بشير البكر: عبد الرحمن منيف.. راوي النفط والصحراء والسجن

0

تعرفت على عبد الرحمن منيف في أول عمل روائي له صدر العام 1973 “الأشجار واغتيال مرزوق”، وذلك في بداية القراءات التي تنشد الجديد، بعيداً من المكرس في سوريا التي شرعت في التحول إلى دولة بوليسية على المستوى الثقافي. وكان جيلنا نافراً من كل ما هو رسمي يبحث عن المختلف، وما يقدم لغة وتجربة تفتح أمامه آفاق بعد هزيمة حزيران وفشل حرب تشرين وضرب المقاومة الفلسطينية في الأردن. الأدب هو أول من ردّ على ذلك، ومنيف أحد الرواد من خلال سلسة من الروايات كانت “الأشجار واغتيال مرزوق” البداية، وبعدها جاءت روايتا “شرق المتوسط” و”حين تركنا الجسر”، لتطرحا موضوعَي السجن والحرب مع إسرائيل من زاوية سياسية، ووفق رؤية جديدة.

والتقيت منيف في باريس، في بيت الفنان يوسف عبدلكي وزوجته السينمائية هالا العبدالله، في تشرين الأول 1985، وكان قد مضت على إقامته في العاصمة الفرنسية حوالى أربعة أعوام، إذ سكن فيها بعدما غادر بغداد العام 1981، بعد عام على اندلاع الحرب العراقية الإيرانية. وفي اللقاء في منزل هالة ويوسف، بدا منيف مهتماً بتفاصيل عن محافظة الحسكة التي يتحدر منها، وكانت تربطه علاقة خاصة بها، مردّها أنها تحتوي على منابع النفط في سوريا، وهي في الوقت ذاته أرض القبائل العربية التي يمتد بعضها في الجذور والقرابات إلى العراق والجزيرة العربية. وكان يريد أن يشكل صورة وافية عن مسائل عديدة.

الأولى هي، مدى تأثير النفط في منطقة الجزيرة السورية التي تتشكل من مساحات صحراوية وأخرى مروية. والثانية هي، مدى تأثير حكم حزب البعث في البنية القبلية في الجزيرة في ظل قانون الاصلاح الزراعي الذي بدأ تطبيقه على أصحاب الملكيات الكبيرة بالقوة في نهاية الستينيات. وأدهشتني معرفة منيف بتاريخ المنطقة وحاضرها، وسألني عن شخصيات وزعامات عشائرية محددة مثل دهام الهادي شيخ شمر، عبد العزيز المسلط شيخ الجبور، السيد حمود العلي الخليف مشيخة عيال الشيخ عيسى. والمسألة الثالثة هي، مدى تأثير المكوّن المسيحي في منطقة الجزيرة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، وطرح أسئلة محددة عن عائلات مسيحية لعبت دوراً كبيراً في تحديث منطقة الجزيرة مثل عائلتي أصفر ونجار اللتين أدخلتا التكنولوجيا إلى الزراعة في الجزيرة خلال الخمسينيات، لكن التأميم والاصلاح الزراعي الذي بدأ خلال فترة الوحدة مع مصر، وعرف تطبيقه التعسفي في فترة حكم البعث، أجهض هذه التجربة التي لم تتكرر.

وبعد غذاء “الفريكة” التي كان يحبها منيف، في اكتوبر باريس في منزل يوسف وهالة، صرت ألتقيه بين حين وآخر، وكان يريد التوسع أكثر في معرفة تفاصيل تخص الجزيرة السورية، وفي مقاهي الحي اللاتيني الجانبية كان غليونه يبعث رائحة تثير نظرات رواد الأمكنة نحونا في حين لم تكن موضة منع التدخين قد بدأت بعد. ومع ذلك عندما كان يحس بالحرج، كان يطوي الغليون ويعود للحديث براحة، وأحياناً نذهب في جولات على الأقدام على ضفاف نهر السين، وفي إحدى المرات التقينا صديقاً مشتركاً هو المغربي الموريتاني الباهي محمد، فتغير الإيقاع كلياً.

مع الباهي، انكسرت الحدود بيننا، وصارت العلاقة أكثر بساطة ودفئاً، وأخذنا نتواعد على عشاء اسبوعي في أحد مطاعم باريس التي يعرفها الباهي بفطرة المحب للطعام، وأخذنا إلى أماكن لا يعرفها حتى أهل باريس أنفسهم، وساهم ذلك في تعريفنا، عبد الرحمن وأنا، على وجوه أخرى للمدينة، ومن هنا تفتقت فكرة مقال الباهي الأسبوعي في مجلة “اليوم السابع” تحت عنوان “اكتشاف باريس” الذي دام فترة طويلة وصدر في كتاب يشكل أغنى دليل ثقافي بالعربية عن باريس.

وكانت النقاشات غنية بيننا نحن الثلاثة، يديرها منيف، وتتركز حول سوريا والعراق في صورة أساسية، ورغم أني من جيل آخر ومرحلة أخرى، فقد جاريتُ هذه التجربة وعشتها، واستفدتُ كثيراً من نقاشات ومعلومات منيف والباهي. وكلاهما شارك في تجربة حزب البعث في فترة صعوده في سوريا والعراق، من موقع متقدم في القيادة القومية، لفترة لم تدم طويلاً، وانسحبا لأسباب تتعلق بالتحولات التي شهدها الحزب بعد سيطرة التيار العسكري في سوريا. وستحضر أسماء كثيرة في تلك اللقاءات من مختلف البلدان العربية، شارك أصحابها في تلك التجربة، من مثقفين وكتّاب وسياسيين وصحافيين، خصوصاً من سوريا والعراق ولبنان وفلسطين، من بعثيين استمروا في الحزب وصاروا حكّاماً وسجانين، وبعثيين غادروا الحزب وبعضهم دفع الثمن ودخل السجن بقرار من الرفاق القدامى.

وفي هذا الوقت حصلت مذبحة عدن في 13 كانون الثاني 1986. ووجدت منيف منشغلاً بها ومهتماً بمتابعة تفاصيلها، وكنت، إلى جانب الصديق فواز طرابلسي، مصدر أخبار أساسي. واكتشفت بعد زمن بعيد، حين التقيت منيف في عدن في آذار 1990، سبب اهتمامه، ذلك انه على علاقة طيبة بتجربة الجنوب اليمني، وكان يعول عليها أن تكون مختلفة في الجزيرة العربية، ولهذا كان يحمل جواز سفر اليمن الجنوبي مثل كثير من المنشقين عن أنظمة القمع في المنطقة. وفي ذلك اللقاء حضرنا ندوة عن الديموقراطية، وكنا مجموعة من الكتّاب والصحافيين العرب، منيف، فواز طرابلسي، جوزيف سماحة، ادونيس، يحيى يخلف، فالح عبد الجبار، عصام الخفاجي ..الخ. وفي الطرف اليمَني، سالم بكير من اوائل خريجي الجامعة الأميركية في بيروت، شاعر ومثقف، ابو بكر السقاف المفكر والكاتب، الاقتصادي خالد الحريري، الصحافي والكاتب عبد الباري طاهر، الكاتب عمر الجاوي، الكاتب سعيد الجناحي، الكاتب علي محمد زيد، وكان منيف قادماً من دمشق التي قرر أن يعود اليها من باريس العام 1987. وفي ليالي عدن، كان علينا ان نسترجع أيام باريس بحضور مجموعة من الكتّاب والمثقفين اليمنيين.

والملاحظ أن منيف يحظى بشعبية لدى أهل اليمن، ليست هي ذاتها في أقطار عربية أخرى، والسبب في ذلك يعود إلى مشروعه الروائي الذي كرس جانباً منه لمنطقة الجزيرة العربية، ولو لم يقم منيف بهذه المهمة لما وصلت إلى القراء العرب صورة المنطقة قبل وبعد النفط الذي لعب الدور الأساس في التحول الذي شهده الخليج العربي بدءاً من الخمسينات، والذي تناوله منيف في خماسية “مدن الملح” ( التيه-الاخدود-تقاسيم الليل والنهار-المنبت-بادية الظلمات). وهناك ملاحظة غاية في الأهمية، وهي الربط لدى متابعي منيف بين سيرته الشخصية وأعماله، وهذا أمر لا يتكرر مع كثير من الكتّاب، ويذهب أحياناً إلى إسقاط بعض الشخصيات الروائية على سِيَر شخصيات معروفة في الحياة، وهذا له ما يبرره في كتابة منيف الذي جاء إلى الكتابة من باب السياسة. لذا، فإن بعض أبطال منيف، تلاحقه المصائر ذاتها، وتلتقي في المواقف ذاتها شخصيات تتقاطع مع سيرة الكاتب ذات التشابكات الغنية بين ولادته في الأردن لأب سعودي وأمّ عراقية ودراسته في العراق، ومن ثم طرده إلى مصر، ومن بعد الدراسة في يوغوسلافيا والزواج من سورية والحياة في دمشق ثم بغداد وباريس ودمشق. وتحيط بذلك تجربة الانتماء الى حزب البعث، والتي لم تدم طويلاً، لكنها وضعته في مركز الحدث، كونه تعرف على جيل من السياسيين العراقيين والسوريين هم محور تاريخ عقود عديدة، ما أغنى مخزونه وزاد من ذخيرته الشخصية التي بقيت ثرية ومتنوعة ومنعته من اجترار نفسه رغم مطولاته الروائية. ذلك أن خماسية “مدن الملح”، تبلغ حوالى 2500 صفحة، وتتناول قصة اكتشاف البترول في المنطقة، وجاءت في بناء ملحمي بانورامي يعد أوفى مرجع عن تاريخ هذه المنطقة من منظور نقدي، ما أثار ضده السلطات السعودية التي وضعته في اللائحة السوداء، ولم تسمح لأعماله بدخول السعودية، كما أسقطت عنه جواز السفر.

وأعطى منيف مساحة واسعة للنفط والصحراء في مشروعه الروائي، باعتبار أنهما لم يتم التطرق لهما في الرواية العربية، خصوصاً النفط الذي صاغ الحياة العربية اعتباراً من الخمسينيات وحتى اليوم. ولم يقتصر الأمر على “مدن الملح”، بل تناول الموضوع نفسه في ثلاث روايات: “الأشجار واغتيال مرزوق، سباق المسافات الطويلة، وعالم بلا خرائط” التي كتبها بالشراكة مع الكاتب الفلسطيني جبرا ابراهيم جبرا.

وحظي السجن باهتمام منيف، لكنه لم يحدد بلداً بعينه، بل هو في منطقة شرق المتوسط، وكان يريد من ذلك أن يقول أن ظروف هذه المنطقة متشابهة وكلها سجن، ولذا لا داعي لتسمية العراق وترك سوريا، وبالعكس. فهما يتشابهان، لكني في باريس عرفت من هو بطل رواية “الآن هنا.. شرق المتوسط مرة أخرى”، وهو الدكتور يوسف زعين، رئيس وزراء سوريا الأسبق. والتقيت زعين في زيارة له الى باريس صيف 1987، وكان ضيفا على الصديق الطبيب السوري صخر عشاوي، ابن شقيق وزير الداخلية في حكومة زعين محمد عيد عشاوي، والذي وضعه الأسد في السجن بمعية نور الدين الأتاسي وصلاح جديد. وزعين، أفرج عنه في حالة صحية ميؤوس منها، فخرج من السجن الأسدي العام 1981 بعدما أصيب بمرض عضال، وأظهرت التقارير أن موته مسألة أيّام. لكنّ الأطباء في بريطانيا والسويد استطاعوا معالجة السرطان. انتقل زعيّن بعد ذلك للإقامة في بودابست، وأمضى السنوات الأخيرة من حياته في السويد وعاش حتى العام 2016. وفي لقاءات باريس استعدت مع زعين تفاصيل كثيرة عن الجزيرة تتعلق بالنفط وسد الفرات، والذي كان له الفضل في هذين الانجازين، وهذه حكاية أخرى تستحق أن تروى لوحدها. وكان زعين قد حدثني بأنه يكتب مذكراته التي لم تصدر حتى الآن.

وحضرت جلسات عديدة بين منيف وزعين وفواز طرابلسي. وثمة سؤال ظل يلح عليّ حول المسافة بين منيف والشخصيات الروائية التي بناها. وكان يقول انه يترك هامشاً للشخصيات كي تتفاعل وتتحرك على نحو مستقل. ويفرّق بدقة بين الرواية والسيرة الذاتية. ويرى أن كل رواية تحمل قدراً من شخصية الكاتب، لكن الشخصيات تصبح في بعض الأحيان أقنعة للكاتب. إلا أن من يعتمد السيرة الذاتية لا يستطيع أن يكتب أكثر من رواية واحدة. ويمكن للسيرة ان تكون أحد مكونات الرواية وتلعب بشكل ايجابي. لكن إذا حصل نوع من المطابقة بين الكاتب وشخصية معينة، تحولت الرواية إلى سيرة.

منيف شديد الاعتداد بدور المثقف والثقافة في مواجهة الانهيار الذي عرفه العرب بسبب الهزائم. ويرى أن الثقافة هي آخر المعاقل التي يجب أن تشكل رافعة امام الهزائم والتراجعات، وعلى الكتّاب والمثقفين أن يلعبوا دوراً من أجل خلق جو نفسي لمواجهة الأزمات. وفي رأيه يقوم الأدب بدور مهم لإشاعة الأمل والتبشير بالمستقبل والفكر النهضوي الديموقراطي، شريطة أن يكون أدباً جيداً. ويرى أن مسؤولية المثقف كبيرة. في العالم المتقدم، المثقف جزء من المؤسسة، وبالتالي ليس هناك عبء يُلقى على عاتقه إلا بمقدار محدود، أما في مجتمع راكد يشكو هموماً كثيرة، فتقع على المثقف مسؤوليات إضافية. وردد في أحاديث صحافية أن مسؤولية المثقفين العرب استثنائية “لأننا جيل انتقالي علينا أن ننقل خلاصة للأجيال القادمة ونضع لها صيغة جديدة”. لكن صورة المثقف، في أكثر من رواية، مهزوزة، وهو يسقط في نهاية المطاف، وتفسير منيف أن هذا المثقف هو الحالم الواهم الذي لا صِلة له بالواقع. كان لديه حلم بتغيير الواقع بسرعة من دون معرفة بالآليات. وبالتالي فإن المثقف المهزوم هو الذي لا يدرك الواقع. المثقف المملوء بالرغبات والأوهام.

(المدن)