يقول غابرييل غارسيا ماركيز إن الرواية الناجحة هي التي تدعوك إلى إعادة القراءة بعد أن تنتهي من القراءة الأولى. ويذكر في إحدى شهاداته عن رواية “مئة عام من العزلة” التي حاز بفضلها جائزة نوبل للعام 1982، أنه تعذّب في كتابتها، لكن اللحظة الصعبة هي التقاط الجملة الأولى من الرواية التي يبدأ منها الدخول في العمل. ويروي حادثة على صلة بذلك، فيقول إنه كان يقيم في المكسيك آنذاك، وقبل أن تولد الرواية، أحسَّ بها وشعر بحالة من المخاض استمرت خمسة أعوام. وذات يوم قرر أن يذهب مع زوجته مرسيدس وابنه، في رحلة بالسيارة خارج العاصمة المكسيكية، وشاءت الصدفة أن تتعطل السيارة في الطريق، وبينما هو يعالجها ويحاول إصلاحها، وردته الجملة الأولى التي افتتح بها الرواية “بعد سنوات عديدة، وأمام فصيل الإعدام رمياً بالرصاص، يتذكر العقيد أوريليانو بوينديا، ابن خوسيه أركاديو، بعد ظهر ذلك اليوم البعيد عندما اصطحبه والده لاكتشاف الثلج”. ومثل العالم الفلكي غاليلي، قفز قائلاً “وجدتها”، وبدلاً من أن يكمل الرحلة عاد أدراجه إلى البيت وشرع في الكتابة.
لا يمكن أن نعد شهادة ماركيز معياراً وحيداً ونهائياً على نجاح الرواية من عدمه، لكن يمكن الأخذ بما يمكن اعتباره الومضة الأولى، التي تلمع أمام القارئ فتخطف بصره وتقوده نحو العمل، وتشده إليه، وهي بالطبع لا يمكن اختصارها بالجملة الأولى، لكنها حتماً تقع في الصفحات الأولى من العمل الروائي، فإن لم تكن في الصفحات العشر الأولى، فهي في العشرين بالتأكيد. هنا تتجسد براعة الروائي في رمي الطُّعم للقارئ، كي يدخل عالم العمل الروائي ويبقى في داخله حتى يصل إلى عقدة الرواية. وما يسميه النقد براعة الكاتب، هو مدى تمكنه من الصنعة الروائية، التي تلعب المتعة دوراً محورياً فيها.
ثمة أعمال روائية مكتوبة بطريقة متقنة تعبّر عن حرفية عالية، لكنها لم تصل القارئ، ورغم أن الكاتب بارع فقد يفشل في شد انتباه القراء، والسبب هو أن الخيط الأساسي للرواية أفلت من يده. ويمكن هنا الاستئناس بمثالين حيين يضربهما الكاتب الأميركي صاحب رواية “غاتسبي العظيم”، سكوت فيتزجيرالد، في رسائله التي نشرها الناقد الأميركي لاري و.فيليبس عن “صنعة الكتابة”. الأول يتعلق بفشل بعض أعمال الكاتب وليم سارويان، الذي عرف النجاح بقوة، وسبب الفشل هو أنه ركن إلى شهرته فلم يشتغل بعض أعماله جيداً ليخلصها من الزوائد. والثاني هو رواية “الشيخ والبحر” التي قادت إرنست همنغواي إلى جائزة نوبل للعام 1954، ويقول إنه كان له الفضل في نُصح صديقه همنغواي بحذف أحد فصول الرواية الذي كان مليئاً بالحشو والتكرار، وأجمع النقاد على أنه لو احتفظ الكاتب بذلك الفصل لكان أساء إلى الرواية.
الرواية العربية حققت منجزاً كبيراً من المرحلة الكلاسيكية وحتى اليوم، وهناك أعمال وصلت للعالمية بجدارة. وشهدت في العقد الأخير انفجاراً كبيراً في الإنتاج يطغى عليه التجريب بشكل كبير، وهذا ما نلاحظه في الأعمال المتسابقة إلى الجوائز. وتتكرر المشكلة على نحو صارخ مع روايات اللائحة القصيرة لجائزة البوكر العربية. وفي هذا العام، كما في الأعوام الماضية، واجهتني صعوبة وأنا أقرأ بعض الروايات المرشحة للفوز. وأجد من غير المناسب تسمية بعض الأعمال، قبل إعلان الجوائز كي لا يتم تفسير الأمر على غير النحو الذي أقصده من هذا المقال. ولتوضيح رأيي أكثر، أشير هنا إلى بضع ملاحظات. الأولى هي، عدم تحرير العمل الروائي من قبل دار النشر. وهذه ظاهرة عامة لا تختص بها روايات جائزة البوكر وحدها. ومصدرها الأساس هو أن غالبية دور النشر العربية لا تعترف بوظيفة المحرر الأدبي، وتكتفي بقراءة عامة للعمل تركز بصورة أساسية على المضمون السياسي والاجتماعي والتدقيق اللغوي، ولا تراعي في ذلك بناء العمل. ويكفيها أن يتمتع بالمتانة والسلاسة السردية. والأمر الذي يغيب هنا هو الحشو الذي لا داعي له حتى بات العثور على رواية من 200 صفحة أمراً صعب المنال، وصار الحد الأدنى هو 300 صفحة. وفي أغلب الأحيان هناك 100 صفحة زائدة عن اللزوم، وهنا يأتي دور المحرر الأدبي الذي يتولى تخليص الرواية من العيوب. لأن الرواية الناجحة مثل السمفونية الموسيقية التي تبدو مكتملة عند التوقف عند كل علامة من علاماتها. وحين نتحدث عن دور المحرر فإننا نعني الحِرَفية، التي هي مقياس نجاح العمل، ولا يمكن الحديث عن رواية جيدة من دون اتقان للكتابة. وهذا لا يعني أن على الكتّاب جميعاً الخضوع لهذه المسطرة، فهناك من يمتلك أدواته الخاصة ولا يحتاج إلى تدخل المحرر.
الملاحظة الثانية تتعلق بضعف بناء الرواية أو الأسلوب، وهذا عيب بات شائعاً لدى النسبة الأكبر من الأجيال الروائية الجديدة، التي تكتفي بجمع جُملة من الحكايات بين دفتي كتاب، وتجد من ينشره مقابل مبلغ مالي مسبق وتضع عليه ماركة رواية. ويشكل الأسلوب خط الفصل، بين العمل الروائي الناجح، وبين العمل الذي يصبح طي النسيان خلال وقت قصير. ويبدو الأمر هنا شبيهاً بالزراعة، أي أن يحرث الكاتب حديقته الخاصة بطريقة تميزه عن الآخرين.
العالم الروائي ليس فقط ما يشاهده المرء في البيئة المحيطة من أحداث ويسجله على الورق بأسلوب سردي متماسك. وما ينقص هنا هو الإضافة الذاتية، وهذه مسألة معقدة لا يمكن تقديم وصفة خاصة بها عن بناء الشخصيات في الرواية التي تبدأ من خلال التنقيب في الذات. كان صعباً على ماركيز أن يروي في “مئة عام من العزلة” سيرة محرر أميركا اللاتينية، العقيد سيمون بوليفار، لو لم يزرع فيه جده العجوز، الذي لازمه أعواماً طويلة، حكاية ذلك البطل الوطني الذي لامس الأسطورة.
أما الملاحظة الثالثة، فتتعلق بالأحداث، وهي عموماً جوهر الرواية. وهناك أعمال تبحث عن ذريعة مستميتة لتروي قصصاً تراجيدية أو عواطف شخصية، لكنها تنتهي على نحو شاحب، لأنها لا تمتلك الأدوات اللازمة لرفع سوية هذه القصص إلى عمل أدبي يترك أثراً خاصاً لدى القارئ. وهنا تحضر المقارنة بين أعمال روائيَين فرنسيَين كبيرَين. الأول هو أميل زولا، والثاني غوستاف لوبير. تروي أعمال زولا أحداثاً تحدّث عنها غيره، بينما يتكلم فلوبير عما رآه هو وحده، لذلك تصبح “مدام بوفاري” رواية خالدة.
إن ما يميز ويصنع الفارق الكبير بين كاتبَين، هو الشخصيات والتقنيات والملاحظات، فالرواية التي تستحق الاعجاب هي التي تقدم أشياء جدية وحديثة كلياً، ولذلك يبقى تأثير رواية “الأخوة كرامازوف” عميقاً، ويضرب مثالاً حياً على الأثر الذي تتركه الروايات.
أصبحت الرواية موضة عربية شائعة منذ كثُرت الجوائز، وبات الكثيرون يجربون حظوظهم، حتى من بين الشعراء الذين لهم حضور متميز، لكن غالبية الأعمال لا تتحدث عن جديد، بل تريد أن تتكلم فقط. وهذا لا يُعدّ كارثة، لكنه لا يستحق التشجيع قبل أن يحقق النجاح.
*المدن