أسئلة كثيرة تطرح نفسها عندما نتأمل حال الثقافة السورية في العام الذي مضى. لا تتجه الأسئلة إلى داخل البلد فقط، بل تنتقل إلى بلدان أخرى توزع فيها السوريون، الذين باتوا يقفون في الفضاءات الجديدة أمام مساحات من الحرية المفتوحة بلا حدود أو قيود. وأول ما يتبادر إلى الأذهان في مناسبة من هذا النوع، تحصل خلالها عملية جرد سنوي، هو السؤال حول ما انتجه الروائيون والشعراء والفنانون التشكيليون والسينمائيون والمسرحيون والموسيقيون خلال هذا العام، من نصوص ولوحات، ومسرحيات، وأفلام، وأغان..إلخ.
قد يكون هناك الكثير من الإنتاج في الداخل والخارج، لكنه لم يتم كما هو في الأحوال العادية. ومن دون شك لم يتوقف الروائيون والشعراء والمسرحيون عن الكتابة، وهناك روايات ودواوين شعر صدرت هذا العام، ومنها لفواز حداد، سليم بركات، خالد خليفة، نوري الجراح، فرج بيرقدار، خطيب بدلة، خليل النعيمي، حسام الدين محمد، عزيز تبسي، كما لم يتوقف التشكيليون عن العمل، وهناك معارض كثيرة لرسامين لقيت استقبالا إعلاميا طيبا، مثل يوسف عبد لكي وبطرس المعري، ولا يزال الموسيقي يلحن ويعزف ويغني ومثال ذلك كثيرون، سميح شقير، بشار زرقان، وثمة سينمائيون يعملون على نفس الوتيرة من الدأب أو أكثر، كما هو حال كل من هالة العبد الله وسؤدد كنعان.
هذا امر جيد، يبعث على الفرح، ويرفع المعنويات في ظل حالة الانهيار التي تعيشها سوريا كبلد، وهو يعبر عن حيوية، ويدلل على صمود الثقافة بوجه الخراب، وعلى أنها الجدار الوحيد الباقي الذي يتكئ عليه السوريون، ويطمئنون على أنه العمود الذي يتمسكون به على طريق مقاومة تمزيق بلدهم وشطبهم من الخارطة، ولكن ذلك لا يكفي، وهناك شيء أساسي ناقص على المثقفين قبل غيرهم أن يبحثوا عنه من أجل التسلح بهذا الأمل. وبالتالي فإن أي جردة سنوية لن تكون مؤشرا إلى وضع ثقافي، ولن تجدي في أي شأن، وقد تصلح فقط كمعلومات إحصائية لا أكثر.
قد يكون السؤال في غير محله، أو لم يحن الوقت لطرحه أمام وضع استثنائي، لم يعد للثقافة فيه أي مكان أو قيمة. وربما نظر البعض إلى هذا التمرين على أنه من قبيل الترف الذي يقفز على الواقع الصعب، الذي باتت فيه الثقافة آخر ما يفكر فيه السوريون، وهم لا يزالون يهيمون على وجوههم بين الجغرافيات، يبحثون عن مساحة يقفون عليها، كي يستردوا أنفاسهم قبل أن يفكروا بالرواية، والشعر، والأغاني، والسينما. ومهما يكن من أمر فإن هناك أكثر من ملاحظة يمكن التوقف أمامها. أولها هي، إن الإنتاج لم يعد بنفس الزخم الذي عرفه في الأعوام السابقة، وهذا أمر طبيعي في ظل الأوضاع الاستثنائية، ومن غير المستغرب أن يستمر في التراجع عموما، وخاصة ذلك الذي يحتاج إلى رعاية خاصة وتمويل مثل النشر ودور السينما وصالات عرض الفنون التشكيلية واستقبال الحفلات الغنائية والموسيقية. والملاحظة الثانية تتعلق بالاستقرار، الذي تنمو الثقافة وتزدهر في ظله، وهذا عامل لا يتوافر للسوريين في الداخل والخارج، وما هو مؤكد هو أن الجميع يعملون في ظل أوضاع مؤقتة، وباستثناء الذين لجأوا إلى بلدان خارج جوار سوريا، فإن الاوضاع التي يعيشها الكتاب والفنانون السوريون داخل البلد والجوار، لا توفر ما يساعد على الإنتاج، بل على العكس.
ليس الأمر المهم هو تعداد الأعمال التي ولدت في هذا العام، ولا القاء نظرة نقدية تفحص أهميتها وتحدد مستواها، بمقدر ما يطمح المرء لإثارة الأسئلة حول وعينا الثقافي، وتشخيص حال الثقافة السورية بين عام وآخر، وما أصابها من جراء المأساة التي ضربت البلد ككل، خلال الثورة السورية، التي حولها النظام إلى حرب طويلة الأمد، شاركه فيها أمراء الحرب الذين تاجروا بالمأساة والثقافة أيضا، والدليل على ذلك ما تعرض له التراث الأثري السوري من تخريب وسرقة وتهريب.
ومن بين الأسباب التي تبرر طرح الأسئلة هو الشتات، الذي يشهده الحال الثقافي السوري، والذي لا يجد منابر أو محطات خاصة به، يطل من خلالها أو يتقاطع فيها، ويوفر منصة مستقلة للسوريين كي يتفاعلوا معه. وإذا تأملنا المشهد نجد أن هناك نتاجا كبيرا يتوزع حسب ما هو متاح. ولكنه لا يجد الأرضية الخاصة به التي يقف عليها، ولذلك هو يولد ويعيش في جزر منعزلة، وليس لدى أغلبية السوريين الطرق والوسائل المناسبة للوصول إليه والتفاعل معه.
ليس الهدف إيجاد أجوبة فورية على الأسئلة، لأن المسألة تتطلب تفكيرا ومراجعة عميقين، من أجل تشخيص الوضع قبل كل شيء، عدا عن أنه من المؤكد أنه ليس هناك أجوبة جاهزة، وقد لا تتوافر في وقت قريب، وربما لا تكون هناك ضرورة لها، فالثقافة ليست كالاقتصاد، يمكن العمل عليها وفق منطق ومعادلات رياضية باردة. وقد لا تكون هذه هي الأسئلة التي لها الأولوية، وهناك غيرها ذات أسبقية وأكثر إلحاحا، ومن أجل توضيح هذه الاشكاليات، تبرز الحاجة إلى جهد جماعي ومشاركة في التفكير والتأمل، ولن يكون هناك أي شعور بالأمل، قبل أن تذهب النظرة العامة إلى حال الثقافة السورية في الاتجاه ذاته.
*المدن