“في البدء كانت الحرب” كتاب جديد حافل بالخلاصات من الحرب الروسية على أوكرانيا، من تأليف البروفيسور آلان بوير، الذي يُعدّ أحد الاستراتيجيين الفرنسيين المقربين من دوائر صناعة القرار، بالإضافة إلى عمله كأستاذ في المعهد الوطني للفنون والحرف في باريس، وكمدير علمي لقسم الأمن والدفاع والاستخبارات، وعلم الجريمة والتهديدات الإلكترونية والأزمات. وفي آخر اصدار له عن دار “فايار” في باريس، يلقي الضوء على الواقع الذي يعيشه عالم اليوم في ظل النزاعات والحروب. وينبه الإنسانية، التي يبدو أن مصيرها الأبدي “يتأرجح الحياة بين الحرب والسلام”، أن تدرك ذلك، ونتيجة لذلك، يتوجب عليها معرفة كيفية التعامل مع ما هو آت.
لذا، يبدأ الكاتب بتوجيه دعوة “لفهم العالم كما هو بدلاً من تجاهله، لفهمه بدلاً من الحلم به، والعمل عليه بدلاً من استهلاكه”. ويستدعي ذلك، التحسب للحروب المقبلة، والتشبث بالسلام الآخذ في الأفول، ما يرتب على الأوروبيين أن يجتهدوا في صنع التاريخ حتى لا يلتهمهم. وطالما أن التاريخ مستمر، عليهم أن يقبلوا ذلك لأن أي خط حياة قد يتحول يومًا ما إلى خط جبهة. ومن هنا تبدو قوية فرضية أن الإنسانية محكوم عليها بالعيش إلى الأبد بين النزاعات التي تتخللها فواصل سلمية. لأنه، منذ الأزل، ترافق بناء المجتمعات البشرية متزايدة التعقيد، بحروب قبلية، أو محلية، أو قارّية، أو عالمية. وما زال قلب العالم ينبض على إيقاع هذه الصراعات التي تنتزع باستمرار التقدّم الجديد، من الإبداع البشري، وتدمّر بالقدر الذي نبني، وتقتل بقدر ما نعمل من أجل الدفاع عن الحياة ونصنع آمنًا، وتقهر بقدر ما يولد من أمل.
تحتل الحرب الروسية الراهنة على أوكرانيا، مساحة مركزية في الكتاب، ويصف بوير لحظة البداية، عندما حشدت روسيا، في 24 فبراير 2022، قواتها من دون حتى تمويهها، وقامت بمناورة كما لو أنها في استعراض استمر لأسابيع، ثم غزت أوكرانيا، ما فاجأ الغرب وحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، رغم أن العمل جرى الحديث عنه منذ نهاية التسعينيات. وكانت هذه المفاجأة بسبب الافتراض التعسفي الذي كانت أوروبا تعيش في ظله بأنها دفعت بقوة فاتورة الحرب لقرون، وتخلّصت منها تمامًا ونهائيًا. قد تكون هناك بعض النزاعات هنا أو هناك، لكنها ستبقى من مرتبة الانهيار الداخلي لسيادة راسخة بشكل سيئ، أو من الانبعاث البربري أو العشائري أو الديني، والانفجارات البركانية في المناطق التي أعيدت تسميتها “براميل البارود”. الأحداث يمكن أن تحدث فقط على الحدود الأبعد، والأقل وضوحًا للقارة القديمة.
ويسخر الكاتب من الإيمان في العصر الجديد من أن السلام العالمي لا يتزعزع، إلى حد بدا فيه الصراع المسلح بين دولتين ذات سيادة على الأراضي الأوروبية، وكأنه غير واقعي وقديم. كانت أوروبا في سلام طالما أن الأرض تدور حول الشمس. فقط عدد قليل من الجنود يمكن أن يشكّوا في ذلك، بدافع من مصلحة الشركات، وبعض الجيوسياسيين. و”ما لم نكن نتخيله، اعتبرنا أنه مستحيل”، وحتى أكثر البراهين الملموسة، لم يكن قادرًا على زعزعة الإيمان بالسلام العالمي، حيث الحياة اليومية للمستهلكين الغربيين.
ويتوقف بوير عند محطة نهاية الحرب العالمية الثانية العام 1945، بوصفها لحظة مهمة في التاريخ الإنساني، بعدما تعلمت الولايات المتحدة الكثير من أخطاء معاهدة فرساي التي أسدلت الستار على الحرب العالمية الأولى، واجتهدت لتكون مهندسة نظام عالمي جديد أكثر أمانًا، متحررًا من التوتر بين حلم السلام العالمي واحتمال نشوب حرب عالمية. وبهذه الروحية، نشأت منظمة الأمم المتحدة، انعكاسًا لعلاقات القوة في ذلك الوقت، التي جسدها “الفائزون” الخمسة في الحرب العالمية الثانية، أصحاب حق النقض في مجلس الأمن، الوحيدون المخوّلون بتفويض عمليات حفظ السلام أو إنفاذ السلام، ورأت هذه المنظمة نفسها، مع استثناء واحد، مع حرب كوريا في العام 1950، مشلولة منهجياً.
فقط الدخول إلى العصر الذري جعل من الممكن تحييد المبارزة على قمة القوتين العظميين، بما أنه، وفقًا لصيغة ريموند آرون، “كانت الحرب غير محتملة والسلام مستحيل”، ثم كان يجب ابتكار طرائق أخرى من أجل تحويل الصراع. ومنذ ذلك الحين تضاعفت النزاعات غير المتكافئة وخلف الحرب الباردة (وهو تعبير صاغه جورج أورويل العام 1945)، وقفت “الحروب الساخنة” والصراعات بالوكالة و”الوكلاء”. وبالنسبة للغربيين، انتهت الأعوام الأربعون من “السلام المسلح” بتأليه سقوط جدار برلين، الذي كان بمثابة أغنية بجعة سوداء، أكثر من كونها أغنية سعيدة بالحرب الباردة، وأعمت الولايات المتحدة عينيها عن ارتياحها للتخلص النهائي من خصمها الأحمر، وآمنت بالوعد بانتصار الليبرالية الاقتصادية، وتحررت من وصاية العقيدة السياسية. وبذلك كانت نهاية التاريخ إعلاناً ذاتياً، والألفية مضللة لم تشهد مهزومين.
والمثير للدهشة أن هناك من كان يعتقد أن الحرب قد اختفت، لكن الإنسانية كانت هي من نام. لقد رأت أوروبا نفسها تنعم بشيخوختها بسلام، بينما أدركت الولايات المتحدة أخيرًا وإلى ما لا نهاية هذا “المصير الواضح” الذي يقودها إلى التبشير إلى أطراف الكوكب بالبشارة السارة لنجاحها. وفي المحصلة استيقظ الأوروبيون فجأة على الحقائق الوحشية للعالم، وهم يتساءلون عما إذا كان ما زال بإمكانهم بناء قوة أوروبية على سطح سوقهم الاقتصادي الكبير، بينما يعلم الجميع أنّ الغد سيكون أصعب من الأمس، لإنقاذ السلام الآخذ في الانحسار. وعلى العكس “لم يعد وقت السلام العالمي قريبًا، علينا أن نتفق على الاستعداد للحرب المقبلة”.
ويقول بوير إن الصوت الوحيد الذي تم الاستماع اليه هو صوت أبطال “العولمة السعيدة”، الذين اختاروا الاعتقاد بأن سعادتهم تتماشى مع العالم، والآن بعدما أخذ وهم السعادة بقيام حضارة عالمية في الانهيار، وبعدما أصبحت الحرب في كل مكان تتعاقب مع السلام في النهضة الدموية للتاريخ، فقد حان الوقت لاكتشاف، مع ليونار كوهين، أن هناك حربًا، وها هي وجوهها. في البداية كانت الحرب. ومثلما كانت الحرب العالمية الأولى بمثابة نهاية لحلم الفلاسفة الأوروبيين، وضعت الثانية حداً للحلم الأميركي بتحويل العالم القديم إلى وصفات جديدة للسعادة والنصر. كان الأمر كما لو أن الحرب العالمية ستكون درساً لحلم السلام العالمي، مثل تقسيم شعوب بابل في سفر التكوين.
يتوقف بوير أمام نبوءة مستشار الأمن القومي الأميركي، زبيغنيو بريجنسكي، منذ زمن بعيد بمستقبل اوكرانيا، حين قال عنها: انها أكثر الجوائز التي تطمح إليها روسيا. فهي دولة حيويّة لروسيا. وروسيا مع أوكرانيا إمبراطوريّة خطيرة استراتيجيّاً. وروسيا من دون أوكرانيا، هي دولة عاديّة. وحذر في حينه، البيت الأبيض، من محاولات إذلال روسيا، ونبه أيضاً إلى خطورة تطور العلاقات العسكرية بين حلف الناتو وأوكرانيا، واعترض على نشر أسلحة الناتو في أوكرانيا، مؤكداً أن أي مبادرة لضم أوكرانيا للحلف ستؤدي حتماً لردود أفعال روسية غير محسوبة العواقب. لكن أميركا تجاهلت تحذيراته بمرور الوقت، وسارعت لضم عدد من الجمهوريات السوفياتية السابقة إلى الحلف، حتى بلغ عدد الدول الأعضاء 30 دولة، واقترب الحلف بقواعده الحربية إلى الحدود الروسية المتاخمة لإستونيا ولاتفيا وليتوانيا وبولندا، ثم تحولت انظاره نحو الحدود الاوكرانية مع روسيا.
ويخلص بوير إلى أنه غالبًا ما يقال إن البشر يتمكنون من الاعتياد على أصوات المدافع، عندما تصبح متكررة جدًا وتستمر. تمكن سكان لندن من النوم أثناء الغارات، وآخرون في الخنادق. لكن بعيداً من الخطوط الأمامية، دائمًا ما يتم احتساب مرونة الأمة. في روسيا، وأوكرانيا، كما في فرنسا. وبعيداً من الحرب، فإن “الأزمة الاجتماعية التي تمر بها بلادنا” لها تأثير غير متوقع، بشكل متقطع، لإخفاء التمزقات الأخرى التي تزعج العالم: بيئية، وديموغرافية، وصحية، ومالية، وإجرامية، وإرهابية… لقد اعتدنا على أزمة تلو الأخرى، مع لحظة من الراحة بينهما، قبل الانغماس مرة أخرى في الإدارة المنظمة إلى حد ما، لعواقب القرارات المتخذة بعد سقوط جدار برلين.
*المدن