواقع برؤية جديدة وفانتازية في الوقت ذاته، فيها مسحة عالية من السخرية من عصر الفرسان على طريقة سرفانتس في “دونكيشوت”، فظهر الزير الفارس المغوار في الأسطورة غيره في المسلسل، حيث يخاف ويناور ويكذب ويخون أحياناً، لكنه أيضاً محارب وشاعر محب للحياة.
وتظهر شخصية وبصمة عدوان الشاعر طاغية في العمل، حيث وظف كل الشعر الذي تناقله الرواة عن حرب البسوس في قوالب فنية ومواقف في سياق المسلسل، ما أعاد لهذا الشعر مكانته ودوره بوصفه نصاً مترعاً بالحكمة والمأساة، وشاهداً على حياة البدو في مرحلة من تاريخهم. ويمكن أن نقول، من دون مبالغة، أن هذه المرة الأولى التي يتم فيها تدوين سيرة الزير سالم بطريقة نزع القداسة والهالة عن الشخصية، وتقديم الفارس الشاعر بوصفه كائناً بشرياً. وأثارت هذه المسألة جدلاً واسعاً في الصحافة، حيث تعرض عدوان لانتقادات كثيرة، ردّ عليها بصورة موسعة استدعته كتابة مقالات عديدة شرح فيها رؤياه، وطورها ليصدرها في كتاب “الزير سالم، البطل بين السيرة والتاريخ والبناء الدرامي”. وخلاصة الجدل، كما لخصه عدوان، “أن الناس يدافعون عن الصورة النمطية للبطل في أذهانهم، والحقيقة التاريخية تخرب هذه الصورة وتشوهها، ولذلك فإن إنكار هذه الحقيقة أسهل عليهم من تقبلها، ويأتي الانكار إما من خلال اتهامنا بالتزوير أو بالتحريف من خلال الإسقاط، او بالجهل بالتاريخ والسيرة، ناهيك عن الاتهام بمعاداة الأمة وتشويه صورة ابطالها”. ويرى عدوان أنه “ليس الهدف من العمل الدرامي أن يوافق الخرافة أو ما عشعش في أذهان الناس من صورة عن بطلها الملحميّ! وهذه الحساسية التي تحيط بأبطال التاريخ هي العقبة الأولى التي تواجه الباحث الذي يريد أن يتقصى حقيقة الأحداث والشخصيات”.
وكان لدى عدوان مشروع متكامل للعمل على العديد من الشخصيات التراثية الاشكالية وتقديمها من خلال أعمال درامية، الأمر الذي يقربها من المتلقي العادي ويعمم المعرفة، وفي الوقت ذاته يثير نقاشاً مفيداً يسقط الكثير من الخرافات والأوهام حول هذه الشخصيات، وهنا يكمن اختلاف عدوان وتميزه عن الأعمال الدرامية التي عالجت الأحداث التاريخية بحرفية أو وفق الروايات النمطية التي تخدم في غالبية الأحيان أهدافاً سياسية من مصدر قوة. وهنا يكمن التثوير الكبير الذي أحدثه عدوان في الدراما السورية، إذ وضع سقفاً عالياً مشى تحته كتّاب آخرون، ووجد من المخرجين المتميزين من عيار حاتم علي من يذهب في هذا الاتجاه، وهذا أحد أسباب تطور الدراما السورية خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وتميزها على المستوى العربي، واحتلالها موقع الصدارة في العالم العربي.
وفي الترجمة، تجلى أيضاً مشروع عدوان، فهو لم يترجم حسب ذائقته الأدبية الرفيعة فقط، وإنما تقصد ترجمة أعمال ذات بعد ثقافي كوني وإنساني وسوية فنية عالية، وحين كان يعمل على ترجمة مذكرات الكاتب اليوناني نيكوس كازانتزاكي “تقرير إلى غريكو”، كتب عنه مقالات تمهيدية عديدة، وتحدث عنه في الإذاعات والتلفزيونات، وحين نزل إلى الأسواق سرعان ما نفدت الطبعة الأولى، ووصل هذا الكتاب إلى القراء كما لم يصل كتاب آخر مترجم. وهناك سبب إضافي يتعلق بلغة عدوان العربية القادرة على تطويع النصوص الأجنبية الصعبة وخصوصاً المفاهيمية.
ممدوح عدوان ليس كاتباً ومثقفا فحسب، بل كان مؤسسة متكاملة قائمة على العمل اليومي. يقرأ ويبحث ويكتب ويترجم ويدرّس، ويحب الحياة. كائن لم يترك من الوقت قسطاً لم يشغله ويحوله إلى فائدة ومتعة بسوية عالية. هو تجربة استثنائية لم يكن لها مثيل، ولم تتكرر.
*المدن