بشير البكر: فايز خضور الشاعر الممتنع

0

فايز خضور شاعر من جيل ما بعد رواد القصيدة الحديثة، الذين خرجوا عن الشكل العمودي، واتجهوا إلى قصيدة التفعيلة، وكان أكثرهم تأثيرا بدر شاكر السياب. ولد في القامشلي العام 1942، وتوفي في دمشق في التاسع من أيار العام 2021 ، قبل أن يبلغ عتبة الثمانين، تاركا رصيدا شعريا يتجاوز عشرين ديوانا. والملاحظ أن صدى أعماله التي صدرت في العقدين الأخيرين في حياته لم يكن بذات المستوى الذي عرفته البدايات، ويعود السبب إلى اختلاف علاقته بالكتابة والموقف السياسي، الذي ظهر تأثيره على نحو صريح وضار، بينما كان في كل عمل يخطو خطوة إضافية على صعيد تمتين بناء القصيدة وتجديد اللغة وقوة الإيقاع، وارتياد آفاق رمزية من خلال التعامل مع الموروث والأسطورة، وهو ما يشكل أحد أهم عناصر قوة قصيدة خضور.

شاعر ذو صوت خاص من بين أبناء جيله. تأثر مثلهم جميعا في البدايات الأولى، وكان عليه أن يعبر الممر الإجباري للحداثة الذي وضع أساسه الرواد، وفي الطليعة السياب، ولكنه سرعان ما وجد طريقه الخاص، وبرز كمجدد مختلف هاجسه الابتعاد عن منجز الرواد وخلال زمن قصير صار له عالمه الخاص، وهو بذلك يشبه إلى حد كبير محمد الماغوط. وتتقاطع بدايات خضور مع الكثير من الشعراء السوريين، والتي كانت من بيروت، وبالعمل في الصحافة، وكان وضع خضور مثل بقية رفاقه الكتاب الذين فروا إلى لبنان، بسبب الملاحقات التي تعرض لها المنتسبون إلى الحزب القومي السوري، الذي تعرض لحملات أمنية واسعة في سوريا في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن الماضي. وخلال وجوده في بيروت اقترب من جماعة مجلة “شعر”، وتردد برفقة محمد الماغوط ،ابن مدينته سلمية، إلى الندوة الأسبوعية للمجلة في منزل الشاعر يوسف الخال برأس بيروت. وتعرَّف على عدد غير قليل من الشعراء كالسياب، أدونيس، فؤاد رفقه وآخرين، ولكنه سرعان ما ابتعد عن مجموعة شعر التي كان تجمع ما بينها قصيدة النثر، في حين أن خضور كان ضد هذه القصيدة إلى حد إعلان الحرب عليها “بوصفها تجربة هجينة ومستوردة”، فالحداثة الشعرية بالنسبة له “لا يمكن لها أن تنبت في أرضٍ ليست لها”. وتحفظ على تسمية وتوصيف قصيدة النثر، وقد ذكر مرة أنه لم يقرأ شاعراً من شعراء الحداثة قراءة كاملة، كما أنه يعتبر أن ترجمة الشعر خيانة عظمى له، بسبب خصوصية اللغة وإيحاءات الشاعر، التي لا يمكن أن تنقل بالترجمة. وفي تلك الأثناء واصل نشر قصائده في الصحف اللبنانية والسورية والفلسطينية، وأصدر ديوانه الأول 1966 بعنوان “الظل وحارس المقبرة”، الذي تطل منه شخصية الشاعر المجدد، وإن كان بدا تأثره  ظاهراً بقوة بالشاعرين السياب وخليل حاوي، وهذا أمر طبيعي في وقت لم تخلع قصيدة التفعيلة ثياب الحداد بعد عامين على رحيل السياب، ولاتزال تتلمس طريقها ضمن مسارات وروافد مختلفة من العراق، سوريا، لبنان، فلسطين، ومصر.

مهمة جيل خضور كانت صعبة، نحو شق طريق خاص، غير الذي مشى عليه رواد التفعيلة الأوائل، ولا يشبه أحد من مجايلي فايز خضور في سوريا سوى الشاعر والكاتب المسرحي ممدوح عدوان (مواليد عام 1941)، الذي يشترك معه في هم التجديد والبحث عن لغة خاصة، ولكن كلا منهما سار في طريق مختلف، وكان خضور أقرب إلى أجواء جماعة مجلة شعر ذات التوجه السوري على مستوى الأساطير والرموز، في حين أن عدوان كان من تيار اليسار الذي تشكل داخل أحزاب قومية عربية. وهناك إجماع وسط النقاد والمتابعين لخط تطور خضور أنه اشتق لنفسه قراءة ذاتية صنعت منه صوتا متفردا في بداية السبعينيات مع ديوان “صهيل الرياح الخرساء” العام 1970، وبعده صدرت له عدة أعمال “أمطار في حريق المدينة” العام 1973، و”كتاب الانتظار” العام 1974، وبرز الشاعر في هذه الأعمال لغويا ماهرا صاحب لغة طازجة وجديدة ومتمردة وذات بعد ميثيولوجي وتمتاز بالتوتر العالي.

وبرزت فرادة خضور أكثر ضمن شعراء التفعلية، وبدءا من “كتاب الانتظار” تخلص من تأثيرات الرواد كليا، على غرار الشاعر المصري أمل دنقل في ديوان “العهد الآتي” الذي خرج فيه من جو القصيدة الحديثة في مصر التي أفضل من كان يمثلها الشاعر صلاح عبد الصبور، إلى رؤية أوسع للكتابة الشعرية. ومن عمله “ويبدأ طقس المقابر” في العام 1977 بدا خضور في طليعة كتاب التفعيلة في سوريا ولبنان، وصار له قاموسه الخاص وصوره الخاصة، واسقاطاته الميثولوجية والأسطورية وهمومه الوجودية، ما كشف عن غنائية وفرادة عصية على التقليد.

هو الشاعر الذي كان مجراه العام يوحي بأنه يتسع بعد كل عمل ويذهب نحو ضفاف بعيدة يسجل له أنه من بين قلة من الشعراء السوريين الذي ظلت قصيدته في تطور دائم، ولم تعرف المراوحة في المكان، ولم يظهر على هذا الصوت المتفرد التعب أو تكرار الذات، بل بقيت نبرته عالية وذات إيقاع متجدد وحيوي. وتبقى الحالة السوداوية التي أصابت نتاج الشاعر لغزا لا يفسره سوى حالة نفسية بقي الشاعر يعاند في الافصاح عنها، وتفضح بعضها عناوين بعض مجموعاته “ويبدأ طقس المقابر”، “غبار الجليد”، “أمطار في حريق المدينة”، و”قدّاس الهلاك”، وحمل معه سره، وهو يغادر بعد أن حفر اسمه بقوة بين أصحاب المشاريع الشعرية المتميزة. وحين نعود لنقرأ هذا الشاعر فإننا نجد له منجزا غنيا لم يحققه سرب من الشعراء الذين جايلوه أو ساروا على نفس خطاه، ولكن بعض أعماله الأخيرة نزلت إلى مستوى اللغة السطحية “الركمجة” و”الكجمجة”، وتلك الدارجة في قاموس الشتائم (يا هذا البدوي المستنسخ من قبح الأوصاف!)، والتي ماتت مع شعر مظفر النواب بالفحصى في السبعينيات. وفي ديوانه “هجائيات هادئة” الذي صدر العام 2015 نعثر على نسخة أخرى من فايز خضور ذلك نعاه الحزب القومي السوري بـ”الشاعر القومي الكبير”، و” الرفيق فايز خضور هو ليس حالة استثناء في تاريخ النهضة السورية القومية الاجتماعية، إلا أنه تميّز عن سواه بالحضور الدائم عاملاً فاعلاً حتى الرمق الأخير، يحيك الكلمات بين واقع الحياة والغربة القسريّة على أبناء هذه الأمة في صراع الوجود”، وأقام له الحزب احتفالا تأبينيا كبيرا في مدينة السلمية. ويبقى أن خضور بقي في الحزب الذي اجتذب في الخمسينيات والستينيات عددا كبيرا من الكتاب والمثقفين والفنانين (ادونيس، هشام شرابي، حليم بركات، محمد الماغوط، نذير العظمة، كمال خير بك) وظل من الكتاب القلائل الذين يجاهرون بعلاقتهم بالحزب على عكس آخرين استمروا في عضويتة، ولكنهم يتكتمون على ذلك. ودخل السجن لفترة قصيرة  في النصف الأول من السبعينيات بسبب شتيمة للأسد في جلسة نقاش، وخرج منه ليرتبط بالمؤسسة الرسمية لاتحاد الكتاب العرب، ويشرف على تحرير مطبوعاته “الأسبوع الأدبي” و”الموقف الأدبي” وغيرهما، وعلى النشر كقارئ مخطوطات. وصمت خلال فترة الثورة عن اي موقف من القتل، بل ونال جائزة الدولة التقديرية العام 2012 في وقت كان النظام يشن حربا ضد الشعب السوري، ولم يسجل له في كل تاريخه أي موقف سياسي من الحريات والقمع الذي تعرض له الكتاب والمثقفين طيلة حكم الأسدين.

*المدن