محمد عمران شاعر سوري من جيل الستينيات من القرن الماضي، وهي الفترة التي شكلت بداية التحول في الشعرية العربية، من التقليدية نحو الحداثة. وبالتالي، عاصر عمران، تلك المرحلة الإنتقالية والتأسيسية معا، ومن ثم كان له أن يتقاطع مع السجال الذي دار بين رواد قصيدتي التفعيلة والنثر ما بين بيروت ودمشق وبغداد. وفي كل هذه المحطات تشكل صوته الخاص ونصه الشعري ذو البعد الحداثي، الذي احتفظ بقيمته الفنية حتى اليوم. ورغم أنه رحل مبكرا، ولم يعمر كأبناء جيله الشعري السوري مثل علي الجندي، فايز خضور، وعلي كنعان، إلا أنه ترك بصمته الخاصة في الحركة الشعرية السورية، وإلى جانب علي الجندي، كان أحد ممثلي مسارها بكل ما عرفته من تحولات ومنعطفات وإشكاليات على مدى عمرها، وكان هذا الشاعران من بين أكثر شعراء سوريا تخففا من الإيديولوجيا، والأكثر إخلاصا للشعر.
وبرز محمد عمران في مطلع السبعينيات كأحد شعراء التفعيلة الغنائيين، الذين يتحلون بخفة استثنائية، ونفس أقرب إلى الرومانسية، وبقي على هذا المنوال بعد أن اصدر عدة دواوين، ومن ثم جرّب قصيدة النثر، على خلاف صديقه علي الجندي الذي ترك قصيدة النثر ورجع نحو التفعيلة، رغم أنه لم يتخذ موقفا ضد قصيدة النثر، وعاد إلى كتابتها في السنوات الأخيرة من حياته. ومن دون شك فإن خيار محمد عمران هذا له ثلاثة أسباب. الأول الصداقة التي قامت بينه وبين بعض شعراء ومنظري مجلة شعر، وخصوصا أدونيس الذي ربطته علاقة حميمة مع محمد عمران بعد مغادرته لبنان إلى سوريا، حينما اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الناقد كمال أبو ديب. ويتمثل السبب الثاني بالرغبة في التجريب، ويعود ذلك إلى أن عمران لم يكن منغلقا، بل منفتحا على كافة الأشكال، وهو مثل أغلب أبناء جيله بدأ عموديا لفترة قصيرة، ومن ثم تطور إلى التفعيلة، واستطاع أن يحجز لنفسه مكانا خاصا بين شعرائها المتميزين في الساحة الشعرية السورية، التي كانت تتمتع بتعدد كبير في الأصوات والتجارب. والسبب الثالث هو، السير في طريق الموجة الكبيرة للحداثة في الثمانينيات التي اكتسحت فيها قصيدة النثر المشهد، ولا سيما أنه شاعر عرف عنه نزوعه للخروج عن السائد والانغلاق على شكل واحد. وجرّب هذا العبور نحو الحداثة حين أشرف على الصفحات الثقافية في صحيفة الثورة السورية في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، وكانت الفترة الذهبية التي تجاوزت ما قبلها ولم يأت ما بعدها في الصحيفة، ولذلك شكلت تلك الفترة محطة مرجعية للثقافة السورية، في وقت كانت سوريا لم تدخل فعليا مرحلة القمع الممنهج، والتي بدأت مع التدخل السوري في لبنان، حينما استكملت الأجهزة السورية بناء نفسها، وباتت جاهزة لمواجهة المجتمع. وبدأت مرحلة من التدجين الثقافي، انتهت بتصحير الحياة الثقافية عن طريق مجموعة من الأجهزة والمؤسسات والأفراد.
ومثلما كان عمران جريئا في تحولاته بين النثر والتفعيلة، في الوقت الذي كانت فيه أوساط تقليدية وحتى تقدمية، تحسب قصيدة النثر من أفعال الخيانة وتخريب اللغة العربية والشعر العربي، فإنه فتح منبر صحيفة الثورة أمام الأصوات الجديدة وخصوصا الشابة، وأعطاها مساحة في الملحق الثقافي الأسبوعي، الذي أصبح خلال فترة وجيزة واحدة من المطبوعات الثقافية العربية المرموقة، ومن خلال ذلك المنبر ظهرت أسماء جديدة وتجارب مختلفة ومتميزة، والأهم من ذلك جرى كسر النمط السائد الذي كانت تمثله المؤسسات التقليدية، ومنها اتحاد الكتاب الذي كان يديره علي عقلة عرسان بعقلية وأجهزة أمنية، وكرس جهد المؤسسة وإمكاناتها لمحاربة التجريب والتجديد في الثقافة، ومحاصرة الأصوات الشابة التي كانت تجد متنفسها في لبنان من خلال الصحافة اللبنانية والفلسطينية، التي كانت تصدر عن مؤسسات منظمة التحرير مثل مجلات فلسطين الثورة والحرية والهدف، ومطبوعات اتحاد الكتاب والصحافيين الفلسطينين التي طبعت دواودين لأعلب الشعراء السوريين المعارضين مثل علي الجندي، ممدوح عدوان، سليم بركات..إلخ.
شِعر محمد عمران نجا من الخطابية والايديولوجيا، رغم أن تولى مسؤولية إدارة مؤسسات ثقافية رسمية، وبقي محتفظا بسوية فنية ونفس غنائي يذهب نحو الريف والطفولة والبحر، ولذلك أخذت منه قريته “الملاجة” الواقعة في مدينة طرطوس قسطا كبيرا من الشعر، وفي قصيدة شهيرة له “آخذك في ظلي أيتها السنديانة، احتضن صوتك أيها الجبل، أعمم اسمي على الطرقات، وجهي على المفارق، أزرع دمي على خلايا الملاجة”. وفي قصيدة أخرى “الملاجة وردة من حجارة وأقمار تتنفس الغبار والصمت، الرئة اليمنى أعشاش للكتب والمخطوطات، اليسرى ينابيع مقفلة ولا ثقوب للحنجرة”. ويمكن كتابة دراسات مطولة عن حضور المكان الخاص في شعر عمران، والذي ظل يتشكل في الطفولة والحب.
وأجد هنا من المفيد الإشارة إلى ملاحظات عديدة، الأولى وهي أن القراءة النقدية لشعر محمد عمران والجيل الستيني كانت هامشية، تعسفية، وميكانيكية في أغلب الأحيان، واشير هنا إلى موقف الشاعر الحداثي التقدمي شوقي بغدادي، الذي اعتبر هؤلاء يمثلون البورجوازية الصغيرة، ووصلوا إلى المنابر الثقافية مع وصولها إلى السلطة، وهذه النظرة إختزالية، رغم أن بغدادي غادرها لاحقا. والملاحظة الثانية هي أن محمد عمران حظي بقدر كبير من الأضواء والتسهيلات في النشر، ولكنه لم ينل قدرا من النقد شأنه شأن مجايليه ومن سبقهم وتلاهم، وهذا عطب كبير أصاب الثقافة السورية الحديثة التي لم تجد حركة نقدية تواكبها، فالنقد يلعب دورا أساسيا في الإضاء وتصويب المسار، وقول ما للتجربة وما عليها، وأظن أن السبب في عدم تبلور حركة نقدية سورية ترتقي إلى مستوى النصوص، يعود إلى سطوة الجو الثقافي الكابوسي والفقير، الذي نشأ في ظل الرقابة ومصادرة الحريات، ومحاربة التجديد. والملاحظة الثالثة تتمثل في النسيان والإهمال لتجربة الجيل الستيني السوري، وعلي الجندي ومحمد عمران، الذي أقامت عائلته مهرجانا شعريا في قريته باسم مهرجان السنديان، ولكنه توقف بفعل التطورات التي شهدتها سوريا في العقد الأخير، ويستحق عمران مع الجندي تكريما خاصا من خلال إعادة طبع أعمالهما وإقامة ورشة لدراسة منجزهما الشعري وكتاباتهه النثرية ذات النفس الخاص والمختلف.
أما الملاحظة الرابعة فهي، إن الجيل الستيني السوري في الحركة الشعرية العربية ذو مزاج مختلف، عن بقية بقية الأصوات لجهة الهم السياسي، وخصوصا بعد هزيمة العام 1967، ودخل بقوة في تداعيات هذا الحدث، وباستثناء الجيلين الفلسطيني والمصري، قلما نجد تنويعا وإسقاطا على النكسة من الجيل السوري الستيني في الحركة الشعرية العربية، ورغم إغراءات المنبرية والفجائعية التي قدمتها الهزيمة، فإن النص الشعري السوري بقي وفيا للشعرية، مع استثناءات ذهبت مع ريح المزاد العاطفي، ولكنها لم تحقق منجزا. وما يسجل هنا أن عمران كان على مسافة من الوليمة، التي كادت أن تدمر الثقافة عموما والشعر خصوصا.
في الختام، كان عمران موضوعيا وديموقراطيا في ما يتعلق بنشر المواد. المادة التي كان يراها تستحق النشر كان ينشرها بغض النظر عن ماهية الكاتب. هناك كتاب كانوا يشتمونه بشكل شخصي ويتهمونه بالبرجوازية، وينشر لهم وهو يعرف رأيهم به، طبعا بما يخص البرجوازية كانت عائلة عمران من الطبقة الوسطى. وحياتها بدمشق عبارة عن تنقل دائم في بيوت مستأجرة لوقت صار لديها بيت بطرطوس من بيوت الجمعيات السكنية التعاونية، وانتقلوا للعيش بطرطوس في بيت مساحتة 75 متراً، وبالتالي تعرض للظلم كتجربة شعرية وكشخص، ظلم جاء من كونه استلم اكتر من دورية ثقافية وانحسب عالنظام بدون اي استفادة.. بينما الذين كانوا يعتبرون معارضين من مجايليه كانوا فعلا ينتمون لطبقة البرجوازية الصغيرة او بأعلى درجات سلم الطبقة الوسطى، وكما اشرت هو وعلي الجندي اكثر مَن تعرضوا للظلم، واكثر من أخلص للشعر، وعلي الجندي مات فقيراً ومشرداً.
*المدن