بشير البكر: قبر ناظم حكمت

0

لا يجد زائر تركيا ضريحاً للشاعر التركي ناظم حكمت لأن الشاعر توفي ودفن في موسكو العام 1963، ولم يتم نقله جثمانه إلى بلاده، رغم أنه استعاد جنسيته العام 2009 بقرار من حكومة حزب العدالة والتنمية، التي كان على رأسها الحكومة حينذاك رئيس الدولة الحالي رجب طيب أردوغان الذي لديه اهتمام خاص وملحوظ بالشعر، وكثيراً ما استشهد بأبيات من الشعر في مناسبات سياسية، وأثار ذلك ردود أفعال سياسية، كان آخرها ما أدى إلى أزمة مع إيران منذ أشهر بسبب أذربيجان.

وأثار قرار اعادة جنسية ناظم حكمت، ارتياحاً في الأوساط الثقافية المحلية والخارجية، لأنه تصحيح لخطأ تاريخي، بعدما سُحبت منه بقرار حكومي مطلع الخمسينيات، على أثر حكم على الشاعر بالنفي، ما دفعه إلى مغادرة تركيا سراً، متسللاً عبر بلغاريا ورومانيا إلى روسيا ليبلغ موسكو، ويبدأ حياة جديدة حافلة بالإنتاج الشعري والمسرحي، وتزوج خلالها من الروسية فيرا تولياكوفا التي أصدرت منذ أعوام كتاباً من أكثر من ألف صفحة، تحدثت فيه عن الشاعر الكوني. وهذه السيدة ما زالت على قيد الحياة، إذ كانت شابة ولم تتجاوز الثلاثين حين تزوجها ناظم حكمت الذي توفي العام 1963 وهو ابن 61 عاماً بسبب سكتة قلبية، إذ سقط أثناء خروجه من بيته في الصباح من أجل البحث عن الرسائل في صندوق البريد، وفارق الحياة على الفور. وصدر الكتاب (الحديث الأخير مع ناظم) عن دار المدى، بترجمة الناقد السينمائي الأردني عدنان مدانات، وهو عبارة عن حديث متخيل. تقول تولياكوفا: “الكتاب المطروح بين أيديكم ليس ذكريات أدبية؛ بل حديثي الأخير مع ناظم. بدأ الحديث بعد مرور أسبوعين أو ثلاثة على رحيله؛ لأن التواصل -صدقوني- بين الناس المقربين، أحدهم مع الآخر، أمر لا يمكن لأي شيء أن يحول دونه”. وتشير في بداية الكتاب إلى أنها على مدى عامين، من 1963 إلى 1965، ليلة إثر ليلة، تواصل هذا الحديث بسلاسة. النتيجة: ألف صفحة، “ناظم كما عرفته. وهذا هو الأهم الآن”.

ناظم حكمت مشهور عالمياً لأكثر من سبب، يبقى أهمها الضجة الاعلامية التي أثارتها حوله الدعاية الشيوعية في الخمسينيات، أثناء سجنه الطويل في تركيا بسبب مواقفه السياسية المعارضة، ومن بعدها هروبه إلى الاتحاد السوفياتي في عملية تسلل بوليسية. وسُلِطت الاضواء عليه مثل الكثيرين من كتّاب تلك المرحلة الذين شاركوا في الاستقطابات السياسية والحروب الثقافية بين الاتحاد السوفياتي والغرب الذي سخّر هذا السلاح ضد موسكو، وتطوع كتّاب كبار مثل بابلو نيرودا ولويس أراغون وناظم حكمت للدفاع عن الاتحاد السوفياتي في مرحلة تاريخية حرجة هي فترة حكم ستالين التي دامت ما بين 1922 و1952. واتسمت بمضايقات ونفي وإعدامات للمثقفين في الاتحاد السوفياتي.

وحين قررت الحكومة التركية إعادة الجنسية إلى الشاعر، قال جميل جيجك، نائب رئيس الوزراء والمتحدث باسم الحكومة، والذي أعلن عن الاجراء، إن الأمر متروك لعائلة حكمت أن تقرر ما إذا كان ينبغي إحضار رفاته الى تركيا من موسكو، لكن لم يحصل شيء على هذا الصعيد، وبقي جثمان الشاعر في دير نوفوديفيتشي الذي تعرض لحريق ضخم في آذار/مارس 2016 وكاد أن يأتي على القبر. وإلى الآن لم تعلن العائلة عن أي خطوة، لكن الأمر يقع على عاتق الدولة التركية، وهو في حقيقة الأمر يتجاوز البعد العائلي لأنه ذو بعد ثقافي قبل كل شيء بعدما أسقطت الحكومة العائقين السياسي والقانوني. ومجرد أن قررت الحكومة كسر القرار السابق، وإعادة الجنسية للشاعر، فإن ذلك يعني أنها أسقطت الحكم السياسي وهذا قرار شجاع. والباقي هو أن تقدم على خطوة استرداد جثمان شاعر يمثل جزءاً أساسياً من ذاكرة تركيا وثقافتها، وأحد كبار شعراء القرن العشرين الذين أثروا في الشعر العالمي ومنه العربي، وهناك شعراء كبار اعترفوا بأنهم يدينون له، في حين أن أعماله ترجمت إلى حوالى خمسين لغة، من بينها العربية التي يحضر فيها الشاعر بقوة، والعديد من قصائده متداول بكثرة، ومنها “أجمل الأيام هي تلك التي لم تأت بعد”.
ظل الشاعر ينتظر الأيام الأجمل حتى اللحظة الأخيرة، وكل الذين قرأوه ينتظرون أيامهم الجميلة التي لم تأت بعد.

*المدن