لا يرتاح الكاتب والفنان من ألسنة وأقلام بعض الناس، حتى عندما يفارق هذه الدنيا ويرحل عنها. وهناك من يعين نفسه وصياً باسم الله والشعب والثورة، فيطارده حتى القبر، وينصب له محكمة، ينتدب نفسه فيها قاضياً متعدد الاختصاصات، يحاكم سلوكه ونتاجه ومواقفه السياسية. وقد شاعت هذه الحالة في الأعوام الأخيرة داخل الأوساط السورية، التي عرفت تضخماً في ظاهرة الناشطين، الذين تمضي مجموعة منهم قسطاً من وقتها على وسائل التواصل، تفتش في أخبار الآخرين، من أجل فبركة الشائعات وإطلاق الشتائم.
آخر الضحايا، وليس الأخير، هو الروائي السوري حيدر حيدر الذي رحل في الخامس من أيار الحالي. وحظيت وفاته بمتابعة ملحوظة في وسائل التواصل، ليس في الأوساط السورية فحسب، بل على مستوى العالم العربي، ورثاه كتّاب وصحافيون ومثقفون من مصر، المغرب، تونس، الجزائر، اليمن العراق، ولبنان. والملاحظ أن مصدر الاهتمام هو التأثير الذي تركه الكاتب بوصفه صاحب مشروع أدبي مهم، وأنه مقروء على مستوى العالم العربي، وهذا أمر مفاجئ، لأن حيدر ليس في عداد كتّاب العلاقات العامة، الذين يتحينون المناسبات كي يروجوا لأنفسهم، كما أن حظّه من الإعلام العربي شبه معدوم، وسبب ذلك أنه لم ينخرط في شلة ثقافية، وعاش على الدوام في الهامش، ولم يهتم او يقترب من الإعلام، الذي كان سهلاً عليه، لكنه تعفف عنه، وعاش بعيداً منه بقرار، وتفرغ للكتابة فقط، ولازم بيته في قريته البحرية “حصين البحر” بمدينة طرطوس منذ أن رجع الى سوريا العام 1984، بعدما أمضى أعواما في لبنان، عمل خلالها في الإعلام الفلسطيني، ودار “ابن رشد” للنشر، الى جانب صديقه سليمان صبح. وكان في وسعه خلال تلك الفترة أن يستفيد من الصحافة الثقافية اللبنانية التي كانت في حالة ازدهار، لكنه ظل بعيداً حتى على صعيد الصداقات التي بقيت ضيقة جداً.
مقابل الاهتمام والمرثيات والتقدير الذي حظي به الراحل، هناك خليط من صحافيين وناشطين سوريين، شنوا عليه هجمات، ووجه له البعض اتهامات من دون احترام لمنجزه ككاتب فارق الحياة. والنقطة الأولى التي أثارها عديدون، هي أنه ريفي ضد المدينة، واستشهد أصحاب هذا الرأي بمقاطع من بعض أعماله يتحدث فيها عن وصول ابناء الريف الى المدن. واعتبر هؤلاء أن الكاتب ينظّر للريف بطهرانية، ويحط من قدر المدينة ويعتبرها عاهرة، وهي هنا دمشق. وضرب هؤلاء أمثلة مما ورد في قصة “الفهد” التي حولها المخرج نبيل المالح إلى فيلم سينمائي عرف نجاحاً كبيراً، وهي تركز على مرحلة سوداء من تاريخ سورية، كان فيها الإقطاع يتحكم فيها بالقسم الأكبر من الأراضي والفلاحين العاملين فيها، الذين كانوا بمثابة عبيد للإقطاعي. ولم يقف البعض عند حيدر، بل أضاف له حنا مينه في روايته “الياطر”، ونبيل سليمان، واعتبرهم كتّاباً ريفيين، وهذا ابتكار نقدي جديد، لم يسبق أن توصل إليه أحد.
حيدر ضد الثورة السورية وطائفي.. هذا الحكم أطلقه بعض النشطاء عليه من منطلق أنه لم يعلن عن موقف مؤيد للثورة السورية. وهذا حكم غير دقيق ومجحف واختزالي بحق كاتب لم يكن في صف النظام أبداً، وعاش فترة من حياته منفياً في الجزائر وبيروت. ولو أنه هادن النظام، مثل غالبية المثقفين السوريين الذين كانوا يعيشون داخل البلد، لكان حصل على منصب مهم في إحدى المؤسسات الثقافية، على غرار أصدقاء له كانوا في صف اليسار البكداشي، وأنا أتحدث عن الأمر من واقع معرفة ومعايشة لحيدر، الذي عملت معه في الاعلام الفلسطيني في بيروت، وكنت على صداقة معه ومتابعة للكثير من تفاصيله. ولم يكن إلا رجلاً نزيهاً ومعارضاً للنظام حتى أنه رفض عروضاً كثيرة، وفضل البقاء في بيروت والمغادرة إلى قبرص حينما بدأت تظهر مؤشرات الاجتياح الإسرائيلي للبنان في حزيران 1982.
الحكم على حيدر بأنه لم يكن مع الثورة يعبّر عن جهل بتاريخه ومواقفه، ويتجاوز ذلك إلى فرض معادلة لمحاكمة مواقف الكتاب والفنانين من الثورة. ويبدو في نظر منتقدي موقف حيدر أن المؤيد للثورة هو فقط الذي حمل حقيبته وغادر سوريا، وأعلن موقفاً من النظام، واستمر في الحياة في الخارج، أما كل من قرر البقاء، فهو مع النظام، يتساوى فيهم الشبيح مع الصامت.
هناك من استغل المناسبة ليعتبر حيدر، ضد الدين، انطلاقاً من الضجة التي اثارها ضده في مصر العام 1999 مقال تحريضي اعتبر روايته “وليمة لأعشاب البحر” مسيئة للإسلام، ووصلتْ القضية إلى مجلس الشعب المصري، كما تم إيقاف كل المسؤولين عن سلسلة “آفاق” التي اعادت طبع الرواية في مصر، مع مطالبة بعزل وزير الثقافة المصري آنذاك الفنان فاروق حسني. وإذا أخذنا بهذا المقياس، فإنه يتعين شطب جزء كبير من الأدب العربي، ويجب أن يرمى في سلة المهملات كل ما اقترب من الدين، وهذا أمر يمكن أن ينسحب على كل التراث.
الأمر الذي يستحق الرثاء هو محاولة التقليل من أهمية منجز حيدر حيدر، وشيوع فكرة أنه كتب رواية “وليمة لأعشاب البحر” بلُغة ذات حمولة شعرية عالية، وهذا حكم صحيح، ولا ينطبق على هذه الرواية فقط، بل ينسحب على أسلوب هذا الكاتب، الذي يعتبر الشعر في النص الروائي أحد مكونات البناء الملحمي. وهو ما منحه نكهة خاصة، وميّزه عن الآخرين.
أحد الأسباب من وراء التعامل مع الكتابة والفن بخفة وقسرية، هو غياب النقد الفعلي، الذي يتعامل مع العمل الإبداعي. ويمكن أن نعد منجز حيدر حيدر، أحد الأمثلة المثالية لهذا التقصير الفادح. ويترافق هذا مع استشراء الفوضى، وتراجع مكانة المرجعيات بما فيها الأخلاقية، وهذا خوّل للبعض اعتبار أنفسهم نقاداً وقضاة يحاكمون الكتّاب والفنانين، ويصدرون أحكاماً تعسفية غير قابلة للنقض او حتى للنقاش. وهذه كارثة لن يقف ضررها عند حدود الأدب والفن.
*المدن